قالت "وهل كانت هناك امرأة أكثر حكيًا من شهرزاد؟"، ثم أردفت مبتسمة "أنقذها الحكي!"، فعقب صاحبنا "والله ما أظُنها فعلت ذلك صُدفة؟"، فقطبت عينيها وهزت رأسها متسائلة، فأكمل قائلاً؛ دخلت شهرزاد على شهريار دخول العارف العليم، فإلى جانب سيرته كملك أخبرها أبوها – وزير الملك - عن تفاصيل حياته؛ عفوه وغضبه، ضحكه وصخبه، ضيقه وسروره، وعرفت كذلك بطشه بالنساء بعد اكتشافه خيانة زوجته، فصار القتل مصير كل عروس تزف إليه، عُرس في المساء وقتل في الصباح.
أحكمت خطتها وعلمت أن فشلها يعني القضاء على فتيات المملكة، واحدة بعد الأخرى، وأن في نجاحها إنقاذ للمملكة وبرهان على قوة كيد المرأة.
استفادت منسعة اطلاعها على الآداب وقدرتها على الحكي، فلما كانت ليلتها الأولى مع شهريار بادرته بكلمات سحرية "بلغني أيها الملك السعيد"، ثم تركت سرسوب حكيها يتدفق هادئًا من دون إفراط، تُطَعِم فُسيفساء حكاياتها بما يهيج الشوق للمعرفة، ويثير الشغف في قلب المستمع، وما المستمع بالشخص البسيط، إنه الملك شهريار، راهنت على شغفه بالمجهول وألقت أول بذورهافي قلبه، تعرف جيدًا متى تتكلم، ومتى تتوقف. جعلت من خيط الليل الأول نقطة بداية، ومن خيط النهار الأول خط نهاية، والزمن دوار، فلا الليل ينتهي، ولا الصباح يفرغ، مسبحة تتوالى حباتها، والملك غافل عن الحيلة.
فكانت إذا ما انتهت ليلة، أمهلها إلى الليلة التالية، ثم يقصدا غرفتهما ليناما، وشهريار الذي ظن أنه ملَكَكل شيء حَوَلَهُ شغفُ المعرفة إلى مملوك، والعروس التي دخلت ليلتها الأولى والجميع يعلم أنها ستقتل في الصباح صار لها ألف ليلة وليلة أنجبت فيها ثلاثة أولاد ولم يصبها مكره.
وشهريار مقتنع بما تحكيه الخيالي قبل الواقعي، وهنا قد يسأل سائل، ألا ترى في ذلك مبالغة من المؤلف الـمُختلف على اسمه حتى اليوم؟، والحقيقة أن ليس في الأمر أية مبالغة، بل لعل المؤلف سبقنا بفكره، أليست هناك أفلامًا سينمائية اعتمدت على الخيال وحققت رواجًا عالميًا، فالرجل العنكبوت، والعودة إلى المستقبل، والأسد الملك، والحديقة الجوراسية، وتيرميناتور، ليست سوى ضرب خيال، ومع هذا فلا يملك المشاهد فكاكًا متى جلس وشاهد وسمع، ينفعل متى انفعل أبطالها، ويبتسم ويصفق متى انتصروا، ويحزن متى كُسروا.
الشغف والفضول رغبتان إنسانيتان استهدفتهما شهرزاد في شخص شهريار، وأخضعتهما لسلطانها، ففقد الملك سلطانه.
ولعلي لا أبالغ سيدي القارئ، إن زدت على ذلك بأن شهرزاد قد قبلت الزواج من شهريار وليس في نيتها أن تنجو بنفسها فقط، ولا أن تُنقذ بنات المملكة اللواتي قَتَلَ منهن الملك عددًا كبيرًا، فأغلب ظني أنها أرادت أن تقدم لبنات جنسها مثالاً عمليًا لسلاح تجنب الملل، فالملك إن مَلَّ ليلة، قتلها في الصباح.
كانت أقرب للاعبة سيرك تسير على حبل رفيع من ارتفاع شاهق، وبينما كان أهل المملكة يتابعون سيرها الواثق ذاهلين من هدوئها، مذعورين إن وقعت، ليس لأنها ستقتل فقط في الصباح، ولكن لأن الدائرة ستعود للدوران مرة أخرى، ويصبح عليهم أن يقدموا فتاة كل ليلة.
وكذلك أيضًا، أرادت شهرزاد أن تُثبت خطأ ما توارثته بنات حواء جيلاً بعد جيل، من أن "أقصر طريق إلى قلب الرجل معدته"، ولعلها أيضًا كانت كلما سمعت بها لوت شفتيها امتعاضًا وإنكارًا، فالرجل حين يجوع يأكل دون تدقيق، فإذاشبع نسي الطعام ومن أعده، فعدلت المقولة إلى "أقصر طريق إلى قلب الرجل أذنه" وراهنت عليها مطمئنة إلىسحر حديثها، ولم لا يا سيدتي، وقد قال بشار بن برد، "يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة/ والأذن تعشق قبل العين أحيانا".
فضلاً عن ذلك، فقد كان تغيير الخصال بالحكي آخر ما راهنت عليه شهرزاد، أنست شهريار عادته السيئة وحولته إلى إنسان طبيعي يعرف الخير والشر.
كان هذا يا سيدتي سر أسرار شهرزاد، التي إن أردت اختزاله في كلمة كانت "الحكي"!
-----------------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط