06 - 06 - 2025

رقصة الموت بين الديمقراطية والديكتاتورية

رقصة الموت بين الديمقراطية والديكتاتورية

إن اللحظة الفاصلة في حياة الشعوب، عندما تواجه إرادة الشعب أسوار الثكنات العسكرية في قاعات المفاوضات المغلقة لتقرير المصير، فتُختبر إرادة الشعوب في أخطر امتحان وجودي، حيث تُجرى مفاوضات انتقال السلطة، والاختيار بين ديمقراطية مشوهة أو فوضى دموية.وهنا، بين وثائق التنازلات وصيغ التسويات وبين صمت المدنيين وصليل سيوف العسكريين، تُولد الديمقراطيات مع شروط إعدامها، تُولد لحظة وجودية تُكشَف فيها الأقنعة، فهل تُباع العدالة ثمنًا للاستقرار؟ وهل تتحول الديمقراطية إلى ديكتاتورية ترتدي بدلة مدنية؟ 

خلال هذا التحقيق، يُكشف النقاب عن "مسرح الجريمة" في الأرجنتين وتشيلي وباكستان، حيث فضح الأساليب الخفية التي يحوِّل بها العسكريون الديمقراطيات إلى دُمى متحركة، كما وثَّقنا كيف تتحول التنازلات إلى قيود أبدية، فننفذ إلى قلب "مختبرات التحول الديمقراطي" في الأرجنتين، عندما حوَّلت هزيمة عسكرية؛ الجيشَ من "حارس الأمة" إلى "رمز العار"، وتشيلي حيث خرج الديكتاتور من الباب، وعاد من النافذة كعضو برلمان ذو حصانة أبدية.. ثم إلى باكستان، الدولة التي يمتلك جيشُها 40% من اقتصادها.. ويُسقط حكوماتها بجرة قلم.

والمفارقة الدامية هنا هي الاختيار بين الاستقرار أو العدالة؟ وعبر استخدام أدوات تحليلية حادة، نكشف التناقض الذي حيَّر فلاسفة السياسة؛ فحين تكون العدالة هي وجهة الشعب، فمعضلة المنطق الأمني خلال التفاوض أنه لا استقرار دون عفو عما سبق، وهنا يكون التصادم مع مبدأ "لا ديموقراطية بمجرمين"، بينما عندما يكون اختيار الشعب هو الاستقرار، فالمعضلة هي ذلك الثمن الخفي، حيث قوانين عفو تُخلد الإفلات، وهنا تكون الديمقراطية معطوبة.

يرى صامويل هنتنغتون أن الجيش "حارس الحداثة"، لكنه يذكرنا بأنه يتعين علينا الانتباه أن الحراس قد يسرقون القصر، كما أصاب جويلرمو أودونيل كبد الحقيقة حين كشف أن "الديمقراطيات المُفَوَّضة" (DelegativeDemocracies) ليست سوى ديكتاتوريات بأقنعة حريرية، وتلك النبوءات التي تحققت بدم الشعوب، هي كابوس حقيقي يُطارد الشعوب في اليقظة، عبر كيانات سرطانية تختطف الدولة من الداخل، متحصنين قضائيًا فوق القانون، ولهم ميزانيات موازية تمول شبكات هيمنتهم، وقرارات أمنية تُتخذ في غرف عمليات الجيش.. لا في قصر الرئاسة.. إنه كابوس الجيوب السلطوية.

لماذا هذا التحقيق القاتل؟ لأننا نكشف اللعبة الكبرى، كيف يحوِّل العسكريون دورهم الأمني إلى هيمنة، ولماذا تتكرر الخدعة التاريخية وتَظل الديمقراطيات "رهائن" في قصور العسكريين؟ وما هو الحل عندما يكون الاختيار مستحيلا؛ هل نُضحِّي بالعدالة لننقذ الأوطان، أم نضحي بالأوطان لننقذ العدالة؟ هذه ليست نظريات أكاديمية، إنها قصص دمٍ ودموعٍ، تثبت أن "المفاوضات مع العسكريين" قد تكون أقصر طريق إلى الجحيم. 

الإطار النظري: معركة العمالقة.. كيف تحوّلت نظريات أكاديمية إلى كوابيس على أرض الواقع!

في رحاب جامعة هارفارد عام 1957، أطلق صامويل هنتنجتون نظريته التي ستُصبح نبوءة بمثابة كابوس للشعوب؛ تصوير الجيش كحارس للدولة الحديثة في المجتمعات الهشة، وللتحول الديموقراطي اقترح أن الانتقال يتطلب "مفاوضات ضامنة" (Guarantee Pacts) – صفقات شيطانية تمنح العسكريين حصانة قضائية وسيطرة على الأمن القومي مقابل انسحاب شكلي، وكانت المفاضلة مروعة، حيث تقديم الاستقرار المؤسسي على حساب العدالة الانتقالية، وهذه النظرية تحولت إلى وصفة جاهزة لولادة ديكتاتوريات جديدة بملابس مدنية، كما حدث في تشيلي عندما حصل بينوشيه على حصانة أبدية. 

وبعد ثلاثة عقود، أطلق جويلرمو أودونيل العالم الأكاديمي صرخة مدوية بنظرية نقيضة: حذَّر فيها من "الديمقراطيات المفوضة"، تلك الأنظمة الزائفة التي تُمنح فيها السلطة للمدنيين شَرط حماية امتيازات العسكريين، وكشف كيف يخلق التفاوض "مناطق معزولة " (Enclaves)؛ جيوباً سرطانية داخل جسد الدولة، مثل القضاء الباكستاني الذي يشرعن الانقلابات، أو الاقتصاد الموازي للجيش البرازيلي، ولقد تحققت نبوءته في البرازيل 1985، حيث ظل العسكريون يتحكمون في أكثر من 70% من القرارات السيادية. وها هو التناقض الوجودي الذي حيَّر الفلاسفة، حول المعضلة الدموية التي تمزق الأمم، حيث المفاضلة التراجيدية بين الزمنين، الزمن الآني (الاستقرار) والزمن التاريخي (العدالة)، فتضحي الشعوب بالمحاسبة لشراء الاستقرار، وتؤجل محاكمة المجرمين لتجنب حرب أهلية في الزمن الآني، بينما في الزمن التاريخي، يتراكم الغضب الجمعي وتولد ديمقراطية معطوبة، وهذه القنبلة الموقوتة لابد لها أن تنفجر، كما حدث في تشيلي عام 2019، حين أطاحت الاحتجاجات بتراث بينوشيه، والقاعدة الصادمة هنا: "كل تنازل للعسكريين اليوم هو دين دموي تدفعه الأجيال القادمة غداً.

لكن الصورة لا تكتمل غالباً إلا بوجه قبيح آخر؛ هو التدخل الخارجي، تلك الأيادي الخفية التي تغير قواعد اللعبة، فعندما تدخل القوى العظمى على خط المفاوضات، تتحول السيادة إلى سلعة في سوق النخاسة، وتتجلى نظرية "المساومة غيرالمتماثلة " (Asymmetric Bargaining) بوحشية في تحالف واشنطن مع الجيش الباكستاني في الثمانينيات، حيث 5.2 مليار دولار أمريكي مقابل تحويل أفغانستان إلى ساحة حرب، والنتيجة؟ تعميق هيمنة العسكريين وإفراغ التفاوض من مضمونه

وهذه الثنائية النظرية تحولت إلى كوابيس واقعية ولم تعد حبراً على ورق، فنظرية هنتنجتون أنتجت ديكتاتوريات مزمنة تتخفى وراء شعار "حماية الحداثة"، بينما كشفت نظرية أودونيل أن "الانتقالات السلمية" غالباً ما تكون اغتيالاً ممنهجًا للسيادة الشعبية، والدرس الأقسى؟ "الجيوب السلطوية" التي حذر منها أودونيل، حيث تتحول إلى سرطانات تلتهم الدول من الداخل، بينما "المفاوضات الضامنة" التي روَّج لها هنتنغتون تصبح إعلان وفاة للعدالة، والتاريخ يصرخ: "النظريات التي تقدم العسكريين كحلّ، تصنع منهم سجّاني الشعوب!".


دراسات الحالة: سرد مآسي تلاعب العسكريين بتاريخ الشعوب

-  الأرجنتين؛ عندما حوَّلت الهزيمة العسكرية للأرجنتين دموع الأمهات إلى ثورة في ربيع 1982، وغرقت السفن الأرجنتينية في مياه فوكلاند الباردة، لم تكن هذه الهزيمة مجرد خسارة حرب، بل "قطيعة معرفية" في علاقة الشعب بجيشه، فتحول "حارس الأمة" إلى رمز للإذلال الوطني، وبحلول 1983، أجبر هذا الانهيار الوجودي العسكريين على تسليم السلطة للرئيس ألفونسين في صفقة شيطانية سُميت "الديمقراطية تحت السيف" – حيث ظلت مسدسات الجنرالات مصوبة إلى صدور المدنيين. فبدأت المحاكمات التاريخية لمجرمي "الحرب القذرة"، لكن تمردات العسكريين (مثل تمرد "كارابينتادا" الدموي) أجبرت ألفونسين على توقيع قوانين العفو، فكانت "المناطق المنكولوجية" – تلك الجيوب السرطانية التي وصفها أودونيل – تبتلع العدالة باسم الاستقرار، وهنا ظهرت "أمهات ميدان مايو" كقوة وجودية: حولن صور أبنائهن المختفين إلى أسلحة أخلاقية، مجسدات مقولة هابرماس عن "الفعل التواصلي".والمنعطف جاء عام 2003، حين مزق الرئيس كيرشنر قوانين العفو، حيث كان "ميدان مايو" قد تحول إلى "فضاء عمومي" يصرخ بذاكرة الجرائم، بينما حوَّل متحف ESMA السجون إلى نصب للعار، هذه السيرورة أثبتت مقولة جاك دريدا: "العدالة مستحيلة.. لكن النضال يخلق المستحيل". 

- تشيلي؛ وحكاية الديكتاتور الذي حكم من قبره! فعندما غادر بينوشيه القصر الرئاسي عام 1990، ظن التشيليون أن الكابوس انتهى، لكنه كان قد نسج خيوطاً خفية؛ فاحتفظ بينوشيه بمقعد دائم في مجلس الشيوخ وقيادة الجيش وامتيازات وحصانات دستور 1980، وأصبحت تشيلي "ديمقراطية مفوضة" – كما وصفها أودونيل – حيث يرقص المدنيون على إيقاع الجنرالات، فتحول البرلمان إلى مسرح هزلي؛ بينوشيه يصوت على قوانين تمنحه حصانة، بينما الضحايا ينتظرون العدالة، واستمرت هذه الكوميديا السوداء 15 عاماً، حتى إصلاحات 2005، ولكن إرث الديكتاتور ظل كالقفص الحديدي يخنق الديمقراطية، كما رأى عالم الاجتماع ألن أنجل: "الانتقال التشيلي كان تغييراً بلا تحول".

 - البرازيل؛ الديمقراطية التي وُلدت ميتة، ففي عام 1985، قدمت البرازيل للعالم أغرب "انتقال ديمقراطي"؛ فالعسكريون ينسحبون من السلطة، لكنهم يسيطرون على "وزارة الدفاع" و"المجلس الاستشاري للأمن القومي"، فكان الأمر مجرد "إعادة ترتيب نخبوي" – كما حلل فينسيزيولا –حيث حافظ الجنرالات على نفوذهم عبر شبكات فساد موروثة من الحقبة الديكتاتورية، وخطابات تخويف من "الخطر الاشتراكي"، وقوانين عفو تمنحهم حصانة أبدية، فأصبحت الديمقراطية البرازيلية "جثة تتحرك" – ديمقراطية في الظل، وديكتاتورية في الجوهر.

-  باكستان؛ الجيش الذي يمتلك دولة! فبينما ينشغل العالم بالانقلابات الباكستانية، تكشف التحليلات الجينالوجية حقيقة مرعبة، وهي أن الجيش الباكستاني ليس مؤسسة دفاعية، بل "دولة موازية" بمواصفات ابن خلدون؛ "عصبية قبلية" انغلاق عائلي يتحكم فيه عشرة عائلات، ومُلك اقتصادي "فوجي فاوندايشن" يسيطر على 40% من الاقتصاد، واستبداد ممنهج حيث 70% من القرارات السيادية تُتخذ في "المقر العام للجيش"، والأخطر هو "بيوبوليتيك القضاء"، حيث يُشرِّع القضاة الانقلابات عبر "نظرية الضرورة"، ثم يسقطون الحكومات بالمادة 184 (3)، فالانتخابات هنا مجرد "طقس دوري" – كما وصف ليفي شتراوس – بينما الحقيقة تجسدها مقولة عالم الاجتماع الباكستاني أكمل أحمد: "باكستان ليست دولة تملك جيشاً.. بل جيش يملك دولة مؤقتة اسمها باكستان".

هذه النماذج الأربعة تثبت أن "المناطق المنكولوجية" (الجيوب السلطوية) ليست شذوذاً، بل نظاماً عالمياً، ودروس دم كُتبت بمداد النظرية، فالأرجنتين كسرت القيد بثورة ذاكرة جماعية، بينما ظلت باكستان سجينة "الدولة العميقة"، والسؤال المصيري الذي يطرحه ناعوم تشومسكي: "كم من الوجوه يجب أن تتغير حتى لا يظل الوحش هو نفسه؟"...

معادلة الدم.. عندما تبيع الشعوب عدالتها مقابل وهم الاستقرار

الزمن القصير (×) الزمن الطويل.. معضلة خلدونية تُطحن الشعوب في قاعات المفاوضات المغلقة، وتُختزل مأساة التحول الديمقراطي في مفارقة وجودية؛ فكيف توازن بين دماء الضحايا اليوم وبين مخاوف الحرب الأهلية غداً؟ هذه المفاضلة التراجيدية – كما سماها الفلاسفة – تظهر بوحشية في نموذجين متقابلين:

-  الأرجنتين: انتصار الذاكرة على النسيان؛ فبعد عشرين عاماً من الانتظار المرير، انتزعت "أمهات ميدان مايو" العدالة في 2003، كنَّ "جيش الظل" الذي حوَّل صور أبنائهن المختفين إلى أسلحة أخلاقية، مجسدات مقولة بول ريكور عن "الذاكرة كفعل مقاومة"، وأثبتن أن المجتمع المدني قد يكون الضامن الأخير للعدالة عندما تخون النخب السياسية

 - تشيلي: الكارثة التي أنتجها "التسويف"، فدفعت ثمن "العدالة المعلقة" (Suspended Justice) انفجاراً اجتماعياً مدوياً، حين وصف غاريتون النظام التشيلي بأنه "طقس كهنوتي: يُصوِّت الشعب بينما يُقدِّس الجيش إفلاته"، فكان ينبئ بانفجار 2019، وهنا تحول تأجيل المحاسبة إلى قنبلة موقوتة انفجرت بوجه الأجيال اللاحقة.

الإمبراطورية الاقتصادية للعسكريين: عندما يتحول الجيش إلى "مافيا دولة"!

في باكستان، تكشف مؤسسة الجندي "فوجي فاوندايشن" عن أبشع وجوه الهيمنة: مؤسسة تسيطر على 40% من القطاع العقاري، وتحوِّل الاقتصاد إلى أداة بيوبوليتيكية – حسب تحليل فوكو – حيث تمويل شبكات الولاء عبر رأس المال الرمزي (بمعنى بورديو)، وخنق أي صوت معارض عبر "سلاح الجوع" – كما وصفت الباحثة الباكستانية عائشة سيد ذلك بقولها: "من يُحاسِب الجيش يُحاسَب على الجوع". والمفارقة الماركسية الصادمة؛ تحول الجيش الباكستاني إلى طبقة مسيطرة، تجمع بين وسائل الإنتاج (سيطرة على 12% من الأراضي الزراعية)، ووسائل القمع (احتكار الأمن)، فأصبحت الثكنات العسكرية قلاع رأسمالية تحرس امتيازاتها بالدم. 

وفي الثمانينيات، شهدت باكستان إحدى أبشع عمليات الاستعمار الجديد كما حللها إدوارد سعيد، تحت غطاء الحرب على السوفييت، وتجسدت لعبة الأمم في كيف تُباع سيادة الشعوب في "سوق النخاسة"؟ حيث نسقت واشنطن مع الجنرال ضياء الحق صفقة شيطانية، قيمتها 5.2 مليار دولار أمريكي بالإضافة إلى ترسانة أسلحة، مقابل تحويل أفغانستان إلى ساحة حرب، وتكريس "ديمقراطية الوصاية".  

هنا تحول التفاوض إلى "مسرحية هيمنة" (Hegemonic Performance)، فكان المُفاوض المحلي مجرد وكيل للإمبراطورية، وأصبحت السيادة الوطنية سلعة قابلة للتفاوض، والشعوب هي وقود في آلة الجيوبوليتيك.

الخاتمة،

المأزق الوجودي.. لماذا تشبه الديمقراطيات الهشة "بيوت أشباح"؟

هذه النماذج تثبت أن المفاضلة التراجيدية ليست خياراً حراً، بل محصلة لمعادلة ثلاثية الأبعاد

 - فالعامل المحرك للأرجنتين كان القوى المدنية الثائرة كسلطة موازية، بينما في حالة تشيلي كانت حصانة العسكريين المتجذرة، أما في باكستان فيحركها دولة عسكرية عميقة.

 - والتدخل الخارجي في حالة الأرجنتين، كان ضغطًا محدودًا، بينما في حالة تشيلي فكان دعمًا للديكتاتورية، أما في حالة باكستان فكانت تبعية باكستان جيوبوليتيكية.

-  وبناءً على البعدين السابقين كان المصير التاريخي للأرجنتين فانتصرت الذاكرة الجمعية الوطنية، بينما في تشيلي لايزال ينفجر الغضب، اما في باكستان فلايزال الاستبداد مستمرًا

والخلاصة النارية يلخصها نعوم تشومسكي وهي أن "العدالة المؤجلة ليست عدالة، بل هدنة مؤقتة مع الاستبداد". ففي الأرجنتين، كانت "أمهات ميدان مايو" شعلة أضاءت طريق التحرر، أما في باكستان، فأصبحت "فوجي فاوندايشن" سجناً اقتصادياً يخنق الأحلام، والسؤال الذي يصرخ في وجه التاريخ؛ كم من الدماء يجب أن تجفَّ ليفهم العالم أن التسوية مع العسكريين هي دائماً.. خيانة للأجيال القادمة؟
---------------------------
بقلم: 
أحمد حمدي درويش

مقالات اخرى للكاتب

رقصة الموت بين الديمقراطية والديكتاتورية