ثالثًا. الدولة المستقبلة: مزايا وعيوب الهجرة
1- واقع سياسي متفجر:
في جميع الدول الغنية اليوم، أصبحت الهجرة قضية سياسية متفجرة. حتى في الاتحاد الأوروبي، حيث تشترط قواعد السوق المشتركة حرية تدفق العمالة، كانت هذه حجة مهمة لمن روّجوا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ودفعوا المملكة المتحدة إلى الخروج منه.
تُولِد هذه الحجج مشاعر غريزية، ونادرًا ما تستند إلى الأدلة الواقعية التي تُنتجها العديد من الدراسات الدقيقة. عمومًا، يرتكز الخوف الذي يُثيره السياسيون القوميون الشعبويون على فكرة اختلاف المهاجرون وأنهم آتون للإستيلاء على وظائفنا وتدمير مجتمعاتنا، وأنهم في الغالب مجرمون. من الواضح أنه عند تلقي مهاجرين أو لاجئين محتملين من خلفيات مشابهة عمومًا لشعوب الدول المُستقبلة، فإنها تتقبّلهم بل وتبذل جهودًا استثنائية لاستيعابهم. لاحظوا مدى سهولة قبول ملايين اللاجئين الأوكرانيين، مقارنةً بنحو مليون لاجئ سوري قبل بضع سنوات. ولكن ما هي المزايا والعيوب الحقيقية لاستقبال المهاجرين في الدول الغنية في شمال الكرة الأرضية؟
2- مزايا الهجرة للدول المستقبلة
(أ) التركيبة العمرية
يلعب تدفق المهاجرين الشباب دورًا حاسمًا في تصحيح التركيبة العمرية للدول المستقبلة، لا سيما في البلدان التي تعاني من شيخوخة السكان وانخفاض معدلات المواليد، مما يؤدي إلى انكماش عدد السكان في سن العمل وتزايد نسبة الإعالة . يساهم المهاجرون الشباب، الذين عادةً ما يكونون في أوج نشاطهم، في تعويض هذه الاتجاهات من خلال المساهمة في القوى العاملة ودعم أنظمة الرعاية الاجتماعية من خلال الضرائب والنشاط الاقتصادي. بدون الهجرة، ستواجه العديد من الاقتصادات صعوبة في الحفاظ على أنظمة التقاعد وخدمات الرعاية الصحية وغيرها من المنافع العامة، حيث لن تتمكن القوى العاملة المحلية الأصغر حجمًا من دعم العدد المتزايد من المتقاعدين. وقد سعت دول مثل ألمانيا وكندا بنشاط إلى تطبيق سياسات هجرة للتخفيف من حدة هذه الاختلالات الديموغرافية، إدراكًا منها للدور الحيوي للمهاجرين الشباب في استدامة النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي على المدى الطويل .
إلى جانب معالجة نقص العمالة، يساهم المهاجرون الشباب في الابتكار وريادة الأعمال والديناميكية الاقتصادية في الدول المستقبلة. إذ يشغل العديد من المهاجرين أدوارًا أساسية في قطاعات الرعاية الصحية والبناء والتكنولوجيا والخدمات، وهي قطاعات غالبًا ما تعاني من نقص في العمالة بسبب شيخوخة السكان الأصليين. علاوة على ذلك، يميل المهاجرون الأصغر سنًا إلى تحقيق معدلات ولادة أعلى من السكان الأصليين، مما قد يساعد في إبطاء أو عكس التدهور الديموغرافي بمرور الوقت. وعلى عكس المفاهيم الخاطئة الشائعة بأن المهاجرين يثقلون كاهل أنظمة الرعاية الاجتماعية، تشير الدراسات التجريبية إلى أن المهاجرين الأصغر سنًا يميلون إلى المساهمة في الضرائب أكثر مما يتلقونه من مزايا، لا سيما عندما يتم دمجهم بفعالية في سوق العمل. وبينما لا تزال هناك تحديات في ضمان التكامل الناجح والتماسك الاجتماعي، فإن الفوائد الديموغرافية للهجرة تُبرز دورها الحاسم في الحفاظ على الحيوية الاقتصادية ومواجهة شيخوخة السكان في الدول المستقبلة.
(ب) المهاجرون يجلبون أيضًا أفضل المواهب
لا يقتصر المهاجرون على شغل الوظائف الشاقة في الاقتصاد المضيف، بل يجلب العديد منهم في الواقع أفضل المواهب التي تفيد البلد المضيف بطرق لا حصر لها. فقد استفادت الولايات المتحدة الأمريكية استفادةً هائلةً من علماء مهاجرين مثل ألبرت أينشتاين وجون فون نيومان، فضلًا عن هانز بيث، وإنريكو فيرمي، وليو زيلارد، وإدوارد تيلر، وغيرهم ممن ساهموا في تطوير القنبلة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية.
وحتى اليوم، يُقدم الطلاب الأجانب الذين يقيمون في الولايات المتحدة الأمريكية مساهمات هائلة. فقد ذكر تقريرٌ حديثٌ صادرٌ عن المؤسسة الوطنية للسياسة الأمريكية (NAFP) أن "ربع الشركات الأمريكية التي تبلغ قيمتها مليار دولار أمريكي لديها مؤسسٌ التحق بجامعة أمريكية كطالب دولي". وتُظهر نتائجُ موجز السياسة الصادر عن المؤسسة الوطنية للسياسة الأمريكية حول رواد الأعمال المهاجرين والشركات الأمريكية التي تبلغ قيمتها مليار دولار أمريكي أن 143 شركةً من أصل 582 شركةً بقيمة مليار دولار أمريكي أسسها طالبٌ دوليٌّ سابق. وفي المتوسط، خلق كلُّ مؤسس 860 وظيفة في الولايات المتحدة. هذا على الرغم من العقبات التي يواجهونها، مما دفع واضعي التقرير إلى التعليق على تقصير صانعي السياسات في تسهيل التحاق الطلاب الدوليين بالولايات المتحدة، وضرورة "مراعاة القيمة الكبيرة التي يضيفونها لأمريكا"، قائلين: "يمكن لصانعي السياسات بذل المزيد من الجهود لجعل الولايات المتحدة أكثر ترحيبًا بالطلاب الدوليين الموهوبين من خلال تسهيل الحصول على البطاقة الخضراء وإلغاء شرط التصريح بعدم نيتهم البقاء في هذا البلد بعد التخرج" .
ومن أشهر هؤلاء الطلاب الدوليين المهاجرين السابقين إيلون ماسك (مؤسس شركتي تسلا وسبيس إكس والعديد من الشركات الأخرى)، وسيرجي برين (المؤسس المشارك لشركة جوجل). وإذا نظرنا إلى أكبر شركات التكنولوجيا الأمريكية العريقة، نجد مهاجرين يشغلون مناصب رؤساء تنفيذيين في شركات مثل آي بي إم (أرفيند كريشنا من الهند)، ومايكروسوفت (ساتيا ناديلا من الهند)، وإنفيديا (جينسن هوانغ من تايوان)، وجوجل (سوندار بيتشاي من الهند). وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
في الواقع، أصبحت أهمية "الموهبة" في دفع عجلة النمو الاقتصادي والرفاهية معترفًا بها على نطاق واسع، وقد خصص صندوق النقد الدولي عدد مارس 2025 من مجلته "التمويل والتنمية" لهذه القضية . حقا، يجب على الدول رعاية مواهب مواطنيها وأن تكون منفتحة على الترحيب بالمهاجرين الموهوبين الراغبين في الانضمام إلى مجتمعاتها.
3- المشاكل المُتصوَّرة للهجرة في الدولة المُستقبِلة
(أ) استيعاب المهاجرين ودمجهم عمليةٌ صعبةٌ ومُثيرةٌ للمشاكل:
تُعَدُّ عملية استيعاب المهاجرين ودمجهم في مجتمعٍ جديدٍ عمليةً مُعقَّدةً بطبيعتها، وغالبًا ما تستلزم تكيُّفًا ثقافيًا من قِبَل المهاجرين، وتكيُّفًا هيكليًا من قِبَل الدولة المُضيفة. تنشأ هذه الصعوبات بسبب الحواجز اللغوية، والتفاوتات الاقتصادية، والتمييز، واختلاف المعايير الثقافية. يزعم الباحثون بأنَّ التكامل عمليةٌ مُتعدِّدة الأبعاد، تتطلَّب إدماجًا اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا مع الحفاظ على جوانب الهوية الثقافية. ومع ذلك، فإنَّ التفاوتات الهيكلية والمواقف المُعادية للأجانب يُمكن أن تُعيق فُرص المُشاركة الكاملة في المُجتمع، مما يُؤدِّي إلى شعورٍ بالإقصاء بين المُهاجرين.
علاوةً على ذلك، تتفاوت سياسات التكامل بشكلٍ كبيرٍ بين الدول، حيث يُعطي بعضها الأولوية للتعددية الثقافية، بينما يُطبِّق بعضها الآخر سياساتٍ استيعابيةً صارمة. تُشجِّع الأولى على الحفاظ على الهوية الثقافية إلى جانب المُشاركة المدنية، بينما تُطالب الثانية بالتوافق مع الثقافة السائدة. تشير الأدلة إلى أن الاستيعاب القسري قد يأتي بنتائج عكسية، إذ يُعزز الاستياء ويزيد من التهميش بدلًا من التماسك الاجتماعي . إضافةً إلى ذلك، تُثير التحولات الديموغرافية السريعة أحيانًا مخاوف مجتمعية، مما يجعل جهود الاندماج مثيرة للجدل من الناحية السياسية. ويتطلب التصدي لهذه التحديات نهجًا متوازنًا يُعزز الحراك الاقتصادي والتبادل الثقافي والاندماج الاجتماعي، مع مراعاة مخاوف المواطنين الأصليين.
(ب) إصرار المهاجرين على التحدث بلغة مختلفة:
تُعدّ اللغة جانبًا أساسيًا من الهوية، ويحافظ العديد من المهاجرين على لغتهم الأم كوسيلة للحفاظ على الثقافة والتماسك المجتمعي. ومع ذلك، يُمكن أن يُؤدي هذا إلى توتر في المجتمعات التي يُتوقع فيها التوحيد اللغوي من أجل الوحدة الوطنية. في حين أن التعدد اللغوي كان تاريخيًا سمة مميزة للعديد من الدول، إلا أن المخاوف الحديثة بشأن التشرذم اللغوي غالبًا ما تنشأ عندما تُبدي المجتمعات المهاجرة ترددًا أو صعوبة في تبني اللغة السائدة . تشير الأبحاث إلى أن اكتساب اللغة بين المهاجرين يتبع مسارًا جيليًا: فقد يواجه الجيل الأول صعوبة في إتقانها، بينما يصبح أطفالهم عادةً ثنائيي اللغة، وغالبًا ما يكون الجيل الثالث مندمجًا لغويًا بالكامل .
غالبًا ما تنبع مقاومة تبني اللغة السائدة من حواجز هيكلية لا من الرفض المطلق. فتُسهم محدودية فرص الحصول على تعليم لغوي، والتمييز في مكان العمل، واعتماد المجتمع على نفسه في الحفاظ على اللغة. في بعض الحالات، يُصوِر الخطاب السياسي هذه المشكلة كعلامة على عدم الرغبة في الاندماج، حتى مع مشاركة المهاجرين بنشاط في المجتمع من خلال المساهمات الاقتصادية والشبكات الاجتماعية . وقد يُوفر تشجيع ثنائية اللغة بدلًا من فرض الاستيعاب اللغوي نهجًا أكثر فعالية، يُعزز التماسك الاجتماعي والتنوع الثقافي مع الحد من التوترات حول الهوية الوطنية.
ج- التجمعات المهاجرة تتحول إلى مجتمعات منفصلة، تقطع أوصال الهوية الوطنية وتُغيرها:
يمكن أن يؤدي تجميع المهاجرين في مجتمعات منفصلة - سواءً من خلال الاختيار الذاتي أو الضرورة الاجتماعية والاقتصادية - إلى خلق جيوب ثقافية تبدو وكأنها منفصلة عن الهوية الوطنية الأشمل. تُوفر الجيوب العرقية موارد اجتماعية واقتصادية مهمة للمهاجرين، حيث تُشكل حاجزًا ضد التمييز، وتُمكّن من بناء شبكات دعم متبادل، كما نوقش في أعمال بعض الباحثين مثل بورتس وتشو. ومع ذلك، يُنظر لهذ التجمعات أحيانًا على أنها تُهدد التماسك الوطني عندما تُقاوم الاستيعاب الثقافي أو عندما يُغير نموها الديموغرافي المشهد الاجتماعي والسياسي. غالبًا ما يكون مدى "كسر" هذه المجتمعات للطابع الوطني مسألة ظن، تتأثر بالصور الإعلامية والخطاب السياسي أكثر من الأدلة التجريبية .
يدعى المنتقدون بأن المجتمعات الموازية يمكن أن تؤدي إلى التشرذم الاجتماعي وتقليل التفاعلات بين الجماعات، مما يُعزز الانقسامات بدلًا من تعزيز التكامل. ومع ذلك، تُشير الأبحاث إلى أن العديد من الجيوب العرقية تُشكل مساحات انتقالية، حيث تندمج الأجيال اللاحقة بشكل متزايد في المجتمع السائد مع الاحتفاظ بعناصر من تراثها. علاوة على ذلك، تُشكّل فكرة "الطابع الوطني" الثابت في حد ذاتها إشكالية، إذ لطالما شكّلت موجات الهجرة والتبادل الثقافي الأمم. ويكمن التحدي في تعزيز سياسات تُشجّع على التفاعل بين الثقافات مع احترام التعددية، مما يُثري الهوية الوطنية في نهاية المطاف بدلًا من تقويضها.
(د) الجريمة المزعومة:
من الانتقادات الشائعة ضد المهاجرين أنهم يجلبون الجريمة إلى البلد الذي يستقبلهم. إلا إن هذا غير صحيح، فبينما يتورط – بالتأكيد - بعض المهاجرين في الجريمة، إلا أن المهاجرين عمومًا أقل عرضة لارتكاب الجرائم من المواطنين الأصليين. وقد أجرى الخبير الاقتصادي في جامعة ستانفورد، ران أبراميتزكي، وزملاؤه دراسة شاملة تُفنّد الادعاء القائل بأن المهاجرين يرفعون معدلات الجريمة في الولايات المتحدة . وتُظهر أبحاثهم، التي تشمل 140 عامًا من التاريخ الأمريكي، أن معدلات سجن الجيل الأول من المهاجرين كانت دائمًا أقل أو مُقاربة لمعدلات سجن المولودين في الولايات المتحدة. حتى اليوم، يقل احتمال سجن المهاجرين بنسبة 30% مقارنةً بالأفراد البيض المولودين في الولايات المتحدة، وبنسبة 60% مقارنةً بالسكان المولودين في الولايات المتحدة عمومًا، بمن فيهم الأمريكيون السود الذين تميل معدلات سجنهم إلى الارتفاع مقارنةً بالبيض. وتُقدم النتائج، المستندة إلى بيانات مكتب الإحصاء الأمريكي، الدليل التاريخي البارز الذي يُناقض أسطورة أن الهجرة تزيد من الجريمة. وقد نشر البروفيسور أبراميتزكي هذه المادة في كتاب مُوجّه للجمهور.
تُسلّط الدراسة الضوء أيضًا على التحولات التاريخية في معدلات سجن المهاجرين. فقبل عام 1870، كانت معدلات سجن المهاجرين أعلى، ولكن بين عامي 1880 و 1950، كانت معدلات سجنهم مُشابهة لمعدلات سجن الأفراد المولودين في الولايات المتحدة. ومع ذلك، فمنذ عام 1960، أصبح المهاجرون أقل عرضة للسجن، بغض النظر عن مناطق نشأتهم .
عند مقارنة معدلات الحبس الجنائي للمساجين حسب مستوياتهم التعليمية، يظل المهاجرون ذوو التحصيل التعليمي الأدنى أقل عرضة للسجن مقارنةً بالأفراد المولودين في الولايات المتحدة ممن يتمتعون بمستويات تعليمية مماثلة. ويشير الدارسون إلى أن الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي بين المهاجرين قد يُفسر انخفاض معدلات سجنهم. فعلى عكس الرجال المولودين في الولايات المتحدة ذوي التعليم المنخفض، والذين واجهوا عدم استقرار اقتصادي بسبب العولمة والتحولات التكنولوجية، حافظ المهاجرون على وظائف مستقرة نسبيًا في قطاعات العمل اليدوي. بالإضافة إلى أنهم يميلون إلى بناء هياكل أسرية أقوى ورفاهية أفضل بشكل عام.
تتحدى هذه النتائج الرواية التي يروج لها السياسيونالمناهضون للهجرة، مؤكدةً أن المهاجرين ليسوا أكثر عرضة للجريمة، بل غالبًا ما يُظهرون مرونة وقدرة على التكيف في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
(هـ) الاستيلاء على وظائف المواطنين:
إن الادعاء بأن المهاجرين "يسلبون الوظائف" من السكان الأصليين هو مفهوم خاطئ شائع يتجاهل تعقيدات أسواق العمل والديناميكيات الاقتصادية. تُظهر الأبحاث الاقتصادية باستمرار أن المهاجرين غالبًا ما يُكمّلون العمال الأصليين بدلًا من التنافس معهم، لا سيما في الاقتصادات ذات الاحتياجات العمالية المتنوعة. فكثيرًا ما يشغل المهاجرون وظائف في قطاعات تعاني من نقص في العمالة - مثل الزراعة والبناء والرعاية الصحية والعمل المنزلي - حيث يكون العمال الأصليون إما غير متاحين أو غير راغبين في العمل. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للهجرة أن تُحفّز النمو الاقتصادي من خلال زيادة الطلب على السلع والخدمات، مما يؤدي إلى خلق فرص عمل بدلا من انتقالها إلى مكان آخر. وتشير الدراسات أيضًا إلى أن المهاجرين يُساهمون في تحسين الإنتاجية والابتكار، مما يُساعد الصناعات على التوسع ويُولّد فرص عمل جديدة لكل من المهاجرين والسكان الأصليين.
علاوة على ذلك، فإن فكرة أن المنافسة على الوظائف هي لعبة محصلتها صفر تتجاهل كيفية تكيف الاقتصادات مع تغيرات القوى العاملة. فأسواق العمل ديناميكية، وغالبًا ما يؤدي وجود المهاجرين إلى إعادة هيكلة الوظائف بدلًا من الغائها. على سبيل المثال، يميل العمال ذوو المهارات العالية إلى الترقى إلى أدوار ذات قيمة أعلى، بينما يتولى المهاجرون ذوو المهارات المنخفضة وظائف ذات أجور أقل، مما يؤدي إلى زيادة التخصص والكفاءة. أما تأثير الأجور، فرغم الإستشهاد بها أحيانًا كدليل على نزوح الوظائف، إلا أنها عادةً ما تكون ضئيلة ومُركزة في قطاعات مُحددة ذات مهارات منخفضة بدلًا من الاقتصاد الأكبر. في كثير من الحالات، تُساعد العمالة المهاجرة على استدامة الصناعات ومنع فقدان الوظائف من خلال الحفاظ على استمرارية الأعمال، لا سيما في المجتمعات المُتقدمة في السن حيث يُشكل نقص القوى العاملة مصدر قلق متزايد. وبدلاً من الإضرار بالعمالة المحلية، يُمكن أن تكون الهجرة عاملاً حاسمًا في المرونة الاقتصادية والازدهار على المدى الطويل.
الخلاصة:
تُعتبر الهجرة من أكثر القضايا إثارة للجدل، والتى غالبًا ما يُساء فهمها، في الخطاب الاجتماعي الأمريكي. ومع ذلك، فإن الكثير مما يعتقده الناس عنها مُتجذر في الأساطير وليس في الحقائق. استناداً إلى عِقد من الأبحاث الرائدة وتحليلات بيانية حديثة، تُعيد أدلة جديدة صياغة فهمنا للحلم الأمريكي، مُتحديةً بذلك الروايات ذات الدوافع السياسية والتاريخ العائلي العاطفي، كاشفةً عن رؤىً مُفاجئة:
- الارتقاء الاجتماعي: يحقق أبناء المهاجرين من جميع البلدان تقريبًا، وخاصةً ذوي الدخل المحدود، نجاحًا اقتصاديًا أكبر من أبناء المقيمين المولودين في الولايات المتحدة، وهو نمطٌ مستمرٌ منذ أكثر من قرن.
- الاندماج السريع: اندمجت الجماعات المهاجرة، التي انتُقدت تاريخيًا لفشلها في الاندماج، مثل الأيرلنديين في الماضي والمكسيكيين اليوم، في المجتمع الأمريكي بمعدلٍ سريعٍ للغاية.
- الفوائد الاقتصادية: تُحفّز الهجرة نموًا اقتصاديًا غير متوقع، وتُساعد في مُواجهة التراجع المُرتبط بشيخوخة السكان.
- دعم العمال المولودين في الولايات المتحدة: إن تقييد الهجرة لا يحمي العمال المولودين في الولايات المتحدة؛ بل يُضرّ بآفاقهم الاقتصادية، وهي النتيجة ذاتها التي يدّعي صانعو السياسات محاولة منعها.
من خلال سرد قصصي مشوق وأبحاث رائدة تعتمد على البيانات الضخمة والتحليل الخوارزمي، يتقمص أبراميتزكي وبستان دور علماء الأنساب على نطاق غير مسبوق. إذ تُقدم نتائج بحثهما منظورًا جديدًا للتاريخ الأمريكي، مُبينة كيف تُشبه أنماط الهجرة الحالية إلى حد كبير أنماط ما يُسمى "العصر الذهبي"، ومُسلّطةً الضوء على عيوب العديد من مقترحات السياسات المعاصرة.
----------------------------
بقلم: د. اسماعيل سراج الدين
* مدير مكتبة الإسكندرية الأسبق
غدا الحلقة الرابعة ( 4- الهجرة من منظور الدولة الأصلية: سلاح ذو حدين (1- سلاح ذو حدين 2- الهجرة ونزيف الأدمغة 3- النزوح الداخلي 4- الهجرة الدولية 5- التحويلات المالية 6 – الاستنتاجات)