29 - 06 - 2025

تاريخ الهجرة ومستقبلها (2) | الهجرة اليوم: طبيعة معقدة واتجار بالبشر

تاريخ الهجرة ومستقبلها (2) | الهجرة اليوم: طبيعة معقدة واتجار بالبشر

1- ظاهرة معقدة وقضية خلافية

سهّلت العولمة بشكل كبير حرية حركة رأس المال والسلع والخدمات عبر الحدود، إلا أن هذا الانفتاح لم يشمل تنقل العمالة. ففي حين أن اتفاقيات التجارة الدولية، والتحرير المالي، والاقتصادات الرقمية قد خلقت عالمًا مترابطًا يتدفق فيه رأس المال بسلاسة عبر الحدود الوطنية، إلا أن حركة الأشخاص ظلت مقيدة. ويعزى هذا الانفتاح الانتقائي إلى حد كبير إلى مخاوف الأمن القومي، والحمائية الاقتصادية، والضغوط السياسية للسيطرة على الهجرة . وقد أدى التناقض بين الأسواق المحررة وتقييد حركة البشر إلى تزايد التفاوتات، حيث تستفيد الدول المتقدمة من العمالة الرخيصة والإنتاج المستورد من الخارج، بينما تُبقي على ضوابط صارمة على الهجرة للحد من دخول العمال الأجانب . وقد أدى هذا التفاوت إلى تكثيف طبقية سوق العمل العالمية، حيث أجبر العديد من المهاجرين على العمل في وظائف غير مستقرة وغير رسمية بسبب سياسات التأشيرات والإقامة المقيدة. 

شهدت سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي فترة استثنائية في هجرة العمالة الدولية، عندما شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا طفرة غير مسبوقة في الهجرة وحركات العمالة نتيجةً للزيادات الكبيرة في أسعار النفط العالمية في السبعينيات، حيث استوردت الدول الرئيسية المنتجة للنفط في المنطقة أعدادًا كبيرة جدًا من العمال من دول تتمتع بفائض عمالة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفي غرب وجنوب آسيا. ركزت دراسات هذه الظاهرة المهمة والمفاجئة إلى حد ما على كل شيء بدءًا من تقدير حجم وتكوين تدفقات العمالة هذه إلى ديناميكيات أسواق العمل المتطورة في أماكن مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة . 

تتفاقم الطبيعة المعقدة للهجرة الدولية اليوم بسبب اختلاف استجابات الدول لمختلف فئات المهاجرين، مثل اللاجئين الفارين من الصراعات، والمهاجرين البيئيين النازحين بسبب تغير المناخ، والمهاجرين الاقتصاديين الباحثين عن فرص أفضل. فعلى الرغم من إقرار القانون الدولي بحق اللجوء، إلا أنه غالبًا ما تفرض الدول ضوابط حدودية صارمة وتدابير رادعة تُصعّب على النازحين الحصول على الحماية . وبالمثل، يواجه المهاجرون الاقتصاديون، على الرغم من أهميتهم الحيوية لأسواق العمل في العديد من البلدان المضيفة، عوائق قانونية ومؤسسية كبيرة تُقيّد حقوقهم وإمكانية حصولهم على الخدمات . تُبرز هذه التفاوتات في حوكمة الهجرة تناقض العولمة التي تُناصر التكامل الاقتصادي، بينما تُخضع التنقل البشري لتنظيم صارم. وتُخاطر العولمة بتفاقم مشكلةعدم المساواة العالمية والتشرذم الاجتماعي إن لم تتبنى نهج أكثر توازنًا يُقرّ بمساهمات المهاجرين ويُعالج تنقل العمالة بشكل أكثر إنصافًا .

2- اللاجئون والنازحون في الداخل والمهاجرون

اللاجئون هم أفراد يفرّون من بلدانهم الأصلية بسبب النزاعات أو الاضطهاد السياسي أو الكوارث البيئية، ويلتمسون اللجوء إما مؤقتًا أو دائمًا في بلد آخر. تُعرِف اتفاقية اللاجئين لعام ١٩٥١ اللاجئ بأنه شخص لديه "خوف مبرر من التعرض للاضطهاد لأسباب تتعلق بالعرق أو الدين أو الجنسية أو الانتماء إلى فئة اجتماعية معينة أو الرأي السياسي" وغير قادر أو غير راغب في العودة إلى وطنه . يشمل هذا التعريف في المقام الأول الأفراد الهاربين من الاضطهاد السياسي أو العرقي، إلا أن دوافع النزوح الحديثة تشمل النزاعات المسلحة والكوارث البيئية، والتي لا يغطيها القانون الدولي للاجئين صراحةً دائمًا . وبينما يُمنح اللاجئون السياسيون في كثير من الأحيان حق اللجوء أو صفة اللاجئ بموجب الأطر القانونية الدولية، فإن الفارين من الكوارث البيئية - مثل ارتفاع منسوب مياه البحر أو الظواهر الجوية المتطرفة - يقعون في منطقة قانونية رمادية، حيث لا يعترف القانون الدولي رسميًا بعد بـ"لاجئي المناخ" . تعتمد الطبيعة المؤقتة أو الدائمة للجوء على ما إذا كانت الظروف في البلد الأصلي قد تحسنت مما يسمح بالعودة الطوعية، أو ما إذا كان استمرار عدم الاستقرار يستلزم إعادة توطين طويلة الأمد في الدول المضيفة  (Gibney, 2018). 

يُعد التمييز بين اللاجئين والمهاجرين الدوليين والنازحين داخليًا أمرًا أساسيًا لفهم أنماط النزوح العالمية. فعلى عكس اللاجئين، ينتقل المهاجرون الدوليون طواعيةً، غالبًا لأسباب اقتصادية، بدلًا من إجبارهم على الفرار بسبب الاضطهاد أو العنف . وبينما يعبر اللاجئون الحدود الدولية ويتمتعون بالحماية بموجب القانون الدولي، يبقى النازحون داخليًا داخل حدود بلادهم ويخضعون لسلطة حكوماتهم الوطنية، مما يحدّ غالبًا من وصولهم إلى المساعدة الدولية . قد تكون التحديات التي يواجهها النازحون داخليًا شديدة، إذ غالبًا ما ينزحون بسبب النزاعات الأهلية أو الكوارث الطبيعية أو مشاريع التنمية. وهم يفتقرون إلى الحماية القانونية والدعم المؤسسي الممنوح للاجئين بموجب الاتفاقيات الدولية . يكمن الاختلاف الأساسي هنا في الوضع القانوني وأطر الحماية - فبينما يستفيد اللاجئون من قوانين اللجوء الدولية، يعتمد النازحون داخليًا في كثير من الأحيان على سياسات وطنية ضعيفة أو غير فعالة لضمان سلامتهم وحقوقهم . يُعدّ فهم هذه الفروق أمرًا بالغ الأهمية لصياغة استجابات إنسانية وسياسية مناسبة للاحتياجات المختلفة للنازحين.

 3- البُعد الجنساني في النزوح الداخلي والهجرة الدولية 

للنزوح الداخلي والهجرة الدولية أبعاد جنسانية هامة، تؤثر بشكل مختلف على الرجال والنساء نظرًا للأدوار المجتمعية السابقة، ومواطن الضعف، وآليات التكيف. تواجه النساء والفتيات، على وجه الخصوص، مخاطر فريدة، بما في ذلك العنف القائم على النوع الاجتماعي، والتهميش الاقتصادي، وصعوبة الوصول إلى الخدمات الأساسية كالرعاية الصحية والتعليم. يؤثر النزوح الداخلي - الذي غالبًا ما يكون ناجمًا عن النزاعات، أو تغير المناخ، أو الأزمات الاقتصادية - بشكل أكثر حدة على النساء، اللاتي قد يواجهن صعوبات أكبر في تأمين سبل العيش والأمن الشخصي . وبالمثل، غالبًا ما تفرض الأعراف الاجتماعية القائمة على النوع الاجتماعي أعباء رعاية إضافية على النساء، مما يحد من قدرتهن على التنقل ويقلل من قدرتهن على البحث عن عمل أو الاندماج في المجتمعات المضيفة .

تمثل النساء والفتيات نسبة كبيرة من اللاجئين في العالم، وغالبًا ما يتعرضن لخطر متزايد من الاتجار بالبشر والعنف الجنسي والاستغلال. يخلق الصراع والهجرة القسرية ظروفًا يستغلها المتاجرون، ويستغلون الفئات الضعيفة بوعود الأمان والفرص الاقتصادية. وكثيرًا ما تُجبر اللاجئات والنازحات داخليًا على العمل القسري أو الاستغلال الجنسي أو الزواج المبكر والقسري . وتتعرض النساء النازحات والقاصرات غير المصحوبات بذويهم للخطر بشكل خاص بسبب نقص الحماية القانونية وآليات الإنفاذ في البلدان المضيفة أو بلدان العبور، بالإضافة إلى التمييز المنهجي بين الجنسين الذي يحد من تمتعهن باللجوء والإقامة القانونية. 

بالإضافة إلى الاتجار، غالبًا ما تواجه النساء المهاجرات الاستغلال في سوق العمل. تعمل العديد من المهاجرات في قطاعات غير رسمية وغير منظمة مثل العمل المنزلي أو الزراعة أو العمل في المصانع، حيث من المرجح أن يتحملن ظروف عمل سيئة وأجورًا أقل وحقوق عمل مجحفة . بالنسبة للمهاجرات غير المسجلات، تتفاقم هذه الهشاشة بسبب انعدام الأمن القانوني، والخوف من الترحيل، وانعدام فرص الحصول على الرعاية الصحية والقانونية . حتى في مخيمات اللاجئين وبرامج إعادة التوطين الرسمية، لا تزال الفوارق بين الجنسين قائمة، حيث غالبًا ما يكون للنساء سلطة أقل في توزيع المساعدات وفي هياكل صنع القرار. تتجاوز التحديات التي تواجهها النازحات والمهاجرات المخاطر الجسدية المباشرة لتشمل صراعات طويلة الأمد في إعادة بناء حياتهن. كما تُسهم الصدمات النفسية، وانعدام فرص الحصول على الرعاية الصحية الإنجابية، والعوائق أمام التعليم والتوظيف في اتساع الفوارق بين الجنسين. وغالبًا ما تواجه النساء والفتيات اللواتي يعانين من النزوح انقطاعات في دراستهن، مما يقلل من الفرص الاقتصادية المستقبلية ويديم دورات الفقر والتبعية . وتُخاطر البرامج التي لا تتضمن مناهج تراعي الفوارق بين الجنسين بإهمال الاحتياجات الخاصة بالنازحات، بما في ذلك الدعم النفسي والاجتماعي والحماية من العنف القائم على النوع الاجتماعي.

وعليه يجب تصميم السياسات الوطنية والدولية بحيث تراعي الفوارق بين الجنسين لضمان معالجة البعد الجنساني بشكل صحيح في النزوح الداخلي والهجرة الدولية. فينبغي على الحكومات وضع حماية قانونية تحمي النساء النازحات والمهاجرات من الاتجار والاستغلال الجنسي واستغلال العمال. ويشمل ذلك آليات إنفاذ قانون أقوى، وسياسات لجوء مراعية للنوع الاجتماعي، وتحسين فرص حصول النازحات على المساعدة القانونية . كما ينبغي على الدول تطبيق قوانين عمل مراعية للنوع الاجتماعي تعترف بحقوق المهاجرات في القوى العاملة وتحميها، بما يضمن حصولهن على أجور عادلة وظروف عمل آمنة. 

أما على المستوى الدولي، فيجب على المنظمات مثل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والمنظمة الدولية للهجرة تدعيم البرامج المعنية بالنوع الاجتماعي في الاستجابة الإنسانية. ويتضمن ذلك كفالة شمول مخيمات اللاجئين ومستوطنات النزوح تدابير سلامة للنساء والفتيات، مثل المرافق المخصصة لكل جنس، والهياكل المجتمعية التي تقودها النساء، وبرامج التمكين الاقتصادي الموجهة . بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تؤكد الاتفاقيات الدولية، مثل الاتفاق العالمي بشأن الهجرة، على سياسات الهجرة المراعية للنوع الاجتماعي التي تدعم حقوق المرأة، وتحمي من العنف القائم على النوع الاجتماعي، وتعزز المساواة في الحصول على الحماية القانونية والخدمات الاجتماعية . إن الاستجابة العالمية المنسقة، المستندة إلى البحوث وصنع السياسات المراعية للنوع الاجتماعي، ضرورية لمعالجة هشاشة وضع النساء النازحات والمهاجرات وضمان صون حقوقهن في البلدان المضيفة وبلدان العبور.

4- الضغوط والتحولات الديموغرافية في الشمال الغني والجنوب الفقير

(أ) لمحة عامة

التحول الديموغرافي عملية موثقة جيدًا تنتقل من خلالها المجتمعات من معدلات ولادة ووفاة مرتفعة إلى مستويات أدنى لكليهما، غالبًا استجابةً للتنمية الاقتصادية، وتحسن الصحة العامة، فضلا عن التغيرات الاجتماعية. في البلدان الفقيرة في نصف الكرة الجنوبى، يُسفر التحول الديموغرافي عن آثار كبيرة على النمو السكاني، وغلبة الشباب على السكان، وضغوط كبيرة لتسريع توسيع البنية التحتية الاجتماعية كالمدارس والمستشفيات. في الوقت نفسه، أدى هذا التحول في دول الشمال الغنية، وخاصة في أوروبا وأمريكا الشمالية وبعض أجزاء من شرق آسيا، إلى شيخوخة السكان، وفي بعض الحالات، إلى انخفاض عدد السكان. انخفضت معدلات الخصوبة في هذه المناطق إلى ما دون مستوى الإحلال البالغ 2.1 طفل لكل امرأة، مدفوعًا بعوامل مثل زيادة التعليم وانضمام النساء لسوق العمل، وتغيير البنية الأسرية، وعدم اليقين الاقتصادي الذي يُثني عن تكوين أسر أكبر. في الوقت نفسه، ارتفع متوسط العمر المتوقع بفضل التقدم الطبي وظروف المعيشة الصحية، مما أدى إلى تزايد نسبة كبار السن مقارنةً بالأفراد الأصغر سنًا في سن العمل. 

تُشكل هذه التحولات الديموغرافية تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة. تُعد هذه التغييرات خطيرة عندما يواجه المجتمع تحديات شيخوخة السكان، وتزداد الخطورة إذا استمرت هذه الاتجاهات واضطر المجتمع إلى التعامل مع انخفاض عدد السكان. ومن المناسب هنا استعراض هاتين المسألتين المترابطتين والمختلفتين معا. 

(ب) تحديات شيخوخة السكان

تُشكّل الشيخوخة السريعة للسكان في الدول الغنية، مثل اليابان ومعظم دول أوروبا، تحديات اقتصادية واجتماعية جسيمة. ومن أكثر هذه التحديات إلحاحًا الضغط على أنظمة التقاعد والرعاية الصحية. فمع ارتفاع متوسط العمر المتوقع وانخفاض معدلات المواليد، تزداد نسبة المتقاعدين إلى الأفراد في سن العمل، مما يُشكّل ضغطًا هائلًا على برامج الرعاية الاجتماعية. ويتراجع عدد العاملين الذين يُساهمون في صناديق التقاعد، بينما يستمر عدد المستفيدين في الارتفاع، مما يُؤدي إلى اختلالات مالية تُهدد استدامة هذه الأنظمة. كما تتصاعد تكاليف الرعاية الصحية مع حاجة السكان المسنين إلى مزيد من الرعاية الطبية، لا سيما في الحالات المرضية المزمنة مثل أمراض القلب والأوعية الدموية والخرف وهشاشة العظام. وفى هذه الحالة تواجه الحكومات خيارات صعبة بزيادة الضرائب، أو خفض المزايا، أو إصلاح سياسات التقاعد - ولا يعد أي من هذه الخيارات سهلاً من الناحية السياسية كما لا يحظى بشعبية اجتماعية. 

وهناك مشكلة رئيسية أخرى تتمثل في انكماش القوى العاملة. فمع انخفاض عدد الشباب الذين يدخلون سوق العمل، تواجه الاقتصادات نقصًا في العمالة، مما قد يُقلل من الإنتاجية ويُحدّ من النمو الاقتصادي. تُكافح الدول ذات السكان المُسنّين للحفاظ على تنافسيتها الصناعية والتكنولوجية، إذ غالبًا ما يزدهر الابتكار وريادة الأعمال في فئات سكانية أصغر سنًا وأكثر ديناميكية. ولمواجهة هذه التحديات، سعت العديد من الدول إلى تمديد سن التقاعد وتشجيع مشاركة أكبر لكبار السن في القوى العاملة. ومع ذلك، فإن لهذا النهج حدودًا، إذ لا يستطيع جميع كبار السن مواصلة العمل بسبب القيود الصحية أو المتطلبات البدنية لبعض الوظائف. وتُعدّ الهجرة حلاً محتملاً آخر، لكنها لا تزال محل جدل سياسي، حيث تُكافح العديد من المجتمعات لتحقيق التكامل الثقافي ومقاومة شعبية لزيادة الهجرة. 

إلى جانب المخاوف الاقتصادية، تُحدث الشيخوخة السكانية أيضًا تحولات في الهياكل الاجتماعية وديناميكيات التفاعل بين الأجيال. فيصبح الحفاظ على نماذج الأسرة التقليدية، حيث ترعى الأجيال الشابة الأقارب المسنين، أكثر صعوبة مع انخفاض عدد المواليد وتقلص حجم الأسرة. وهذا يُضيف ضغطًا إضافيًا على خدمات رعاية كبار السن التي تُقدمها الدولة، مما يزيد من الإنفاق العام ويتطلب استثمارات في أنظمة دعم جديدة، مثل مرافق المعيشة المُساعدة وخدمات الرعاية المنزلية. كما تُصبح العزلة الاجتماعية مشكلة مُتفاقمة، لا سيما في دول مثل اليابان، حيث يعيش العديد من كبار السن بمفردهم. وهنا يجب على صانعي السياسات ألا يقتصروا على إيجاد حلول مالية لأزمة الشيخوخة، بل يجب عليهم أيضًا معالجة آثارها الاجتماعية من خلال تعزيز الروابط بين الأجيال وتحسين مبادرات الرعاية المجتمعية. 

(ج) تحديات انخفاض عدد السكان

بالنسبة للدول التي لا تعاني فقط من الشيخوخة، بل من انخفاض عام في عدد السكان - مثل الصين وكوريا الجنوبية وأجزاء من أوروبا الشرقية - فإن التحديات أشد وطأة. يؤدي انخفاض معدلات المواليد إلى انكماش القوى العاملة، وانخفاض الناتج الاقتصادي، وزيادة نسب الإعالة. ومع قلة عدد العمال الشباب اللازمين لدعم الإنتاجية الاقتصادية والابتكار، قد تواجه الصناعات صعوبة في إيجاد عمالة ماهرة، وقد تتقلص قطاعات بأكملها. استجابةً لذلك، حاولت بعض الدول تطبيق سياسات داعمة للإنجاب، مثل الحوافز المالية للأسر لإنجاب المزيد من الأطفال، ودعم رعاية الأطفال، وتمديد إجازة الوالدين. ومع ذلك، غالبًا ما تستغرق هذه التدابير عقودًا لتظهر نتائجها، وفي بعض الحالات، تفشل في عكس هذا الاتجاه التنازلي. غالبًا ما تثني المواقف الاجتماعية المتغيرة تجاه الزواج والأسرة، وارتفاع تكاليف المعيشة، وضغوط العمل، الشباب عن تكوين أسر أكبر، مما يقلل من فعالية التدخلات السياسية. يُشكل انكماش عدد السكان أيضًا مخاطر جيوسياسية واستراتيجية. فمع فقدان الدول لثقلها الاقتصادي والديموغرافي، قد يتراجع نفوذها العالمي مما يجعلها أقل قدرة على المنافسة على الساحة العالمية. ففي الصين، على سبيل المثال، تتجلى الآن العواقب طويلة المدى لسياسة الطفل الواحد السابقة في نقص العمالة، وشيخوخة السكان السريعة، وتباطؤ النمو الاقتصادي. وبينما لا يزال حجم الصين السكاني الهائل يمنحها قوة عاملة كبيرة، تشير التوقعات إلى أنه بحلول عام 2050، قد ينخفض عدد سكانها بشكل كبير، مما يؤثر على مسارها الاقتصادي ومكانتها العالمية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي انخفاض عدد السكان إلى تفاقم التدهور الحضري، حيث تعاني المدن المتقلصة من صعوبات في صيانة البنية التحتية، والعقارات المهجورة، وتراجع القاعدة الضريبية. وبدون تخطيط دقيق، قد تشهد المناطق التي تعاني من انخفاض عدد السكان ركودًا اقتصاديًا، وتزايدًا في عدم المساواة، وتوترات إجتماعية متصاعدة. 

في كل من حالتي شيخوخة السكان أو تقلصها، تكون الحلول طويلة المدى معقدة ومتعددة الأوجه. يتعين على صانعي السياسات توليف مزيج من إصلاح الهجرة، وتعديلات سوق العمل، والأتمتة لمواجهة نقص القوى العاملة، والسياسات الاجتماعية التي تشجع على نمو الأسرة مع دعم كبار السن. تُعرِض الدول التي تفشل في معالجة هذه التحولات الديموغرافية نفسها لخطر الركود الاقتصادي المُطوّل، وضعف النفوذ العالمي، وتنامي الاختلالات المجتمعية. في المقابل، يُمكن للدول التي تتكيّف بفعالية - من خلال الابتكار والحوكمة الاستراتيجية والسياسات الاجتماعية الشاملة - التخفيف من الآثار السلبية، بل وإيجاد فرص جديدة في المشهد الديموغرافي المتغير.

5- عالم مُتغيّر:

خلال نصف القرن الماضي، كاد يُعتَبَر من المسلمات أن العولمة والتجارة تُمثّلان تطوّرًا مُفيدًا للجميع. ومن المُلاحظ أن مُؤيّدي هذا الرأى حصروا تأييدهم في التدفق الحرّ للسلع والخدمات والأموال، وليس البشر. لطالما كانت الهجرة من دول الجنوب الفقيرة إلى دول الشمال الغنية قضيةً مُحفوفةً بالمخاطر، حتى أن الدول الاستيطانية اعتبرت أنها وصلت إلى مستوى "مستقر" من السكان، ورفضت فكرة استقبال المزيد من المهاجرين. تُمثّل أنماط التغيّر في الهياكل العمرية في جميع أنحاء العالم ظاهرةً عالميةً بالغة الأهمية، لدرجة أن معهد ماكينزي العالمي خصّص تقريرًا خاصًا لهذه الظاهرة وعواقبها . يركز التقرير في جوهره على انخفاض معدل الخصوبة  - حيث انخفض في العديد من الدول الغنية بالفعل عن 2.1 طفل لكل أسرة (ومن المتوقع أن يحافظ على قيمة الإحلال الديموغرافي) - وعلى تزايد طول العمر الذي يؤدي إلى اضطرار عدد أكبر من كبار السن والمتقاعدين إلى الاعتماد على عدد أقل من الشباب في القوى العاملة. ولكن يبدو لى أن انخفاض الخصوبة هو العامل الأهم لهذه الظاهرة. 

بشكل عام، تُسلّط نتائج التقرير الضوء على النقاط الخمس التالية : 

(أ) انخفاض معدلات الخصوبة وتراجع عدد السكان

يدفع انخفاض معدلات المواليد الاقتصادات الكبرى نحو انخفاض عدد السكان خلال هذا القرن. يعيش حاليًا ثلثا سكان العالم في بلدان تقل فيها معدلات الخصوبة عن مستوى الإحلال البالغ 2.1 طفل لكل أسرة. ووفقًا لتوقعات الأمم المتحدة، قد تشهد بعض الاقتصادات الكبرى انكماشًا سكانيًا بنسبة 20 إلى 50% بحلول عام 2100.

(ب) شيخوخة السكان وتغير التركيبة السكانية

تشهد توزيعات الأعمار تحولات جذرية، حيث تتحول الأهرامات السكانية التقليدية إلى هياكل ضخمة. مع ارتفاع عدد كبار السن وتناقص عدد الشباب، من المتوقع أن تنخفض نسبة من هم في سن العمل في الاقتصادات المتقدمة والصين من 67% حاليًا إلى 59% بحلول عام 2050. وفي الأجيال القادمة، سيمتد هذا الاتجاه إلى المناطق الشابة، مع بقاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى استثناءً . 

(ج) ديناميكيات اقتصادية متغيرة

سيصبح كل من المستهلكين والعمال أكبر سنًا، وسيتركزون بشكل متزايد في البلدان النامية. وبحلول عام 2050، سيمثل كبار السن ربع الاستهلاك العالمي - أي ضعف حصتهم عام 1997. وفي الوقت نفسه، ستساهم الدول النامية بنسبة متزايدة في القوى العاملة والاستهلاك العالمي، مما يجعل إنتاجيتها الاقتصادية حاسمة للنمو العالمي. 

(د) الضغوط الاقتصادية والحاجة إلى التعديلات

لا يستطيع الإطار الاقتصادي الحالي الحفاظ على مستويات الدخل الحالية وتوقعات التقاعد، وستكون هناك حاجة إلى تعديلات كبيرة.

في اقتصادات الدول المتقدمة والصين، قد يتباطأ نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 0.4% سنويًا بين عامي 2023 و2050، مع انخفاض يصل إلى 0.8% سنويًا في بعض الدول. ولمواجهة ذلك، ستحتاج زيادة الإنتاج إلى التسارع بمقدار ضعفين إلى أربعة أضعاف، أو قد يحتاج العمال إلى تمديد أسابيع عملهم بساعة إلى خمس ساعات. وقد تضطر أنظمة التقاعد إلى إعادة توجيه ما يصل إلى 50% من دخل العمل لسد الفجوة المتزايدة في استهلاك ودخل كبار السن. وينبغي للدول التي تواجه موجات لاحقة من التحول الديموغرافي أن تنتبه إلى ذلك. 

(هـ) استكشاف آفاق جديدة

ستقود آثار التحولات الديموغرافية المجتمعات إلى آفاق جديدة. فبدون إجراءات حاسمة، سترث الأجيال الشابة نموًا اقتصاديًا أبطأ، بينما تتحمل العبء المالي لتزايد عدد المتقاعدين. وستضعف عمليات نقل الثروة التقليدية بين الأجيال، مما يستلزم تغييرات في ممارسات العمل والعقود الاجتماعية الراسخة. وفي نهاية المطاف، سيكون عكس اتجاه انخفاض معدلات الخصوبة أمرًا بالغ الأهمية لمنع تناقص السكان. وهو تحدٍّ غير مسبوق في التاريخ الحديث . 

(و) ما وراء التحليل السابق : 

يُعدُّ تسارع التقنيات الجديدة (وخاصةً الذكاء الاصطناعي) وقبول أعداد كبيرة من المهاجرين الشباب السيناريو حلولا أكثر ترجيحًا من مسألة عكس اتجاه انخفاض معدلات الخصوبة. 

نشهد اليوم، في عام ٢٠٢٥، تحولاتٍ عميقة في المبادئ العامة التي حكمت العلاقات الدولية على مدى الثلاثين عامًا الماضية تقريبًا. وبينما ليس من الواضح شكل النظام العالمي الجديد الذي سينبثق من هذه التغييرات، فمن الواضح أن الوطنية  الشعبوية اليمينية المتصاعدة ستشكل جزءًا هامًا من المشهد السياسي الجديد. وهكذا، فرغم أن العالم أصبح أكثر ترابطًا من أي وقت مضى، فمن المرجح أن تظل الهجرة قضيةً جوهريةً رئيسية، بغض النظر عما يُمكن قوله عن فوائدها وتكاليفها الحقيقية لكلٍّ من الدول المُرسِلة والمُستقبِلة .
-------------------------------------
بقلم: د. اسماعيل سراج الدين
* مدير مكتبة الإسكندرية الأسبق
 

غدا الحلقة الثالثة (الدولة المستقبلة: مزايا وعيوب الهجرة 1 - واقع سياسي متفجر 2 - مزايا الهجرة بالنسبة للدولة المستقبلة 3- مشاكل الهجرة)


 

مقالات اخرى للكاتب

تاريخ الهجرة ومستقبلها (4) | أثر الهجرة في الدولة الأصلية واستشراف المستقبل