22 - 06 - 2025

في التنوير وأزمته (1) | النقاش العام بين السجال والحوار

في التنوير وأزمته (1) | النقاش العام بين السجال والحوار

يغلب على النقاش العام في مختلف القضايا المختلف عليها لدينا، السجال والجدال لا الحوار، والفرق بين الأمرين شاسع، وهو الفارق الذي يفسر لماذا النقاش لدينا لم يحرز أي تقدم في قضية من القضايا التي نتناولها منذ مطلع القرن العشرين. إذا ما أردنا تطبيق المنهج الجدلي dialectic سواء في صيغة المثالية التي وضعها الفيلسوف الألماني هيجل (1770-1831)، أو في صيغة المادية الجدلية التي طورها كارل ماركس (1818-1883)، تلميذ هيجل الذي تمرد عليه وتجاوزه، سنجد أننا لم نبرح مرحلة طرح الفكرة ونقيضها، وأنه لم ينشأ من الأصل حوار جاد أو تفاعل إيجابي بين الفكرة ونقيضها، أو بين المثال والواقع. هناك كثير من الاستنتاجات التي تخلص إليها الدراسات التي تحلل الخطاب العام أو النقاش العام في مجتمعاتنا، وفق مناهج تحليل الخطاب discourse analysis، يجريها الباحثون المعنيون بمتابعة النقاش العام في المجتمع لمعرفة القضايا الأساسية التي تشغل مجتمع من المجتمعات. ومن أهم هذه الاستنتاجات التي ينتهي إليها الدارسون أو المثقفون أن القضايا الأساسية التي تشغل المجتمع المصري بشكل خاص، والمجتمعات العربية بشكل عام، هي القضايا ذاتها المطروحة على العقل العربي منذ "صدمة الحداثة" التي أفاقت عليها النخب المثقفة في مصر والشام، في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، والناجمة عن إدراكهم للهوة الكبيرة بين ما حققته المجتمعات الأوروبية الناهضة من تقدم في مختلف مجالات الحياة والفكر وتنظيم المجتمع والعمارة، استناداً إلى أفكار النهضة والمنهج العلمي في التفكير وبين الحال الذي عليه مجتمعاتنا التي تئن تحت وطأة الاحتلال العثماني التركي الذي لا يعمل على تقدم هذه المجتمعات العربية والإسلامية ونهضتها وحسب، وإنما يكرس لتخلفها من خلال محاربة أي محاولة للانعتاق والنهوض ووأدها في مهدها. 

بنية السلطة وغياب ثقافة الحوار

الدافع لكتابة هذه السلسلة من المقالات عن "أزمة" أو "مأزق" التنوير العربي ومعوقاته، هو النقاش الذي أثاره كتاب الروائي والناقد صبحي موسى، الصادر هذا العام بعنوان "مأزق التنوير العربي: صراع العقائد وبنية التحالف الرجعي" الصادر هذا العام في القاهرة عن دار "روافد للنشر والتوزيع"، وأحدث حلقة في هذا النقاش، الندوة التي نظمتها الجمعية المصرية للتنوير، التي أسسها الشهيد الراحل فرج فودة، الذي يعد بفضل ما تركه من تراث مكتوب أحد الفرسان المعاصرين للتنوير المصري ثقافة والعربي لغة وثقافة أيضاً. وفي تقديري أن النقاش، الذي تمثل في المراجعات والمقالات النقدية التي عرضت للكتاب وناقشت ما يطرحه، أو فيما طرحه ثلاثة من رموز البحث الأكاديمي والثقافة في الندوة المشار إليها، الدكتورة ثريا عبد المجيد، أستاذ علم الاجتماع بجامعة المنوفية، والمثقف المصري الكبير، كمال زاخر، والمثقف الدكتور كمال مغيث، الخبير في قضايا الثقافة والتعليم والتربية، مناسبة لإعادة طرح سؤال التنوير في النقاش العام، والبدء في حوار جاد حوله. والحقيقة أن ما شجعني على ذلك هو ما عبر عنه الحضور الكريم من تعليقات في هذه الندوة المهمة، وما قد تنطوي عليه من مخرجات مهمة يمكن العمل عليها وتطويرها. وفي تقديري، أن إمكانية تطوير مخرجات الندوة وما أثارته تستدعي بداية التعامل مع قضية غياب ثقافة الحوار التي تعوق تقدم أي نقاش حول أي موضوع أو قضية.

بعيداً عن الجدل الذي أثاره الكتاب، وأثارته الندوة أيضاً، بخصوص العلاقة بين السلطة الحاكمة ومسألة التنوير، والتي انقسم الرأي بشأنها بين فريق يرى أن السلطة الحاكمة تلعب دورا حاسماً وداعماً في مسيرة التنوير العربي، وبين فريق آخر يراها المعوق الرئيسي للتنوير بسبب تحالفها مع الرجعية والسلطة الدينية. في تقديري أن طرح المسألة على هذا النحو طرح زائف، أولاً بسبب عدم ثبات موقف السلطة الحاكمة من مسألة التنوير، ليس فقط بسبب تغير شخوصها، وإنما أيضاً بسبب تغير السياقات الاجتماعية وحساباتها وفق هذه السياقات الاجتماعية المتغيرة. وثانياً، أن مناقشة موقف السلطة دون التحديد الواضع لبنيتها الاجتماعية والفكرية، لا يساعدنا على تتبع مسار التنوير في مجتمعاتنا العربية. وثالثاً، وهو الأهم أنه لا يضع الفرضية الأساسية التي يقوم عليها النقاش، والتي تفترض تحقق التنوير العربي، موضع السؤال والتمحيص. إن طرح هذا السؤال والإجابة عليه مسألة في غاية الأهمية لتقدم النقاش. ولعل السؤال الذي طرح خلال النقاش حول وجود التنوير العربي أصلاً، هو سؤال ينبغي طرحه، وأن الإجابة عليه تتطلب تحديداً واضحا للتنوير. وأخيراً، هناك حاجة للاتفاق بين المعنيين بهذا النقاش حول مفهوم السلطة ذاته. فتحديد المفاهيم والاتفاق على مدلولات المصطلحات المستخدمة، يوفر الكثير من النقاش والجدل ويسمح بالحوار الذي يحدث تقدما في النقاش، بديلاً عن حالة المراوحة أو التذبذب التي نشكو منها.

إن بنية السلطة بمستوياتها المختلفة، الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية، والتي تصنفها الدراسات الاجتماعية والثقافية بأنها سلطة أبوية، بحسب الأكاديمي والمثقف الفلسطيني هشام شرابي (1927-2005)، مسؤولة إلى حد كبير عن أزمة الحداثة في العالم العربي، وأزمة الحداثة هذه، مؤسسة على غياب ثقافة الحوار، إذ تميل السلطة في المجتمع الأبوي إلى أن تكون مركزة في يد شخص واحد أحادية الاتجاه تمضي من المستوى الأعلى إلى المستويات الأدنى، ولا تسمح بأي نوع من التغذية المرتدة، الأمر الذي يعني أنه لا رأي للمحكومين في القرارات التي تصدر عن السلطة التي لا يمكن مراجعتها أو محاسبتها. يرى شرابي في كتابه "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي" الصادر في عام 1992، عن دار المستقبل العربي في بيروت وهو ترجمه لكتابه الصادر باللغة الإنجليزية عن جامعة أوكسفورد في عام 1988، بعنوان "الأبوية الجديدة: نظرية التغيير المشوه في العالم العربي". إن دراسات شرابي والدراسات الاجتماعية الأخرى عن بنية السلطة في المجتمعات العربية ومشكلاتها، تسلط الضوء على النتائج المترتبة على الاستعاضة من أزمة الحداثة في المجتمعات العربية ببرامج للتحديث، ساهمت في تحديث الأبنية التقليدية دون تغييرها، الأمر الذي منح هذه الأبنية مقومات جديدة للبقاء والاستمرار، أدت إلى تحديث البني التقليدية ولم تسمح بظهور الأبنية الجديدة. 

إن أحد الأسباب الرئيسية لغياب ثقافة الحوار في مجتمعاتنا هو سيادة الثقافة الأبوية التي تنطلق من فكرة "هيمنة الأب على العائلة"، وما يترتب على تلك الهيمنة. والهيمنة، وهي مفهوم وضعه الفيلسوف والسياسي الإيطالي أنطونيو جرامشي (1891- 1937)، يختلف عن مفهوم السيطرة، ذلك أن الهيمنة تنطوي على عنصر شرعية المسيطر ومشروعية سيطرته المستندة إلى فكرة اقتناع المحكوم وقبوله لهذه السيطرة ونتائجها. إن فكرة الهيمنة هذه هي التي تمنع نشوء الحوار في المجتمعات التي تتحكم فيها الثقافة الأبوية التي تنطلق من فكرة أن الأب هو الذي يمتلك الرؤية الصحيحة والرأي الصائب، الذي يحقق مصلحة تابعيه. ويترتب على غياب الحوار وأدواته ووسائله وثقافته، أن معارضة السلطة الأبوية تتخذ غالباً صورة العصيان والتمرد، فالتطرف في ممارسة السلطة وفرضها، يؤدي غالباً إلى تطرف في معارضتها والخروج عليها. ومن شأن شيوع ثقافة الحوار في المجتمع عدم التطرف في ممارسة السلطة وعدم التطرف في المعارضة والخروج على السلطة.

مقومات ثقافة الحوار وتفكيك بنية الاستبداد

المقصود بثقافة الحوار هو ترسخ الممارسات القائمة على مبادئ أساسية في المجتمع أو لدى جماعته المختلفة. في مقدمة هذه المبادئ فكرة المساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات والالتزامات، بما في ذلك حقهم في التعبير عن آرائهم بحرية، ومنها أيضاً الإيمان بأن لدى كل فرد ما يضيفه، ومن ثم يجب الاستماع الفعال لما يقوله، وأن العلاقات بين الأفراد تقوم على الاحترام المتبادل والتسامح. بالتأكيد هناك مهارات للحوار ممكن التدريب عليها واكتسابها في ظل شيوع ثقافة الحوار، منها مهارات التعبير عن الأفكار بوضوح، وامتلاك مهارات إثارة النقاش البناء وإدارته، وعدم الاستبداد بالرأي والرغبة والحرص على التفاهم المتبادل بين المتحاورين. المهم هنا التنبيه إلى أن غياب ثقافة الحوار مرتبط ارتباطا وثيقا بالطابع الاستبدادي للسلطة، وأن هذا الاستبداد لا يقتصر على الحاكم وحده وإنما قد يصبح نمطاً عاما في المجتمع، لاسيما لدى المحكومين المقهورين الذي يميلون لممارسة أشكالاً من الاستبداد في مواجهة الآخرين الذين يميلون إلى التعبير عن آراء مخالفة لرأي السلطة أو لآرائهم هم، وكنوع من التعويض عن القهر الذي يعانونه يمارسون تعنتاً في التمسك برأيهم، ورفض الرأي المخالف وعدم التجاوب معه، الأمر الذي يفتح الباب إلى شيوع الجدل والمجادلة، وهي ممارسات شائعة في الثقافة الإسلامية، أو حتى السجال المعروف في الثقافات المختلفة. 

يشير السجال (Polemic) إلى أي خطاب خلافي في موضوع مثير للجدل يستهدف دعم موقف محدد من خلال تفنيد الموقف المعارض ونقضه وتقويضه، وغالبا ما يستخدم في الخطابات الدينية أو السياسية، حيث يؤسس الحكم أو الرأي على قضية إيمانية لا تقبل التشكيك فيها، ويعتمد في سياق الثقافة الإسلامية على سلطة "النص" أو سلطة "النقل"، واعتبار أن الاحتجاج بالنص يحسم أي نقاش، ويرفض الاحتكام إلى سلطة العقل. ويقصد بالجِدال، المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، والهدف منه أن يحاول كل طرف إثناء الطرف الآخر عن رأيه، وهو في أحد معانيه أقرب إلى المصارعة، حين يكون هدفه هو إسقاط الخصم على الجدالة، أي الأرض الصلبة، ومن معانيه أيضاً "اللدد في الخصومة والقدرة عليها"، ومن معانيه الإيجابية مقابلة الحجة بالحجة؛ وحسب عبد القاهر هو "دفع المرء خصمه عن إفساد قوله: بحجة، أو شبهة، أو يقصد به تصحيح كلامه"، والجدال بهذا المعني قريب من السجال الذي يتجاوز حد المناظرة أو المناقشة في مستواها البسيط ويعتمد على خطاب حجاجي يتطلع إلى القضاء على حجة الخصم، إن لم يكن يتطلع إلى القضاء على الخصم نفسه. 

إن شيوع السجال والمجادلة قائم على افتراضات أساسية، ليس همها الوصول إلى الحقيقة لسيادة الاعتقاد بأنه تم بالفعل الوصول إلى هذه الحقيقة وامتلاكها، والهدف هو التصدي لكل رأي مخالف من أجل ضمان انحياز الجمهور العام للحقيقة المفترضة. هذا الموقف ينفر من فكرة الاختلاف والخلاف ويعتبره سبباً تشتت الأمة وتفرقها، وهو من الأمور المذمومة في الثقافة الإسلامية السائدة ومرتكزاتها الإيمانية، لاسيما بعد غلق باب الاجتهاد. ورغم الاختلاف على أن هناك من أغلق باب الاجتهاد في الفقه الإسلامي، إلا أن المصادر التاريخية تشير إلى أن الخليفة العباسي، القادر بالله، المتوفى عام 422 هجرية، في مطلع ثلاثينات القرن العاشر الميلادي، حين قرر قصر مذاهب أهل السنة والجماعة على المذاهب الأربعة الكبرى. ومنذ ذلك التاريخ أصبح الاجتهاد مقيداً بما استقر عليه الأمر بخصوص المسائل الفقهية في واحد من هذه المذاهب، وهي حادثة أكدها الأصفهاني في كتاب "رياض العلماء"وقال إن كبار العلماء في ذلك الوقت اتفقوا على تحديد المذاهب. ولم يقتصر الأمر على أهل السنة والجماعة، كذلك أغلق باب الاجتهاد عند الشيعة، حسبما يرى الباحث الجزائري محمد أركون. ما كان يمكن لثقافة السجال والمجادلة أن تسود لولا اشــتغال منظومات الفكر الدينــي واللاهوتي قديماً على مبدأ الإقصاء المتبادل؛ أي سعي كل فقيه أو فريق من الفقهاء إلى إقصاء المخالفين في الرأي. 

إن الطرح الذي يقدمه أركون بطرح فكرة"العقل المتطلّع" التي تحتاج إلى التخلص من الأفكار اللاهوتية القديمة التي قامت على الإقصاء المتبادل، وتفكيك ما أسماه "السـياج الحداثي للعقل البشـري" والأيديولوجيات الحداثية التي تقوم على تهميش المسألة الدينية والأخلاقية، هو في حد ذاته مثال لثقافة الحوار بين الأفكار الغائبة في مجتمعاتنا على مستوى النخبة والرأي العام على حد سواء. إن غياب الحوار وثقافته هي واحدة من أزمات التواصل على مستوى الأفكار وعلى مستوى الفعل الاجتماعي على حد سواء وغياب نظرية للفعل التواصلي على النحو الذي صاغها المفكر الألماني يورجين هابرماس في كتابه الصادر تحت هذا العنوان في مجلدين خصص الأول منها لعقلانية الفعل وما أسماه بالعقلنة الاجتماعية، وخصص الثاني لنقد العقل الوظيفي. إن الفعل التواصلي هو فعل مؤسس على الحوار بالضرورة، فالحوار من ركائز التواصل الثقافي بين الأفراد داخل الجماعات الصغيرة، وفيما بين الجماعات الصغيرة داخل المجتمع، وأيضا فيما بين الشعوب والمجتمعات. والحوار بات من ضروريات العصر الحديث، حيث لا يمكن التعايش والتفاعل والتفاهم إلا بقبول الآخَر، والانفتاحِ على الآراء وتبادل الأفكار. وهو الطريق الأسلم لتجاوز الأزمات والمشاكل بين المجتمعات والسلطة، وما بين المجتمعات المحلية أنفسها، وما بين الدول، وهو الذي يساعد على فهم الاختلافات بين الثقافات والعمل على تقريب وجهات النظر حول الموضوعات الشائكة، وغيابه يعني الحالة النقيضة لكل ما ذكر.

لسنا هنا بصدد التأكيد على أهمية الحوار وضرورته بالنسبة لمجتمعاتنا على المستويات المختلفة، وإنما نحن بصدد تأكيد أن الحوار هو العملية الاجتماعية والفكرية التي تعمل على بناء أرضية مشتركة من خلال تبادل الآراء والجدل فيما بين الأفكار والقوى المتناقضة والمتصارعة من أجل الوصول إلى تأليف أعلى من الفكرة ونقيضها، تساعد على بناء أرضية مشتركة تجمع المكونات العرقية والدينية وتحقق التمازج فيما بينها، فثقافة الحوار هي الأساس لتأسيس فكرة العيش المشترك من خلال بناء جسور الثقة وقبول الآخر. 

إن هذا الحوار ضروري لكي يعمل التنوير بطريقة جدلية، وهو ضروري أيضا من أجل بناء توافق عام حول ما المقصود بالتنوير وآليات عمله، وهو ما سنتناوله في المقال القادم.
------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

في التنوير وأزمته (4) | فرج فودة والتنوير الجذري: المثقف ومعضلة السياسيين