03 - 06 - 2025

سعد البهنساوي.. صانعُ البهجةِ والحزن!

سعد البهنساوي.. صانعُ البهجةِ والحزن!

لم تحزن القريةُ على فَقدِ أحدٍ كحُزنها على فَقِده، ولم تشعر النسوةُ بمرارة الثّكلِ إلا بسماعِ خبرِ رحيله.

لم يَخلُ بالقرية بيتٌ إلا وسكبتْ نسوتُه دمع العين مدرارًا، ولولا أنّ شقّ الجيوب ولطمَ الخدود حرامٌ لفعلن.

كيف لا، وهو من رَسمَ الفرحة على وجه كلّ أبٍ، تاقت نفسه ليكون ابنُه مثلَ سعد، الذي صار تحقيقُ ما حققه من نجاح غايةَ كلّ أسرة بها طالبٌ متفوق، داعبَ الأملُ خيالَ أبيه، ودغدغتْ الأماني مشاعرَ أمه، فرفعت أكفّ الضّراعة تسألُ المولى أن يكون ابنُها مثلَ الفقيد علمًا، وخلقًا، ووداعةً، وحُسن سيرة.

ولم يقتصر الطموحُ على أرباب الأسر وفقط، بل خالطتْ بشاشتُه قلوب الطلبةِ أنفسِهم، فتطلع كلّ طالب للتفوق، ووطن نفسه بأن يكون هو (سعدَ القادم)، فيجعل من قريتنا محطَ أنظارِ مصر كلها، مثلما فعل الفقيدُ - طيب الله ثراه -.

أعلمُ أنّ الكتابة عنه لن تفي ذِكرَ مناقبه، بل وستنكأُ جروح كثيرين وأنا منهم، إلى جانب أهله، الذين ترك رحيلُه في نفوسهم جرحًا غائرًا أبدًا لن يندمل. ومعهم الحق في ذلك.. فبموته صدقَ في أحبائه قولُ الشاعر:

والعينُ بعدهمو كأنّ حداقَها .. سملت بشوكٍ فهي عورٌ تدمع

ولكن لا حيلة لهم، ولي وللكثيرين إلا الصبر والاحتساب.

ومع كامل إيماننا بالقدر، إلا أنني أثمنُ قولَ طرفة بن العبد:

أرى الموتَ يعتامُ الكرامَ ويصطفي .. عقيلةَ مال الفاحشِ المُتشدد 

والمؤكد أنّ حصول الفقيد على المركز السابع بالثانوية العامة، لم يكن ضربة حظ أو خبط عشواء، بل كان نتيجة تحمل للمسؤولية، وسعيٍ دؤوب لتحقيق الهدف، ووصلٍ لليل بالنهار؛ لإسعادِ أبوين فقيرين، ثروتُهما عَرقُ الجبين، لإطعام عددٍ من الأفواه الجائعة من بينهم سعد، فخر قريتنا بلا مُنازع، وعلى الدوام.

عجيبٌ أمرُك يا سعد، فكما جمَّعت القرية على فرحٍ لم يسبق لها أن تذوق طعمه، جمَّعتها أيضًا على حزن لم يسبق لها أن تُعاني مرارته ولوعته، ولكنه القدر، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا.

فرضتْ ظروفُ الحياة الخشنة على الفقيد معالمَ الرجولة، منذ نعومةِ أظفاره، فوَازنَ بين العمل والمذاكرة، وإن لعب كما يلعب الصبية وقت الفراغ - وقلما كان ذلك - لم تتركه فرحةُ الخلطة واللعب أن يضحك ملء شِدقيه، بل كان دائم الوجوم، شاردَ الفكر، تظنُه يحمل همّ الدنيا فوق رأسه.

هذا ما أسرّني هو به يومًا بعد تخرجه في كلية السياحة والفنادق، إذ أكد أنّ سببَ شرود ذهنه في أكثرِ لحظات المرح، هو تطلُعه لميلاد ذلك اليوم الذي يرفع فيه الحِملَ عن كاهل والده، الذي حَرَمَ نفسه من الطعام والشراب من أجل أولاده الصغار، وتطلُعه أيضًا لأن يملأ قلب أمه فرحًا، بعدما ضحت بمُتع الدنيا من أجل أبنائها، وإن كان القدرُ لم يمهله لتحقيق ما أراد، فتكفيه نيتُه، وحقًّا يبلغ المرء بنيته ما يُبطئ به عملُه.

لم يكن سعد البهنساوي شخصًا عاديًّا، بل كان نموذجًا للجد في أبهى صوره، ومثالًا للرجولة في أسمى معانيها، كان ترجمة لقيمة الإيثار لا يشبهه فيها أحد، خالفَ بإيثاره بقية المتفوقين، الذين لم ينشغلوا إلا بأنفسهم، أمّا هو فلا، إذ كان خدومًا لزملائه إلى أقصى درجة، مُتعاونًا مع خلانه إلى أبلغ حد، غير ضنين بالمساعدة والعون متى طُلب منه، حتى وإن لم يُطلَب.

كان الفقيد يكبُرني بعامين، وآلمه أشدّ الألم أفولُ نجمي بعد سطوعه، وتعثري في بنيات الطريق، فمدّ لي يده، وأكد أنّ كلًّا مُيسرٌ لما خُلق له، وأن الإخفاق ليس نهاية الكون، ما دامت هناك إرادة. فكانت كلماته ترياقًا لدائي العضال، وجرحي النازف.

كانت الكتابةُ عنه محلَ اعتبار، ولكني كنتُ أُرجئها لأستعد وأحتشد؛ وذلك لعظمة صاحبها، فحضّني عليها أخٌ نبيل، لا يُعصى له أمر، أو يُرفض له طلب، ودعمني بعددٍ من المناقب، التي عرفها عنه بسبب مجاورته له، منها: حرصُه على صلاة الجماعة بالمسجد خاصّة الفجر، الذي ما غاب عنه يومًا صيفًا أو شتاءً، وكذلك برّه بوالديه، وعمُله المتواصل في ورشة أبيه، التي تشققت فيها يداه، وتواضُعه الذي جعله يفتخر بمهنة أبيه، و يُصرّ أن يصوره التليفزيون، أثناء تكريم وزارة التربية والتعليم أوائل الثانوية العامة، وهو يُزاول حرفة صناعة أقفاص الخضر والفاكهة من سعف النخيل، ومنها عبقريتُه الفذَّة، التي مكنته من تعلم وإتقان سبع لغات، وغيرها الكثير والكثير.

ورغم روعة ما ساقه جارُه، إلا أنّ هناك موقفًا لا أنساه، كانت بعده النهاية الموجعة، إذ قابلني الفقيدُ يومًا، ممتقعَ اللون، زائغ البصر، فارتبتُ؛ لأنها لم تكن عادته، بل كنا نلقاه نحمل همّ الدنيا فوق رؤوسنا، فيُسري هو عنا، ويمسح دموع أعيننا بأنامله الحانية، وحكمته المعهودة، وتوجيهه الرشيد.

سألته عن سبب حزنه، فردّ بصوت سبقته دموع عينيه: "لم أعد أقوى على العمل بمجال السياحة المشبوه؛ لمخالفات يشيب لها الولدان، وإن نجوتُ من الإغواء والإغراء مرة، فلن أنجو على الدوام، وساعتها أكون قد أفسدتُ أخراي بدنياي، فلست أقوى من نبيّ الله يوسف القائل: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ)، فقررتُ ترك العمل بالسياحة، والالتحاق بالدراسات العليا لإنجاز رسالتي الماجستير والدكتوراه". فقلت له: "إي وربي، نعم الرأي أصبت". فردّ، وقد تهللتْ أساريرُه: "كان يهمني رأيك، الذي أثق به، إذن فغدًا سأذهب لمقر عملي، أُحزم حقيبتي وأعود أدراجي؛ لأتفرغ للدراسة".

في الصباح ذهب سعد لمدينة الغردقة، فجمع متعلقاته، وحزم حقيبته، وآب راجعًا، لكنّ القدر لم يُمهله، إذ حلّق طائرُ الموت فوق رأسه، فتعرض لحادث أليم، ودّع على أثره الحياة في سكينة وهدوء، غير آسفٍ على دنيا خدّاعة، سرعان ما يتحول فرحُها إلى حزن وشجن.

سعد البهنساوي سيمفونية رائعة للصبر والجلد، وبرهانٌ ساطعٌ على نقاء الفطرة، وصفاء السريرة، وإيثار الآخرة، التي أجزم أنه يتنعم فيها - بفضل نيته الخالصة - في جنان الخلد عند مليك مُقتدر.. وداعًا حبيبي، و قبولًا لك في الصالحين برحمة أرحم الراحمين.
-------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام


مقالات اخرى للكاتب

سعد البهنساوي.. صانعُ البهجةِ والحزن!