في ظل المنعطفات التي يمر بها المسرح في لحظتنا الراهنة نتيجة للمتغيرات المعرفية المتسارعة. يتردد في سياقنا المسرحي سؤال مركزي هو أين دور النقد المسرحي لرصد هذه الحالة؟، ويولد من رحم هذا السؤال سؤال آخر ذو طبيعة استنكارية وهو هل لدينا نقاد مسرح؟، أو لماذا لم يعد لدينا نقاد نجوم؟. تكشف هذه الأسئلة عن خلخلة وضعية سلطة الناقد المسرحي في عصرنا الحالي، هذا ما يستدعي فض اللوحة المعرفية التي أدت إلى تقلص دور الناقد ووصلت علاقته مع أطراف العملية الفنية إلى منطقة الاهتزازات المعرفية.
إن طرح هذا السؤال عن دور الناقد المسرحي في تلك الفترة هو دليل وعي أطراف العملية الإبداعية بأهميته، وللإجابة عليه علينا أن نضعه في إطار الشروط الموضوعية في المجتمع التي تؤسس المسرح والنقد معًا. هذه القراءة تجعلنا نحفر في الميثاق المعرفي الذي يربط بين الناقد والمجتمع وأي خلل فيه ينسحب على علائق التواصل بين المبدعين والنقاد، لنكون بمأمن من الانزلاق في متاهات سجال معرفي بين المبدعين والنقاد ولا يفضى إلا إلى حالة من الضجيج بلا طحن تنطوي على حالة التشاحن والتناحر تؤدي في النهاية إلى نفي كل منهم لبعضهم البعض.
في البداية، يتأسس حضور الناقد في المجتمع على مفهوم الوساطة هو شخص وسيط بين أطراف العملية الإبداعية والقراء لصناعة المعنى في المجتمع، وإقامة حوار معرفي/ جمالي حول الإبداع الفني. لذلك تعد وظيفة الناقد شديدة الأهمية بالنسبة للإبداع؛ لأنها بمثابة عين أخرى موازية للمبدع ترى في إبداعه ما لم يره هو نفسه، لأن طبيعة إبداعه الفني تقوم على عوامل واعية ولا واعية، وإرادية ولا إرادية، وبالتالي يتحول النقد إلى إبداع موازٍ لكتابة المبدع.
يبدأ الخلل في الميثاق المعرفي للنقد المسرحي بين النقاد والمبدعين حول فهم طبيعة القراءة النقدية، لأن بعض النقاد ينصبون أنفسهم سلطة قامعة أشبة بسلطة الديكتاتور في صناعتهم للمعنى للعمل الفني، ويصدرون قراءة أحادية منغلقة تقوم على منطق ما ينبغي أن يكون عليه العمل، وتنطوي هذه القراءة على حكم قيمة غرضها البحث عن مسالب العمل الفني في الأساس ومحاولة تصويبه، وبدلاً من الحوار الخلاق مع المبدع والتفكير معه لكشف ما هو معتم وتفسير دلالته.
أما بالنسبة للمبدع يعتبر عمله الفني صورة شخصية له ويسحبه إلى ذاته فأي نقد له يعتبر إهانه شخصية له لأنه يريد من قراءة الناقد أن تمجد في إبداعه، هذا الفهم الخاطئ لطبيعة القراءة النقدية يشترك فيه المبدع أيضًا، خاصة أن بعض المبدعين يرون أن دور القراءة النقدية الحقة من وجهة نظرهم ذات بعد تسويقي لذواتهم يقوم على التمجيد في شخصيتهم الفنية للحصول على مكتسبات مسرحية وليس قراءة لمنتوجاتهم الإبداعية من أجل فهم أفضل. لذلك يتحول أي خلاف بين المبدع والناقد إلى معركة ترفع فيها الأسلحة البيضاء الأيديولوحية؛ يفوح منها رائحة الموت الرمزي الذي يجب أن ينتهي بهزيمة أحد الطرفين.
من تلك الزاوية تنشأ الأزمة الحقيقية للنقد المسرحي، ووصل هذا المأزق المعرفي إلى منتهاه عندما تحول الحوار المعرفي بينهما إلى حوار شخصي تحكمه علاقات المصلحة، يحكمها هدف خفي هو الحصول على المنافع والمكتسبات. وبرع بعض المبدعين في ترسيخ تلك الوضعية عندما نجحوا في استقطاب بعض النقاد الذين يروجون لأعمالهم واقتصر الأمر إلى مجرد تغطيات وريفيوهات تحتوي على بعض الآراء الانطباعية حول جودة بعض عناصره. ووصل هذا الفهم المغلوط من الطرفين لطبيعة عمل الناقد إلى تهميش النقد المسرحي كإبداع موازٍ، ووصل الأمر إلى حد اقصائه من جهة، ومن جهة أخرى اغتيال وجود العمل الفني.
في ظل تلك الوضعية التي ترتكز على الطابع الشخصي بين المبدع والناقد، وعانت بعض الأصوات النقدية التي مازالت قابضة على الجمر النقدي؛ وتحاول أن تقيم حوارًا معرفيًا بين النقد والمسرح من التجاهل وحجب الفرض أحيانًا، وتم وصفهم في بعض الأحيان بأن كتاباتهم تستعصي على الفهم أو هم أكاديميون يتعالون على الواقع المسرحي، لأنهم يكتبون في مناطق تثير أحيانًا المسكوت عنه في العمل الفني، وخرجوا عن الأعراف السائدة وهي أن يكتب النقد في المنطقة الأمانة التي لا تثير اختلافات، لنصل إلى اقصاء دور النقد المسرحي كعنصر فعال ومشارك في صناعة الرأي العام حول طبيعة المسرح وأهميته.
وهناك زاوية أخرى لا تقل أهمية عن السابقة وتتعلق بالمدى الوجودي لوسيط الناقد المسرحي في الحوار المعرفي مع أطراف العملية الإبداعية وهي وضعية الكتابة في المجتمع. ففي ظل عصر يحكمه منطق الصورة وهيمنة وسائل الاتصال الاجتماعي على كافة مناحي الحياة، أصبح لكل شخص صفحة تحولت إلى منبرً إعلامي خاصً به يدلو بدلوه في الشأن العام؛ ويمكن أن يكتب رأيه في العمل المسرحي الذي شاهده. بجانب لجوء المبدعين إلى صنع صفحات خاصة للعمل الفني على مواقع التواصل الاجتماعي يقول فيها الجمهور والمهتمين بالمسرح ارائهم حول طبيعة العمل الفني، فحل ال post وطبيعته الإنطباعية السريعة بديلا عن المقال النقدي المتعمق والمحلل للعمل الفني. أدت هذه الوضعية إلى زعزعة سلطة الناقد كوسيط بصورة مباشرة وغير مباشرة عن طريق جهات ثلاثة:
أولاً: لم يعد الناقد هو شخص يمتلك معرفة خاصة يحتاجها المبدع للوصول إلى الجماهير لتسويق عمله، بل أصبح هناك تعامل مباشر مع الجماهير من خلال هذه الصفحات وتساهم في الترويج لعمله.
ثانيًا: هي أن كتابة الناقد ومقالته في الماضي بمثابة ذاكرة توثيقية لعمل المبدع وتجعل اسمه خالدًا على مر العصور؛ وتكسبه الديمومة والاستمرار لأجيال متعاقبة وبها يتغلب على طبيعة عمله اللحظي/ الزائل، حلت محلها مواقع التواصل الاجتماعي واضفاء صفة الوجود في التاريخ على عمل المبدع.
ثالثًا: طبيعة النشر الألكتروني الذي يمتاز بالسرعة في رصد رد الفعل حول العمل الفني، ولا تستطيع أن تجاريه طبيعة إنتاج القراءة النقدية للناقد الذي تتحكم فيه طبيعة المؤسسات الصحفية واجراءتها المعقدة في النشر.
يبدو أن هيمنة المواقع الألكترونية وتعاظم أهميتها زعزعة من سلطة النخب التقليدية كالمفكر والفيلسوف والناقد؛ وأدى إلى تراجع وجود المؤسسات التقليدية التي تظهر فيها مقالة الناقد كالمؤسسة الصحفية ومعاناتها في ظل واقع متغير. وعندما يلجأ الناقد لنشر قراءته على هذه المواقع تتوه في متاهات الفضاء الرقمي. كما أن طبيعة القارئ المعاصر لا تصبر على التحليل والكتابة المتعمقة ويحتاج إلى حكم قيمة سريع في بعض الأحيان.
لقد فرض تراجع دور المؤسسات التقليدية تحديات جديدة على الناقد المسرحي لا يتعلق بجانب معرفة الكتابة وانتشارها فقط؛ بل تعلق بعلاقات القوى الاقتصادية، لقد أدت وضعية اقتصاديات الكتابة النقدية الناقد المسرحي في مأزق نتيجة لقلة مردودها المادي العائد. وأصبحنا نسأل هل النقد المسرحي مهنة أم دور اجتماعي، فإذا كانت الإجابة مهنة فإن الشروط الموضوعية التي يعمل فيها الناقد تنفي ذلك، أما إذا كانت الإجابة دور اجتماعي، فإنه أصبح يثقل كاهله وبمنطق الربح والخسارة غير مجدي لمقاومة متطلبات الحياة واعبائها أو تطوير أدواتهم النقدية ورفع كفاءاتهم بالقراءة والإطلاع، واضطر بعض النقاد إلى الانسحاب من ساحة النقد المسرحي لعدم وجود مردود مادي كافي.
وبدأ يتقلص دور الحركة النقدية رويداً رويدًا في متابعة الإنتاج المسرحي نتيجة غياب دعم المؤسسات المختلفة، وأصبح النقد يتأسس على "أنات نقدية" تجاهد منفردة في قراءة الأعمال الفنية بدون غطاء مؤسسي، وتحولت القراءة النقدية من طابعها المجتمعي إلى طابع فردي. لعل هذه اللوحة المعرفية المرتبكة التي يعاني منها النقد المسرحي، والمشاكل التي تواجه الناقد المسرحي جعلت خريجي طلاب النقد المسرحي من الأكاديميات والجامعات؛ يرون الأفق مسدودا وعليهم البحث عن مجالات أخرى ليواجهون بها أعباء الحياة، وانعزلت المؤسسة التعليمية عن الحياة المسرحية، لأنها افتقدت شرطا أساسيا من مبررات وجودها وهو ارتباط الدراسة بسوق العمل.
وفي النهاية، الصورة ليست بالغة القاتمة أو دخلت في نفق مسدود، وليس الهدف من هذا الرصد هو إعلان موت الناقد ودفنه في مقبرة التاريخ، بل المقصود هو احياء دور الناقد المسرحي وإزالة العوائق التي تكبل دوره وتُحدث خلل في وجوده وتهز سلطته المعرفية، ويتم ذلك عن طريق تحسين شروط عمل الناقد من جهتين، الأولى: الناحية الأقتصادية وتوفير منابر نقدية لممارسة دوره مقابل مردود مادي يتيح له تطوير أداوته، أما الثاني: من الناحية المعرفية في أن يعي النقاد دورهم الحقيقي وأنهم ليس بوق دعاية للمبدعين ويقومون بترويج للعمل الفني فقط، بل لهم دور تاريخي هو أن كتاباتهم بمثابة ارشيف كبير يُدَّون العمل الفني ليبقى في التاريخ. بالإضافة إلى استعادة دور المؤسسات الأكاديمية ودورها في التأهيل الجيد لنقاد المستقبل حتي يظهر لدينا نقاد نجوم مرة أخرى على شاكلة نهاد صليحة وحسن عطية.
--------------------
بقلم: د. محمد سمير الخطيب
ناقد مسرحي وأكاديمي