04 - 06 - 2025

الوحدة .. جنة الصمت أم جحيم العزلة؟

الوحدة .. جنة الصمت أم جحيم العزلة؟

في رواية الكاتب محسن الغمري "لا لون هناك"، يشكو بطل الرواية من انقطاع التواصل بينه وبين أولاده وتحول ممر الشقة - الرابط بين غرف النوم ودورة المياه والمطبخ - إلى المكان الأكثر احتمالاً للقاءات الصدفة بينهم، فدفعه الضيق إلى تمنى إقامته وحيدًا، وعندما واتته الفرصة بانتقال ابنته إلى منزل الزوجية وهجرة ابنه، رأى في الشقة الخالية مملكته الخاصة.

مرت عليه الأيام مستمتعًا بوحدته، حتى باغته ذات صباح غول الملل المخيف فتحولت وحدته إلى كابوس، وفقد شغفه بالحياة، وشعر بأنّ هناك كائنًا هائلَ الحجم يشاركه المنزل اسمه "الفراغ"، زاد منها ما فرضته التكنولوجيا الحديثة من عزلة على الجميع.

ذكرتني تلك التيمة بقصة قصيرة مترجمة كنت قد قرأتها منذ مدة طويلة، وللأسف لا أتذكر اسم كاتبها، عن شاب يعاني جراء مشقة العمل ومضايقاتِ زملائه وجيرانه، فضلاً عن سكنه في غرفة ضيقة بحي شعبي يقتحمها ضجيج الشارع ليل نهار.

وفي إحدى الليالي وبينما كان يحاول عبثا منع ذلك الضجيج من الوصول إلى أُذنيه، راح يتمنى لو أن الله خلصه من هذا العذاب، وفي الصباح فتح عينيه فظن أن الوقت ما زال مبكرًا، إذ كان هناك صمت شامل، لكن ما أن وقعت عيناه على النافذة حتى وجد الشمس في تمام إشراقها فانزعج جراء تأخره، وكست وجهه مشاعر ضيق، تخيل معها مديره يؤنبه أمام زملائه كعادته دائمًا، فاستلقى مستسلمًا محبطًا، وإن لفت انتباهه ذلك الهدوء المقيم، فلا أصوات أبواق، ولا صراخ جيران، فنهض من سريره وفتح النافذة على مصراعيها، فردد الفضاء صدى ارتطامها بالجدار وراح يتأمل الشارع في ذهول، تجمد كل شيء، كأنما الحياة شاشة فيلم توقف عرضه فجأة؛ فهذا رجل يهم بعبور الشارع، وذاك تجمدت ذراعاه وهو يقرأ الجريدة على الرصيف، وتلك تقبض بيدها على صغيرها، الكل في وضع ثبات حتى السيارات توقفت مكانها ووحدها تتغير إشارات المرور دون جدوى. سأل الشاب نفسه، أبهذه السرعة استجاب الله دعاءه.

ارتدى ملابسه وخرج فوجد الجيران على حال تشابه حال ثبات أهل الشارع، تجمد رجلان كانا يتحدثان أمام باب أحد الشقق، وتلك ساق تسبق أخرى أثناء صعود السلم، وتلك سيدة لم تنته بعد من نشر ملابس أولادها على الحبل.

نزل الدرج مسرعًا ودخل أقرب محل واختار منه ما يشتهي لفطوره، وتخير أغلى سيارة وتجول بها في الشوارع وحيدًا إلى أن وصل إلى عمله، فرسم على وجهه ابتسامة كبيرة لأن مديره لن يوبخه، بل ولن يراه ثانية، وعندما حل موعد الغداء دخل المطعم المقابل وتخير أفضل الأطباق دون أن يشغل باله بالأسعار، هذا المطعم الذي طالما نظر بحسد تجاه رواده الأغنياء.

وعندما حان موعد انصرافه استقل السيارة، وقصد إحدى الفيلات الفاخرة وقرر الإقامة بها بديلاً عن غرفته المتواضعة، ومرت به الأيام على هذه الوتيرة، يستمتع ما وسعه الاستمتاع، إلى أن استيقظ ذات ليلة على آلام مبرحة في بطنه، وعبثًا لم يجد في الفيلا دواء يخفف آلامه، فأسرع إلى الهاتف وطلب المستشفى وسمع صوت رنين الجرس على الطرف الآخر دون رد، فلعن المستشفيات ومن يعملون بها، ثم اتصل بالصيدلية فتكرر ما حدث مع المستشفى، ثم ضرب جبهته ببطن كفه الأيمن وتذكر أنه الكائن الوحيد الحي في المدينة، وأن لا أحد يمكنه إنقاذه فسكانها في حالة ثبات، فشعر بضآلة نفسه ووهنه، وتمنى لو أن الله لم يحقق له أمنيته تلك، لكن آلام البطن لم ترحمه وأجبرته أن يطلق صرخة عظيمة رجته في سريره، حينها عادت الضوضاء تملأ أذنيه وإذا هو ممدد في غرفته فعرف أنه كان يحلم.

العزلة في قوقعة الوحدة أو خلوة في كوخ النفس، يمكن أن تكون متنفسًا لبعض الوقت، لا تبالغ في الانزواء ويسحرك لمعان حرير العزلة، فيومًا بعد يوم سوف يصبح جدارًا سميكًا..

حذار أن تنزلق إلى فخ الوحدة.. ألق بنفسك وسط ضجيج الحياة، وتكلم حتى وإن اكتفى الطرف الآخر بالإنصات.. فما تظنه جنة صمت سيتحول في لحظة إلى جحيم عزلة يصعب إطفاؤه..
----------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط



مقالات اخرى للكاتب

حول (الوحدة.. جنة الصمت أم جحيم العزلة؟)