06 - 06 - 2025

فاروق جويدة بين الغيرة الوطنيَّة والموضوعيَّة

فاروق جويدة بين الغيرة الوطنيَّة والموضوعيَّة

تعريف الثقافة: لا نجد تعريفًا محدَّدًا وجامعًا مانعًا للثَّقافةِ؛ وذلك نظرًا لاشتمالها كثيرًا من المجالات، وتداخلها مع بعض المفاهيم والمصطلحات، فثقافة الفرد تختلف جذريًّا عن ثقافة المجتمع، كما أنَّ للثَّقافة فروعها المتعدّدة، ومواردها الكثيرة المتفرعة عنها. ويمكن اختصار التعريف في النص الآتي: "الثقافة هي النظام الذي يشمل المعرفة، والمعتقدات الدينية، والآداب، والفنون، والإدارة، والأخلاق، والعادات والتقاليد.

الثقافة هي طريق الإنسان للوصول إلى الرقيّ، وفهم وإدراك جميع الاحداث في مجتمعه، وتجعله يفكر بشأنها".

وتنقسم الثقافة إلى قسمين:

الأول: ثقافة مادية ملموسة؛ مثل: فن العمارة، والفنون التشكيلية، والأدب، والسينما.

الثاني: ثقافة غير مادية؛ وتضم كل ما هو غير محسوس، كالعادات والتقاليد، والتعامل في الأسرة، وفي المدرسة، والجامعة... إلخ.

الثقافة هي أهم ما يميز مجتمعًا عن غيره من المجتمعات.

يقسم إليوت الثقافة في كتابه "ملاحظات نحو تعريف الثقافة"، إلى ثلاثة مواقف هي:

1- موقف طوبويّ. 2- موقف جدليّ. 3- موقف تحليليّ.

وقد انشغل الرأي العام، الفترة الماضية، بما أشيع عن نفي الشاعر والأديب الكبير فاروق جويدة الثقافة في الفترة الحالية. وانقسم المثقفون إلى مؤيد، ومعارض، ومحجم عن الرأي تخبطًا وعجزًا عن الحكم، كما ذهب  كثيرون إلى السخرية، وإن افتقد كثير من هؤلاء الفرقاء الموضوعية، وتأسيس الحكم على أسس موضوعية، تقرأ هذا الواقع الثقافي الجديد، الذي يصفه جويدة من خارجه تقريبًا؛ لأنه يقيسه بمعايير فترة سابقة، تشكلت فيها المفاهيم المستقرة للسياسة، والثقافة، والهوية، والأدب، والوطنية... إلخ.

لا يمكن لمنصف أن يشكّك في فاروق جويدة وغيرته الوطنية على بلد أنجب الليث بن سعد، واستقبل الشافعي، وولد على ترابه السيوطي، والمحلي، والإسناوي، والقلقشندي، وابن منظور، ومشاهير قراء كتاب الله، وعلماء الأصول، والفقه، والقراءات، والحديث النبوي، وقمم الشّعر العربي في عصوره المختلفة؛ كابن وكيع التنيسي، وظافر الحداد، وابن سودون، وابن النبيه، وابن نباتة، والبهاء زهير، وصولًا للطهطاوي، والطنطاوي، وطه حسين، والعقاد، والمنفلوطي، ومصطفى مشرفة، وطلعت حرب، وسميرة موسى، وشوقي، وحافظ، وعبدالرحمن بدوي، وزكي نجيب محمود، وعبدالوهاب، والسنباطي، وبليغ، وبركات، وصلاح أبو سيف، ويوسف شاهين، وفطين عبدالوهاب، ومحمود مختار، وبيكار، وطوغان، و هلم جرًّا من القمم الشامخة في كل مناحي الثقافة بمعناها الواسع!

ولعلنا إذا طلبنا من أرباع المثقفين أن يذكروا لنا مئة قمة مصرية، في عصر الثقافة المصرية الذّهبي، فسيتجاوزن العدد براحة ويسر.

ولكننا مع هذا السعار الإلكتروني، لو طلبنا من مثقف يدّعي الثّقافة، أن يذكر لنا نصف العدد المئوي أو ربعه، أعوزته أسماء هؤلاء العباقرة النوابغ في الثقافة، والفكر، والفلسفة، والرَّسم، والنَّحت، والأدب، والموسيقا، والإخراج، والتَّصوير، والكتابة المسرحيَّة... إلخ!

وسأسرد سبعة أسباب أو مآزق، تؤدي إلى ضبابية المشهد الثقافي المصريّ، والعربيّ بالتّبعية، بل العالميّ أيضًا.

والسَّبب الأوَّل في رأيي: أنَّنا نمرّ بمرحلة سيولة ثقافيَّة، صنعتها الفوضى التكنولوجية؛ فصار المتلقّي يوزع أجهزة تلقيه على عشرات التافهين، قبل أن يصل إلى قرار، فيقرأ لصنع الله إبراهيم، وإبراهيم عبدالمجيد، ومحمد المنسي قنديل، وأهداف سويف، وسعد مصلوح، وأحمد عفيقي، ومراد مبروك، وشريف صالح، وأكرم السعدني، وعز الدين شكري، وأحمد الشهاوي، ومنى سلامة، وعبير سلامة، ومي التلمساني، وريم بسيوني، وميرال الطحاوي، وناصر عراق، وعادل عصمت، وهالة البدري، وسحر الموجي، ومحمد المخزنجي، وعبدالرحمن عبدالسلام، وسوسن ناجي، ومنصورة عز الدين، ومحمد عبدالباسط عيد، وعماد عبداللطيف، وعمار علي حسن، وأيمن تعيلب، وحسين حمودة، وعلي حسن، ومصطفى بيومي، وصلاح السروي، وحافظ المغربي، ومحمد عبدالباسط عيد، وعاطف معتمد، وخالد فهمي، وعز الدين شكري، وشعبان يوسف، وياسر عبدالرحمن، ووليد سيف، وطارق التلمساني، وطارق العريان، وأنغام، وشيرين، وآمال ماهر، ووليد سعد، وشريف عرفة، وبلال فضل، وحسن عبدالموجود، وخالد الخميسي، وحسام فخر، وساندرا نشأت، ومحمود سرور، ورفعت سلام، وعمرو حسن، وجمال بخيت... إلخ.

المأزق الثاني: هو ثقافة التلميع المجاني لعديمي الموهبة، وهو تلميع محسوب ومدبر لحسابات كثيرة معقدة سياسية، واجتماعية، ودينية، واقتصادية.

المأزق الثالث: هو أن الزحام يصنع فوضى، واختلاط أوراق، وضبابية رؤية، فضلًا عن كونه ضجيجًا يصمّ ويعمي.

المأزق الرابع: هو استحواذ الفرقاء السياسيين على المشهد، خلال هذا الربع الأول من القرن الجديد، وتأخر صورة المثقف وراء السياسي، والإعلامي، والرياضي، والملمع لأسباب، والتافه الوضيع الموظف لأهداف كثيرة مختلفة مختلطة.

المأزق الخامس: غياب الفهم الموضوعي لمصطلح الثقافة؛ لغياب المواقف القوية التي يمكن أن يظهر فيها هذا المثقف بفكر منظم، متسق مع الواقع ومتجاوزه، على أسس ومرتكزات من الفهم العميق للواقع أولًا، والقراءات الغنية، والمواهب المتعددة.

المأزق السادس: غياب العبقريات الفردية في العالم، لصالح المؤسسات الاقتصادية الجبارة التي تصنع لحسابها، وتنفي أيضًا كيفما شاءت بمقياس الربح والخسارة، وتسليع الأفراد، والأعمال، والإنجازات في بورصة تحمل أسماءها؛ فطغت دار النشر على المنشور، والنادي على النجم، والمؤسسة على أفرادها، والجهات المانحة للجوائز على المبدعين الحقيقيين.

المأزق السابع والأخير: هو أنَّ مثقفي الستينيات، الذين كتب الله لهم العمر المديد، يشعرون بغربة حقيقية أو اغتراب على الأرجح، مع ثقافة تنتمي لمجموعات لا أفراد، وجداول متعددة لا نهر جامع، ومشاريع متنافرة، لا مشروع قومي جامع يصوغ الخيوط المشتركة، والملامح الواضحة، والأطر المحددة لمفهوم الثقافة، القادرة على صياغة واقع له ملامح هؤلاء وبصماتهم، لا واقع متشظ تعبث به أهواء كثيرة متصادمة، تنتهي بكل قواه إلى الضجيج المصمّ والأضواء المعمية!

الفترة التي نعيشها في بداية القرن الحالي، تشبه الفترة الأولى في القرن الماضي قبل ثورة 1919، التي وضعت الأطر المحددة لمفهوم الوطن، والوطنية، والجماعة، والجمهور، والدولة، والحرية، والعدالة، ودور المثقف في صياغة كل هذه المفاهيم لصالح الوطن الذي يسعى جويدة لنهضته ومحبته، وتدفعه الغيرة لنفي هذه الأمواج المتلاطمة، التي تتصارع لتشكل في النهاية ثقافة قرن جديد، مختلف في المنطلقات، والآمال، والهوية.

وقد كتبت سلسلة من المقالات عن عباقرة مصريين معاصرين، يمكنني أن أعيد نشرها في حلقات قادمة، بإذن الله تعالى؛ للتأكيد على نصاعة الثقافة المصريَّة، وقوّتها، وقدرتها على صياغة واقعها، وفق مفاهيم العصر ومعطياته ومراميه.
--------------------------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال (د. محمد عمر)
* أستاذ الأدب والنقد ووكيل كلية الآداب للدّراسات العليا بآداب العريش




مقالات اخرى للكاتب

فاروق جويدة بين الغيرة الوطنيَّة والموضوعيَّة