في تلك الأمسية القاهرية البديعة، قلت للدبلوماسي الأمريكي، إن بلاده ترتكب مخالفات كثيرة للقانون الدولي؛ منها مثلًا: قرار ترامب بنقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وكذلك إقرار قانون يسمح بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية. وأوضحت أن النظام الأساسي للمحكمة في إحدى مواده (70) يجرم أي فعل من أفعال التهديد، أو الترهيب، أو الانتقام من المحكمة أو العاملين فيها، باعتباره ابتزازًا أو عرقلة للمحكمة في أداء مهامها.
جادل في قيمة القانون الجنائي الدولي، وشكك في حياد المدعي العام، وفندت كل ما قاله، ففوجئت به يشيح بيديه، مشيرًا إلى الحاضرين على موائد العشاء، قائلًا لي بسخرية: "أنت مثالي جدًّا.. وذلك عيب خطير في العلاقات الدولية".
قلت له قبل أن أنهي النقاش: "أعترف أننا لا نعيش في عالم مثالي، ولكن لا بد أن نحاول الاقتراب من تخوم هذا العالم، وإلا فإن المصير مفجع".
لم أشأ أن أذكّره بأن ذلك هو ما يدرّسونه لنا في جامعاتهم، ويسودون به مئات الكتب، ويلقونه إلينا مثل موعظة الجبل ليل نهار.
عندما كنت أغادر القاعة، تأملت الوجوه الشرقية التي تعكس تعبيرات الانبهار، وتؤكد حالة الاستلاب "الوقوعي"، بينما الخطاب الشعبوي زاعق بالازدراء والكراهية لكل ما يمثله الغرب!
علاقة حب وكراهية في وقت واحد.. وجهان لعملة واحدة.. مشاعر تحت الجلد لشرقي متصلب، وفوق الجلد مستغرب مستنعم.
وجدتني أضحك، وكأنني أراهم ينهضون من خلف المناضد المنمقة، وهم يدورون حول منضدة الدبلوماسي الأمريكي، مرتلين في إيقاع منضبط : "نحن غرابا عك، نحن غرابا عك، عك إليك عانية، عبادك اليمانية، كيما نحج ثانية، لبيك اللهم هبل، لبيك يحدونا الأمل".
----------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق