لو طلبوا رأيي في استثمارات الجيش في المشاريع الاقتصادية المدنية، لقلت ماتمنيت قوله من زمن بعيد وخشيت أن يرموني بالجهل والسطحية والمزايدة مع المطبلاتية ..
والآن حانت فرصة القول.. ومن الواجب أن أبدأ معهم أولا بما يحبون أن يسمعوه.. أنا معكم في أن للجيش وظيفة واحدة سامية وفوق كل الوظائف الأخري، عند الحدود للدفاع عن تراب الوطن .. وسوف أزيد بما يزيد من ارتياحكم وأكرر علي مسامعكم الأوصاف الرائعة والجميلة التي يستريح لها الجميع عن القيمة والشأن العظيم للجيش.. هؤلاء ينقلون لنا النماذج العسكرية المثالية في العالم، دون نظرة خاطفة منهم ولو علي استحياء لظروف كل دولة،مع الأخذ في الاعتبار أن المثالية الكاملة لاوجود لها إلا في الكتب التي تبروز النظريات والأفكار الحالمة ..
أنا شخصيا أتمني تسكين كل شئ في بلدي في مكانه المناسب والصحيح، في السياسة والاقتصاد والثقافة والرياضة والأمن، وبالتالي أوافقهم علي'تسكين الجيش عند الحدود، بحكم وظيفته وطبيعته وأدواته وآلياته.. لكن اسمحوا لي أن أشذ عن القاعدة وأعارض هؤلاء الذين يزعقون ويصرخون ويتهكمون ويستظرفون أحيانا، عند التعبير عن آرائهم في نشاط الجيش الاقتصادي..
ولأن المثقفين في طليعة المتجادلين في هذا الأمر، فإن كثيرا من الدهشة يظل مسيطرا علي تفكيري تجاه من نفترض أنهم أعلم من العامة، وكلما قرأت أو سمعت نقاشا أو جدلا بينهم حول هذا الموضوع.. أري الكلام المتبادل يتناول كل شئ، إلا كلمات قليلة انتظرت قولها ولم تأت..
هذه الكلمات القليلة ببساطة، أننا لو نريد أن نحمي بلدنا وأمننا القومي، فإن الطريقة ببساطة أن نملك جيشا قويا، وبديهي لكي نجعله قويا أن نشتري له سلاحا متطورا يوازي أو يقترب من سلاح الأعداء الواضحين والمحتملين، ليحقق قدرا من التوازن، وبالتالي يمنع التفكير السريع والمتسرع في الاعتداء والحرب.. ولأن الأسلحة الحديثة خاصة الجيل الخامس منها باهظة الثمن، وبما أن الدولة فقيرة وتمر بأصعب أزمة اقتصادية، فإن توفير أو رصد الميزانية المناسبة للتسليح والتدريب والمناورات والصيانة وغيرها من التدابير العسكرية، علي أربع جبهات عند ليبيا والسودان وغزة وفضاء البحرين الأبيض والأحمر، لايمكن تدبيرها من ميزانية الدولة التي تحددها الحكومة ويعتمدها البرلمان.. لو اعتمدنا علي هذا النمط، لما تبقي شيء للتعليم والصحة والأكل والشرب وكل تكاليف المعيشة، ولما أصبح لدينا جيش ولا سلاح من أي جيل، ولما تجرأنا وقلنا لا لأمريكا أربع مرات، وما كانت سيناء الآن صامدة أمام مؤامرة صنعت أصلا من أجلها.. إذن بحكم الواقع والظروف والتحديات التي ربما ترتقي الآن لتكون وجودية، فأنا اعتبر لجوء الجيش إلي الإستثمار بنفسه وانفراده بميزانية خاصة، حلا عبقريا ورؤية ملهمة للدول الفقيرة وآلية مبدعة تؤكد جميعها بالفعل أن الحاجة أم الإختراع .
ولا تقل لي أن كل الدول نهجها معروف في ميزانيات الدفاع ولايشذ احد عن هذا النهج إلا مصر، لو افترضنا ذلك، لأنني سأقول لك باقتناع وبيقين أن من يجاور الكيان الصهيوني يجب أن يفكر خارج الصندوق، ويجب أن تكون له استراتيجية دفاعية مختلفة وشديدة الخصوصية، ولامانع أن تشذ عن كل دول العالم .. ولا أريد هنا أن ازيد وأعيد في المطامع التوراتية اليهودية، ولا بخرائطهم المخيفة المسربة، ولا بحتمية الصراع الممتد إلي نهاية التاريخ ،حسب المنظور الديني او حتي السياسي .. نحن أمام حالة خاصة في منطقة جغرافية خاصة تشغلها دولة خاصة، رآها بعين ثاقبة وصادقة وفاهمة د. جمال حمدان .. رآها عبقرية في الجغرافيا والتاريخ وفي قلب العالم، بما يجعلها مطمعا ومغنما دائما لا وقتيا إلي يوم القيامة.
لو أن المثقفين، المنشغلين يوميا بالقصة الأزلية عن الحكم العسكري وضرورة الإحلال بالحكم المدني والاستظراف في الربط بين الفقر والإنفاق علي الأسلحة، اختلوا بأنفسهم بعضا من الوقت سيفهمون قطعا حتي لو طالت خلوتهم أن ألف باء أسباب سقوط الدول هو ضعف الجيش أو غيابه، ولنا في العقد الأخير أمثلة صارخة في كل مايحيط بنا من كيانات.. ولعلهم يحسنون التوقع والتخيل في خلوتهم فيرون مايراه بعض من أصحاب الفراسة.. سنفترض أننا استسلمنا لأصواتهم وعدنا ألي النموذج التقليدي لعلاقة ميزانيات الجيوش بالميزانيات العامة.. تلقائيا وبلا فزلكة لن يكون لدينا مقومات الردع في القوات المسلحة، لأن الجيش ببساطة يجدد نفسه سنويا بالمليارات..
والنتيجة أنه في مفرمة المنطقة حاليا سيكون كل شئ وارد حربا أو استسلاما أو إذلالا أو أنتقاصا من الأرض أوالسيادة .. ثم تأتي المفاجأة بما يجد من جديد من مآسي التحول من شعب كان متذمرا فقط من غلاء السلع والمعيشة بكل مناحيها، إلي شعب لايجد هذه السلع أصلا ولا أبسط احتياجات المعيشة، ولا أمنا ولا ثقة ولا روحا ولا أملا.. ستصبح كل الأشياء عدما معدوما.. لن تري السلعة الغالية التي تريد تخفيضها، ولا القليل الذي تريد زيادته.. لن تجد شيئا في الأصل تتحدث فيه او تطلبه.. ستعود تحلم بأيام الفقر والعوز .. فليس لدينا الآن رفاهية البناء علي نظريات الحكم والتحكم، ولا أحد سيعطينا فرصة أو مهلة لنقتنع بأن اوضاعنا طبيعية مثل غيرنا، وأن علينا ان نصبر صبر الصين والهند بل حتي باكستان الفقيرة حتي الآن، والتي ما إن فجرت الهند أولي قنابلها النووية حتى خرج قادة باكستان ليعلنوا أنهم وشعبهم سيأكلون حشيش الأرض لتذهب كل الموارد إلي صناعة وتجربة قنبلة مضادة للهند.. ولو كان لدينا قنبلة نووية لأتيحت لنا مرونة وحرية حركة في اختيار أنسب علاقة توازن بين احتياجات العيش واحتياجات الحماية..
الوقت ضاغط والمؤامرات سريعة التفاعل وعلينا اتخاذ القرار الآن أو في أقصر وقت..
الأولويات معروفة عند المثقفين، لكنهم عند الخصومة أو عند الظهور الإعلامي يقولون مالا يقتنعون.. ويخرج علينا كبار المليارديرات ليطلبوا ما هو صحيح نظريا، لكنه مدمر عمليا .. كما فعل ويفعل نجيب ساويرس.
وفي النهاية أقول لمن يستخف او يستنكر مشاريع الجيش الإستثمارية المدنية.. فكر كثيرا وبعيدا.. وأنا شخصيا سأكون معك وفي صفك ومناديا بما تنادي به، عندما يخمد البركان ويستقر نظام عالمي جديد تفلت منه مصر.. سنتحدث في أفكار الرفاهية وسيسرح بنا الخيال ونأتي بالكتب والكتاب والشعراء ليرسموا لنا لوحة الحياة الجميلة.. وقتها سنطلق الواقع بالتلاتة.
---------------------------
بقلم: إبراهيم ربيع