05 - 07 - 2025

يزيد بين الشعر والسياسة

يزيد بين الشعر والسياسة

فأمطرت لؤلؤًا من نرجس وسقت .. وردًا وعضّت على العُنّاب بالحببِ

قرأت السيدة البيت، ثم سألت متعجبة: "أي وصفٍ هذا؟"، فما كان من صاحبنا إلا أن أجاب سؤالًا بسؤال: بل أخبريني بربك أي حال كان فيها يزيد بن معاوية حين ذهب لواجب عزاء، فوقعت عينه على سيدة تبكي الفقيد، فبهره جمالها، حتى إذا ما قضى واجب العزاء، وانفلت إلى صحبه، أطلق بيت الشعر من أسره، ثم زفر زفرة قابض بشفتيه على الجمر.

بيتٌ يصورُ ملامح سيدة عبرها ببصره، واعتقلها في ذاكرته، فجعل من دمع عينيها لؤلؤًا يهطل من زهرتي نرجس أثقلهما الفقد، حتى إذا ما لامس صفحتي خديها، تفتح وردهما وضجَّا بلون أحمر قانٍ، وقد عضت - من لوعة الفقد - بأسنان بين اللؤلؤ نصاعةً، وحُبيبات الماء رقةً، على شفتين من عناب.

ومع إثبات كثير من المراجع نسبة البيت إلى يزيد، مستشهدين في ذلك بديوان له، يصف في مطلعه وشمًا لطيفًا خفيفًا زيّن كفّ حبيبته 

نالت على يدها ما لم تنله يدي .. نقشًا على مِعصمٍ أوهتْ به جلدي

إلا أن البعض نسبه إلى الشاعر العراقي صفي الدين الحِلّي (1278-1349).

وقد وجدت في تحقيقي للبيت نسخة أخرى، استبدلت فيها خاتمته (بالحبب) بــ (بالبَرَدِ)، والبَرَدْ (بفتح الباء والراء) هو حبيبات الجليد الناعمة الهشة المتساقطة مع المطر، كما وجدت بيتًا لأبي نواس يتماهى مع بيت يزيد في تشبيهاته واستعاراته، قال فيه:

تبكي فتذري الطَلَ من نرجس .. وتمسح الورد بعنابِ

هذا، وقد كان يزيد بن معاوية أول من ورث الخلافة من المسلمين، على كُره من الزبير بن العوام، والحُسين بن علي، وعبد الرحمن بن أبي بكر، ونفرٍ آخر من أبناء الصحابة - رضوان الله عليهم -. ذلك أن عبد الرحمن بن قيس، والي دمشق في عهد معاوية، توسط المسجد الأُمَوي وأشار إلى معاوية، وقال: "هذا أمير المؤمنين، فإن هَلَكْ فهذا (وأشار إلى ابنه يزيد)، ومن أبى فهذا (وأشار إلى سيفه)". فقال له معاوية: "اجلس فأنت سيد الخطباء". 

ثم كان ما يعرفه القاصي والداني من تولي يزيد بعد أبيه، ثم إنكار نفر من المسلمين لتلك البيعة، وانضمامهم إلى الحسين، وصولًا إلى موقعة كربلاء، حيث التقى جيش يزيد المكون من عدة آلاف، مع جيش الحسين في بضع وسبعين رجلًا أغلبهم من أهل بيته وخاصته، بعد ما تخلى عنه أهل الكوفة، لتنشق الأمة الإسلامية إلى نصفين؛ سنة وشيعة، ويبدأ عصرٌ جديد، تصبح فيه كربلاء رمزًا للثورة ضد الظلم والطغيان.

وقد كان معاوية داهية، وهو صاحب المقولة المشهورة "لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت.. إن شدوها أرخيتها.. وإن أرخوها شددتها". رويَ أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وكان شاعرًا أُمويًا، قد شببَ برمل بنت معاوية، فقال: 

رملُ هل تذكرين يوم غزالٍ .. إذ قطعنا مسيرنا بالتمنِّي

إذ تقولين عمرَك اللهُ هل شيئًا .. وإن جلَّ سوف يسلِّيك عني

فغضب يزيد، وقص على أبيه القصص، فاستدعى ابن ثابت وسأله "والله ما ساءني أنك قلت شعرًا في ابنتي رمل، ولكن ساءني أن أختها هند غارت منها"، فأسرع عبد الرحمن، وقد تبدل حاله إلى طمأنينة بعد خوف، وقال: "أصلح الله الأمير، والله ما أعرف أن لها أختًا". ثم صرفه وقد أجزل له في العطاء. فما جاء اليوم التالي حتى أنشد أبياتًا في هند، وعندما سئل: ومن هندٌ هذه؟ فأجاب: ابنة معاوية. فقالوا: والله لقد كذبت في الأولى (يقصدون شعره في رمل)، كما كذبت في الثانية (هند)، فليس لمعاوية سوى بنت واحدة. وهكذا استطاع معاوية بالحيلة أن يُسكت صوت عبد الرحمن بن حسان. 

وإلى هنا أتوقف يا سيدتي، فلعلك قد قنعتِ بما سلف في شأن استفهامك عن بيت يزيد، وما ساقنا إليه الحديث من مواقف، وقد كان يزيد على قِصر عمره (36 سنة)، بالغ الأثر في الشعر بصوره الجميلة، وفي السياسة بشق الأمة إلى قسمين.
-------------------------
بقلم: 
د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]


مقالات اخرى للكاتب

حــاشيةُ الأمير