15 - 05 - 2025

"صحوة" شيخ بعد عمر في رذيلة!

كنت لا أزال في عمر الدهشة (22 عامًا) مما يدور حولي، فقد عدت من الجبهة، ولا تزال صورة دماء الرفاق تصاحبني في صحوي ومنامي، وكان القانون رقم 43 لعام 1974 المعروف بقانون الانفتاح، قد ظهر، بعد أن تقدم السادات بما أطلق عليه "ورقة أكتوبر"، وهبت عواصف رمادية على سماوات مصر، وكان جيلي يشعر بالذهول، وخاصة أولئك الذين خاضوا غمار المعركة، فأغلبنا نما وعيهم في عصر عبد الناصر، وشاركوا في أنشطة سياسية، وخاصة منظمة الشباب الاشتراكي، وكانوا فخورين بما حققته الثورة في مجالات التصنيع، والتعليم، والصحة، والثقافة.. بزعامة مصر التي لا ينكرها أحد في عالمها العربي ومحيطها الأفريقي؛ بل وفي محيط أوسع يشمل دائرة عدم الانحياز..

وفوجئت بالكاتب الكبير توفيق الحكيم، يصدر كراسة تحت عنوان: "عودة الوعي" يكيل فيها النقد والتجريح في عصر عبد الناصر، وكان هناك بعض الصغار الذين بدؤوا ممارسة هواية قذف تراث عبد الناصر، بأحجار الحقد والجهل، ولكن لم أكن أتخيل أن توفيق الحكيم، الكاتب الذي كنت قد قرأت كل إنتاجه، وشاهدت كل مسرحياته، يمكن أن يسقط هذه السقطة، فوجدت نفسي أكتب في مفكرتي ما يلي:

6 ديسمبر 1974

عودة الوعي أم ردة الوعي

تشهد أرض الكنانة، هذه الأيام، حملة مسعورة لا ضمير لها، تحاول أن تشوه كل المنجزات الإيجابية التي حققتها ثورة الثالث والعشرين من يوليو.

والغريب حقًّا في الأقلام المأجورة التي تحاول أن تمزق صورة أروع ثورة شهدها الوادي، الغريب هو أن هذه الأقلام تنسب أقوالًا وأفعالًا إلى أشخاص ماتوا، ويبنون على هذه الأقوال والأفعال ادعاءاتهم وافتراءاتهم، وبالطبع هم يعلمون جيدًا أن الميت لن ينهض من قبره كي يرد ادعاءاتهم وافتراءاتهم، فقد أراحه الله من قلوب الناس السوداء، وضمائرهم المغموسة في عفن المستنقعات.

والغريب أيضًا أن كل هذه الأقلام، بلا استثناء، كانت صبحًا ومساءً ، وفي مناسبة أو غير مناسبة، تمتدح الثورة، وتتغنى بأمجادها، فما الذي حدث؟ وما هو التغير الذي يجعل شيوخًا بعد أن انقضى نصف عمرهم وهم يحملون الربابة للثورة، ينقلبون فجأة إلى جبابرة، تحمل الخناجر لتمزق ما كانوا يحرصون عليه؟!

إن كل كتاب خرج في الأيام الأخيرة يهاجم الثورة، لهو وثيقة تدين كاتبها بالنفاق والمداهنة، بالخسة والدناءة، وأنا لا أدافع عن الثورة، وسأترك هذه المهمة للتاريخ، إلا أنني أشعر باشمئزاز شديد، من هؤلاء الذين خانوا ضمائرهم وأقلامهم، وباعوها من أجل مركز، أو من أجل الظفر بحظوة لدى من لهم الشأن في هذه البلاد. إن من يهاجم رجلًا مات ويفتري عليه، فهو إنما يلطخ سمعته بالأوحال، ويضع على جبينه وصمة عار.

أين الرجولة أيها الأفاضل عندما كان بينكم حيًّا؟ ولا أقول أنه كان عليكم أن تهاجموه، ولكن على الأقل لم يكن هناك داعٍ لأن تمتدحوه، طالما لستم مقتنعين، إن أنتم إلا شرذمة تفوح منها رائحة عفن، وإني لأعجب كيف تواجهون أنفسكم وأنتم ترتدون ثياب العار والنذالة!

يقول توفيق الحكيم في بداية كتيبه "عودة الوعي":

"لم يكن في عزمي ولا نيتي الإذن بنشر هذه الصفحات، يوم كتبتها، إلى أن شاءت الظروف في مناسبة من المناسبات، أن أطلع عليها صديقًا قديمًا أثق به كل الثقة، فاستأذنني في استخراج نسخة من هذه المخطوطة، يحتفظ بها لنفسه، وكان أن استنسخها على آلة كاتبة.. وإذا بعدد من النسخ قد تسرب!!".

وهكذا يحاول كاتب كبير مثل توفيق الحكيم، أن يوهمنا بأن ما حدث كان دون إرادة منه، وهكذا يكون مدخل كتابه "عودة الوعي" بعيدًا كل البعد عن الوعي، وقد نما إلى علمي أن أستاذنا الفاضل قد تخطى سن الرشد، وأنه يعي تمامًا ما يفعل، وقد أكون مخطئًا، ولكن هذا هو اعتقادي.

أما أن يقول لنا، وكأننا قطيع من السذج، أن صديقًا يثق فيه، ولا أدري أين هذه الثقة، ففيما يبدو أن الثقة تعني في نظر الأستاذ الحكيم معنى آخر غير الذي نعرفه، وإلا فكيف أن صديقًا يوليه مثل هذه الثقة، يقوم بتسريب ما وصفه الحكيم بأنه عودة الوعي، وبأنه من أوراقه الخاصة، ويعتبرها مذكرات شخصية له! إننا نتساءل من هو هذا الصديق؟

إن هو إلا الكذب في أجلى صوره، والنفاق في إطار مزوق، وتخاريف شيخ في نهاية العمر.. إنه يستهزئ بعقولنا ويستخف بها، حين يسوق إلينا قصة من خياله الخصيب، يبرر بها ظهور ذلك الغثاء المسمى بعودة الوعي، كان يجب أن يقول بدلًا من ذلك، أن سبب ظهور ذلك المولود المشوه، هو محاولة لركوب التيار والصيد في الماء العكر، وتملق من هم على كراسي العرش، أو هو عودة لرفع شعار "عاش الملك، مات الملك".

كان يجب أن يقول بلا خجل، وهو المشهور بحبه لجمع المال، أن أوراقًا كهذه، لا يكمل عددها المئة، سوف يربح من ورائها الكثير، عندما يبيع النسخة الواحدة منها بخمسين قرشًا!!

ويدخل الحكيم بعد ذلك إلى متاهة من المتناقضات، يحاول أن يفهمنا من خلالها، أنه كان غائبًا عن الوعي خلال تلك الفترة، وفي نفس الوقت يحاول أن يلبس تلك الصفة لكل الشعب، فكلنا - على سبيل المثال - نعرف ما قطعته الثورة في طريق الوحدة، وما قاسته على طول هذا الطريق، ومع هذا فنجد أن السيد الحكيم يدعي على رجال الثورة أنهم عملوا على عرقلة الوحدة مع السودان، وهكذا، وبجرة قلم، يظن أنه يستطيع أن يمحو التاريخ ويشوه الحقائق. ويستدرك هو التناقض في محاولته، فيقول: "كل هذه إشاعات أو حقائق، لا بد أن يتناولها التاريخ بالفحص الدقيق في يوم من الأيام".

يا سلام!! ما هذا التوفيق يا أستاذ توفيق؟! وما هذه الحكمة يا حكيم؟! إذا كنت لا تعرف إن كانت هذه إشاعات أم حقائق، فلماذا كتبتها إذن في كتاب يفترض فيه أنه "عودة الوعي"؟ فإذا كنت أنت شخصيًّا، بجلالة قدرك، لا تعي إن كانت إشاعات أم حقائق، فكيف تحاول أن تعيد وعي أمة بأسرها؟ والحقيقة هي أن الذي فقد الوعي أمام بريق المركز والمادة، هو أنت، وليس الشعب يا أستاذنا الحكيم! 

ويتساءل: "ولكن أين كنا نحن؟ أين كان المفكرون في هذا البلد؟ وأين كنت أنا المحب لحرية الرأي؟".

ويبدو أن السيد الحكيم لم يفقد وعيه، بقدر ما فقد ذاكرته، فقد كان هو ومفكرو هذا البلد يطبلون ويزمرون للثورة، ويفرشون أمامها بأقلامهم طريقًا مملوءًا بالورود، إن رجال الثورة لم يغيبوا أحدًا عن وعيه، ولكن الذين قاموا بهذا الدور هم هؤلاء المفكرون الأفاضل.

ثم يبدو التناقض في أجلى صوره، عندما يقول الحكيم:

"هذا التنفيذ السريع، عقب قيام الثورة، لقرارات كانت تستغرق منا لتنفيذها الأعوام والأجيال، لقد بهرنا وجعلنا نسير خلف هذه الثورة بلا وعي".

وهذه هي العقدة في الكتاب، فكون الثورة قد حققت إنجازات سريعة متوالية، فمعنى ذلك فقدان الوعي، ولكنني أفهم أن إنسانًا كان يصبو إلى تحقيق آمال معينة، ثم يراها تتحقق، فهو لا يفقد الوعي، وإنما يزيد لديه الوعي، أن من لا يملك لا يعرف، ولكن الذي يملك أو يشعر أنه سيملك، قطعًا يعرف، وقطعًا يعي كل ما يدور من حوله.

لقد سمعنا عن ثورات كثيرة في العالم، كانت لها منجزاتها العظيمة.. لماذا لم يفقد مفكروها وعيهم مثلما حدث لكاتبنا الحكيم؟ وإذا كان بالفعل قد فقد وعيه، فهل ظل لمدة عشرين عامًا يكتب لنا بغير وعي؟

إن ذلك أيضًا استهتار بعقلية هذا الشعب، وإلا فكيف يظل لمدة عشرين عامًا، يقرأ وبإعجاب لكاتب يكتب بغير وعي؟ وأيضًا كيف أن إنسانًا لا يعي يتمكن وببراعة من تكوين ثروة طائلة؟ هل هي أيضًا من آثار اللا وعي؟ أم أنها من آثار اللا ضمير!!

إنني أتساءل: هل يمكن أن يظل إنسان غائبًا عن وعيه لمدة تقارب ربع قرن؟ قد يكون معقولًا لو قال لمدة عام أو اثنين، أما أن يظل كل هذه الفترة، ثم يخرج علينا ذات يوم يدعي أنه أفاق بعد غيبة عن وعيه، دامت واستمرت لمدة عشرين عامًا! 

على العموم، قد تكون حكمة من حكم الحكيم، لا نفهمها نحن الشعب البسيط الذي ظل يقرأ لكاتب لا وعي له، مدة عشرين عامًا!!

ثم يأتي دور الحكيم ليصف ما فعله في بداية الثورة، وسأتركها بلا تعليق، فيقول:

"أما من كانوا خارج هذه المحكمة (محكمة الثورة) من رجالات مصر المرموقين (وبالطبع الأستاذ الحكيم أحدهم)، فكان رجال الثورة يطلبونهم واحدًا واحدًا على انفراد؛ ليستمعوا منهم، فكان شأنهم شأن غيرهم، وهو تسابق الواحد منهم في طلب الحظوة، والإعلاء من قدر نفسه ورأيه ونصحه، والحط من قدر غيره، والتسفيه لرأي سواه.. فكانت لعبة الحكام الجدد المفضلة أن يضربوا هذا بذاك، ويتلذذوا بمنظر هؤلاء الكبراء الفضلاء وهم يترامون على الأقدام خوفًا وطمعًا في حلبة التزلف والملق".
--------------------------------
بقلم:
معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق

(جزء من باب "القلم وما يسطرون" / كتابي "ع المعاش" - تحت الطبع -)

مقالات اخرى للكاتب