29 - 05 - 2025

تفكيك "نظرية المؤامرة" ضروري لتصحيح علاقتنا مع الغرب

تفكيك

يُروى أن محمد علي باشا، والي مصر، كلّف أحد المحيطين به بترجمة كتاب "الأمير" لنيقولا مكيافيللي، وطلب منه أن يوافيه كل يوم بصفحة مترجمة، وبعد أن وصل إلى الصفحة العاشرة من الكتاب طلب من المترجم التوقف، وأبلغه بأن لديه من الحيل ما لم يخطر لمكيافيللي على بال. كان والي مصر يمتلك مهارات سياسية تفوق المهارات التي أراد مكيافيللي تعليمها لأمراء المقاطعات الإيطالية من خلال كتابه الذي يعد كتاباً تأسيسياً للسياسة الواقعية، ومكّنته هذه المهارات من أن يستغل سخط المصريين وزعمائهم من الدولة العثمانية، التي لم يتمكن جيشها من حماية مصر من الغزو الفرنسي، وعلى المماليك الذين تحولوا إلى سيف مسلط على رقابهم، وفروا من مواجهة القوات الغازية، لينتزع حكم مصر من السلطان العثماني ومن المماليك وأن يصبح لاعباً رئيسياً في سياسات الدولة العثمانية من خلال الاستفادة من التطور الذي حققته الدول الأوروبية وحرمت منه الولايات العثمانية وبناء قدرة عسكرية لمصر. وقد منحه ذلك ثقة واعتداداً بالذات وإيماناً بالقدرة على الفعل والتأثير، سواء في محيطه المباشر أوفي المحيط الأبعد. لم يكن والي مصر أسيراً للمقولات الشائعة لنظريات المؤامرة التي يرددها المثقفون والحكّام، اليوم، لتبرير الخيبات التي نعانيها، في زمن صودرت فيها السياسة، واضمحل الخيال الذي ينميه الانخراط في الفعل السياسي المعني بالسعي لتغيير الواقع أو التأثير فيه على الأقل، مهما تكن محدودية الموارد المتاحة، وما كان له أن يتمكن من الحفاظ على ما حققه من مكاسب، وأن يقلل الخسائرالمترتبة على هزيمته والتي جسدتها معاهدة لندن عام 1840، بدون المهارات السياسية ليصبح، وبحق، باني مصر الحديثة وباعث نهضتها المعاصرة.

تذكرت هذه الواقعة بمناسبة حديث مع مثقفين معاصرين حول السياسات العالمية والإقليمية، لا سيما الخليجية، التي يرون أنها تستهدف مصر، ويفترضون أن مصدرها ليس تفكير زعماء هذه الدول، ذلك أن عقولهم أقل من تأتي بمثل هذه السياسات التي وضعتها قوى عالمية لديها مخططات للسيطرة على المنطقة وعلى شعوبها، وحددوا هذه القوى في الماسونية والصهيونية العالمية التي يعتقدون أنها تسعى للسيطرة على المنطقة وعلى العالم بأسره، وأن زعماء دول المنطقة ينفذون تلك السياسات، بوعي أو دون وعي، رغم أنها لا تعبر بأي حال عن مصالحهم، ولا تجني لهم سوى الفتات من المكاسب، بل إنها قد تقوض على الأرجح لمصالحهم وتعصف بها. 

السؤال الذي يلح على ذهني دائماً وأنا استمع إلى مثل هذه النظريات لماذا نحن دائماً ضحية لمؤامرات الآخرين؟ لماذا نحن الخاسرون في هذه المعادلة؟ وما الذي يمنعنا من التخطيط العملي والواقعي للمستقبل ولتحقيق مصالحنا؟ وهل نمتلك مهارات تساعدنا على تحقيق أكبر مكاسب ممكنة بأقل موارد متاحة، في مواجهة خطط الآخرين ومخططاتهم؟ لماذا لا تكون لدينا مؤامرات مضادة تستغل التناقضات لدى الخصوم والمنافسين لتحقيق مصالحنا؟ وفي تقديري، أن السبب لعدم امتلاكنا إجابات على هذه التساؤلات، إنما يكمن في مصادرة الحياة السياسية وإغلاقها لعقود طويلة، ونعوض ذلك بالميل إلى تحميل الآخرين مسؤولية فشلنا وإخفاقاتنا، والركون إلى تفسيرات تآمرية تسمم علاقاتنا بالآخرين، لاسيما بالغرب، الذي نحمله المسؤولية الأساسية عن تلك الإخفاقات.

استدعيت، كذلك، ماكتبه الأستاذ مجدي شندي، رئيس تحرير جريدة المشهد، في مقاله الافتتاحي لسلسلة مقالات "نحن والغرب"، ودعوته إلى ضرورة تدقيق مفاهيم مثل"حكومة العالم الخفية" و"محافل الماسونية العالميةو"نظرية المؤامرة"، وتفكيك الصورة النمطية المطبوعة في أذهان كثير من العرب والمسلمين عن الغرب، والتي لا يستقيم بعضها مع سلامة المنطق، ووجدت ضرورة لاستئناف الحوار الذي بدأ حول علاقتنا مع الغرب وموقفنا منه، وشعرت بإلحاح يدفعني إلى مناقشة الأفكار الرائجة المرتبطة بنظريات المؤامرة التي أرى أن تفكيكها شرط ضروري لتصحيح أوضاعنا باعتبار أنها مدخل ضروري لتصحيح العلاقة مع الغرب والعالم. وفي تقديري، أن هذه هي المهمة الأصعب لأسباب كثيرة منها الرواج الكبير الذي تحظى به نظرية المؤامرة والتفسيرات التآمرية ليس في منطقتنا وحسب، وإنما في أنحاء كثيرة من العالم، خلافاُ لسعي بعض الباحثين الغربيين مثل، دانييل بايبس، ربط هذه النظرية بنمط التفكير السائد في العالم العربي والإسلامي، خصوصاً بعد انهيار الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى واستيلاء القوى الاستعمارية على ولاياتها في المشرق العربي وشمال أفريقيا، إلا أن هذه النظرية تلقى رواجاً متزايداً في الدول الغربية، لاسيما الولايات المتحدة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001، الأمر الذي دفع كثيرا من الباحثين إلى الاهتمام بهذه النظرية والسعي لتفكيكها، إدراكاً منهم لخطورتها على المجتمعات الغربية لأنها تنطوي على مخاطر بالغة في مقدمتها العنف وما تشكله من تحديات بالنسبة للسياسة والقانون.

"هم": المؤامرة والتفسير التآمري ونظرية المؤامرة

تعد نظريات المؤامرة التي تنتشر على نحو متزايد في العالم أحد المشتركات الرئيسية بين كثير من القوى في أنحاء العالم، والتي تتشابه أنماط تفكيرها على الرغم من أنها القوى الرئيسية الدافعة لتأجيج الصراع بين الغرب والشرق. والكلمة المشتركة في أحاديث المنتسبين لهذا النمط من التفكير كلمة "هم"، للإشارة إلى حكومة العالم الخفية التي تتحكم في اختيار رؤساء الدول وأصحاب السلطة والنفوذ في دوائر المال والاقتصاد والسياسة والحكم والإعلام من أحكام سيطرتهم على دول العالم وتوجيه سياساتها وإشعال الحروب والأزمات أو التدخل لحلها بما يخدم مخططهم الخاص للسيطرة على العالم، من خلال التلاعب بالحقيقة. في كتابه "هم: مغامرات مع المتطرفين"، الصادر في عام 2002، يتقصى المؤلف جون رونسون، وهو صحفي بريطاني، يهودي الديانة، أصول هذه الفكرة، حتى قبل رواجها في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، في أوساط المتطرفين الإسلاميين في بريطانيا. ويشير في مقدمة الكتاب إلى أنه على الرغم من الخلافات العميقة فيما بين الإسلاميين والمنتمين إلى جماعات عنصرية ونازية وانفصالية في الولايات المتحدة وبعض أعضاء البرلمان في بريطانيا، وأضيف إلى هذه الجماعات، المثقفين القوميين واليساريين في مجتمعاتنا، إلا أنهم يشتركون في اعتقاد رئيسي، بوجود نخبة صغيرة تسيطر على العالم سراً، وأن هذه النخبة تشعل الحروب وتختار رؤساء الدول وتحدد أسعار النفط وتتحكم في تدفق رؤوس الأموال وتسيطر غلى وسائل الإعلام وتوجهها، ويعتقدون أن لدى هذه النخبة طقوساً سرية غربية، وأنها تتمتع بنفوذ هائل وتدمر أي شخص يقترب من كشف حقيقتهم. هؤلاء الأشخاص الذين تناولهم الكتاب المنتمين للأصوليين الإسلاميين، والميليشيات الأمريكية، والانفصاليين، والنازيين الجدد، مقتنعون بأن النخب الحاكمة في العالم الغربي، هم من دبروا هجمات سبتمبر، وينشرون الفوضى في العالم لكي تنهض من أنقاضها حكومتهم العالمية المروعة.

يُعد، ديفيد آيك، أحد كبار المنظرين لفكرة المؤامرة الكونية الكبرى، الذي يعرف نفسه على موقعه الإلكتروني، بأنه صحفي ومذيع تلفزيوني سابق، كرس نشاطه لفضح أكبر سر في العالم، يتعلق بمن يحكمون العالم بالفعل. وألف في هذا الموضوع عشرات الكتب التي كانت ملهمة لأعمال تلفزيونية وسينمائية، وعشرات الفيديوهات التي تسعى لتحرير البشرية من خلال فضح هذه المؤامرة الكبرى للسيطرة على العالم من قبل نخبة صغيرة متآمرة يسمون أنفسهم "المتنورين"، ويحكمون العالم منذ آلاف السنين وانتشروا من الشرق الأوسط ومناطق أخرى إلى أوروبا، ووسعوا سيطرتهم على العالم الجديد من خلال الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، وبعد تفكك تلك الإمبراطوريات، ترك المتنورون وراءهم شبكات من الجمعيات السرية وسلالات المتنورين، استمروا من خلالها في التأثير على الأحداث وتوظيفها، ويرى أن المتنورين يحكمون العالم من خلال النظم الاستبدادية التي يقسمها إلى نظم استبدادية واضحة مثل الشيوعية، الفاشية، وغيرهما، أخرى سرية تتخفى وراء ستار الحرية يرى أنها الأكثر فعالية.

ومن أشهر كتب آيك، كتاب "السر الأكبر: معلومات مذهلة عن خفايا الكون والأحداث"، وصدرت ترجمة عربية له في عام 2005. ووضع في منتصف التسعينات نظرية "مؤامرة العصر الجديد"، ويرى أن البشرية تقف على اعتاب تغيير شامل يمهد لسيطرة الحكومة العالمية، وأن ملامح هذا التغيير الكبير تحدث الآن أمام أعيننا، وأن كل شيء يحدث في العالم، بما في ذلك المسلسلات التلفزيونية، ما هو خطوة على الطريق نحو معسكر الاعتقال الفاشي العالمي، الذي يخطط له المتنورون من خلال هجمات "إرهابية" مماثلة لهجمات "11 سبتمبر" لزيادة الضغط لإنشاء الحكومة العالمية التي ستكون نسخة جديدة من ألمانيا النازية. ويستند مشروعهم إلى خطة أو برنامج طويل الأمد ومنسق، وأن ملامح وبنود هذه الخطة واضحة تماماً لكل من يفكر ويعمل عقله فيما يرى من حوادث في العالم. إن السيطرة على المعلومات واحتكارها من قبل المستويات العليا في السلطة والإدارة الهرمية الشكل هي الآلية الأساسية كي يُحكم المتنورون سيطرتهم على العالم، وأنهم يشنون حرباُ على حرية التعبير والرأي ويفرضون قيوداً على التدفق الحر للمعلومات وتداولها في أنحاء عديدة من العالم، ويشير إلى أن خطة السيطرة هذه تمضي بوتيرة متسارعة، ويجري تنفيذ بعض بنودها الآن، بإثارة ما يكفي من مشاكل واضطرابات لدفع العالم إلى الاقتناع بأنه لا مخرج إلا بقبول الحكومة العالمية الواحدة التي يكون لديها جيش ومصرف مركزي عالميين وعملة عالمية واحدة. وتلقى هذه النظرية رواجاً كبيرة وباتت قطاعات كبيرة من الرأي العام وقادته مقتنعون بهذه النظرية.

على الرغم من أن انتشار هذه النظريات يحدث، عادةً، نتيجةً لأخطاء معرفية واضحة، تعمل بالتزامن مع تأثيرات معلوماتية وسمعية، إلا أن من الصعب تفكيكها وتفنيدها ودحضها، نظراً لقدرتها على الصمود، ومن غير المرجح أن يقتنع منظرو المؤامرة بمحاولة دحض نظرياتهم؛ بل قد يعتبرون تلك المحاولة نفسها دليلاً إضافياً على المؤامرة. ربما تكمن إحدى الصعوبات الأساسية لتفكيك نظريات المؤامرة وفضحها، في الخلط الذي يتعمدونه بين نظرية المؤامرة أو التفسيرات التآمرية للأحداث، وبين حقيقة ان "المؤامرات" واحدة من الآليات الأساسية للعمل السياسي، وسعي الساسة في أرجاء العالم للدفاع عن مصالحهم ومصالح شعوبهم بكل الوسائل الممكنة، فالمصالح مفهوم رئيسي في العمل السياسي وفي المعرفة أيضاً، وهذه المصالح، تحديداً، هي ما يستهجنه منظرو المؤامرة، خصوصاً في حالة تعارض المصالح. قد يكون من المفيد هنا، التمييز بين المؤامرات وبين التفسيرات التآمرية أو نظرية المؤامرة، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا بالتحرر من فكرة "الحتمية"، والذي يعني امتلاك البشر قدرات تمكنهم من تطوير بدائل متعددة للتعامل مع المشكلات والتحديات. ويرى أنصار نظرية المؤامرة أن ما من حدث يحدث في العالم مصادفة، وإنما جميع الحوادث مدبرة سلفاً لدفع العالم إلى السير في مسار الحكومة العالمية الحتمي. بالتأكيد، أن الكثير من الأحداث العالمية تمضي وفق تصورات وضعها السياسيون والمدراء سلفاً، وأن الكثير من هذه التصورات والخطط المسبقة معلن من خلال البرامج الانتخابية للحكومات، وبالتأكيد أبضاً أن القوى الدولية المختلفة تسعى لفرض نوع من الترتيبات العالمية التي تحقق قدراً من الانتظام للحد من الفوضى الناجمة عن غياب سلطة مركزية تعلو سلطة الدولة وسيادتها، التي تعد ملمحاً رئيسيا للعلاقات الدولية منذ صلح وستفاليا في عام 1648.

إن المشكلة الأساسية للرواج الراهن لنظرية المؤامرة، هو أنها تلقى تأييداً وقبولا من قبل معارضي فكرة "الحكومة العالمية" ومؤيديها، الذين باتوا أكثر اقتناعاً بأن الحالة الراهنة للصراع الدولي باتت تستدعي قدراً من الانتظام الدولي، لأن هذا الصراع يضع العالم على شفا حرب عالمية مدمرة، نظراً لامتلاك القوى الكبرى أسلحة مختلفة للدمار الشامل، في مقدمتها الأسلحة النووية. لكن هذا الانتشار لنظرية المؤامرة يحول دون فهم جوانب كثيرة من التفاعلات الدولية والوطنية ويخضع كثيراً من النخب إلى التسليم بحتمية ما يجري في العالم من حوادث يجري تدبيرها بعناية من قبل قوى عالمية، تتمتع بنفوذ هائل في القوى العالمية الكبرى التي تمتلك من القدرات والأدوات ما يمكنها من فرض إرادتها بكل وسائل الاقناع والترهيب، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة إذا اقتضى الأمر. المشكلة الثانية تتمثل في حالة الضعف الشديدة التي وصلنا إليها نتيجة للسياسات التي أدت إلى إضعاف مجتمعاتنا وإفقادها القدرة على المقاومة والممانعة، التي يرى منظرو المؤامرة أنها أيضاً مخطط لها ومقصودة من أجل مشروع "مؤامرة العصر الجديد" التي تشرف عليها الصهيونية العالمية التي تسعى للسيطرة على العالم من خلال تجزئته وتفتيته.

العلم وآليات تفكيك المؤامرة

أحد النقاط المشتركة بين أنصار نظرية المؤامرة وخصومها يتمثل في إدراك أهمية المعرفة والوعي، رغم اختلاف الغاية والهدف من هذه المعرفة وهذا الوعي. فأنصار نظرية المؤامرة يرون أن المعرفة والوعي ضروريان من أجل التصدي لمشروع الحكومة العالمية وطابعها الفاشي، وأنهما الأداة الأساسية للتحرر والحرية، لكن غالباً ما يجري استغلال أطروحاتهم من قبل القوى الساعية للسيطرة والهيمنة، لإقناع قطاعات واسعة من الرأي العام بحتمية المسار الذي يرسمه مروجو هذه النظريات، خصوصاً فكرة أن كل ما يجري في العالم هو خطوة لتنفيذ الخطة الكبرى للسيطرة على الشعوب، والتي يجري نسبتها غالباً إلى اليهود والصهيونية العالمية، مستفيدين من سيطرة مالية مزعومة ومن هيمنة متصورة على وسائل الإعلام وأدوات تشكيل الأفكار والتوجهات في العالم. وقد تجد هذه النظريات رواجا نظراً لطبيعة الظواهر الطبيعية والاجتماعية التي لم يكتشف الإنسان بعد كل القوانين التي تحكم مساراتها، والأمر يزداد صعوبة في حالة الظواهر الاجتماعية والسياسية، غير أن أنصار نظرية المؤامرة، ينظرون إلى بعض النظريات العلمية التي تفسر ظواهر طبيعية باعتبارها جزءا وآلية من آليات المؤامرة الكبرى، التي تستخدم لتزييف وعي الشعوب وإخضاعها لسيطرة الأقلية. وغالباً ما يسيء أنصار تلك النظرية استخدام بعض الحقائق والقوانين الاجتماعية والسياسية لتبرير وجهات نظرهم، مثل أن النخب، وهي بالضرورة أقلية في أي مجتمع، تمتلك من الأدوات والمعرفة ما يمكنها من فرض سيطرتها، وأيضاً الطبيعة الهرمية للسلطة، ويشككون في جدوى الديمقراطية والانتخابات وتداول السلطة وادعاء أنها لا تحدث أي تغيير في علاقات القوة في المجتمع.

وعند تطبيق هذه النظرية في مجتمعاتنا، تبرز تصورات تضعنا أمام وضع كارثي ناجم عن الميل الشديد لتحميل الآخرين المسؤولية عن الأخطاء الناجمة عن اختياراتنا، والأمثلة على ذلك كثيرة، بدءاً بتحميل المؤسسات المالية الدولية الكبرى المسؤولية عن تدهور أوضاعنا الاقتصادية والمالية، وتبرئة الحكومات وسياسات الاقتصادية الخاطئة التي يجري تصويرها على أنها مغلوبة على أمرها وليس أمامها أي بدائل سياسية مغايرة للسياسات الراهنة، بل يتمادى البعض إلى تصوير القرارات التي قد تتخذها بعض الحكومات أو القوى على أنها قرارات جرى استدراج هذه الحكومات أو تلك القوى لاتخاذها من أجل الوصول إلى غايات خفية تسعى القوى المتحكمة التي تدير المشهد لتحقيقها. وهناك العديد من الأمثلة البارزة على ذلك، منها قرار الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بغزو الكويت في عام 1991، والتي روج لفكرة أنه لقي تشجيعاً من الأمريكيين من خلال القائمة بأعمال السفير الأمريكي في العراق أبريل جلاسبي، أو النظريات السائدة المختلفة المرتبطة بحرب عام 1967، والتي روج كثير من الإعلاميين الكبار وصناع الرأي عندما بأنها مؤامرة أمريكية ودولية للتخلص من الرئيس جمال عبد الناصر. ويغيب مع مثل هذه التفسيرات أي حديث عن مسؤوليتنا نحن والترويج أن ما حدث كان لا بد وأن يحدث، حتى لو اتخذنا قرارات مختلفة واتبعنا سياسات بديلة.

غير أن المعرفة والوعي لدى منتقدي نظريات المؤامرة، لهما وظيفة أخرى مغايرة. أحد الأمور المهمة التي يعرفها المشتغلون في حقل الدراسات الاجتماعية، أن المنطق الرئيسي للبحث ووظيفته هو محاولة جسر الفجوات في المعلومات والبيانات من أجل تقديم تفسيرات منطقية من خلال ما هو متاح من بيانات ومعلومات. فمنطق أي بحث نجريه قائم على فكرة نقص المعلومات وعدم امتلاكنا معرفة يقينية يمكن إثباتها من خلال التجارب المعملية المحكمة. ويتم التعامل مع هذه الحقيقة بطريقتين، طريقة علمية تقر بهذا الواقع ولا تسعى للقفز إلى استنتاجات لا تدعمها البيانات المتاحة بزعم أن هناك حجبا متعمدا وتعتيما على البيانات من قبل القوى المتحكمة التي تسعى لتوجيه السياسات من خلال ما تسمح به من معلومات وبيانات يجري تمريرها أو حجبها، أو بطريق غير علمية تخرج بتفسيرات، غالباً ما تكون لاحقة على الحدث لإضفاء قدر من المنطقية الشكلية عليه، وغالبا ما تكون هذه الطريقة الأخيرة جزءاً من مشكلة صنع القرار ولا تساعد على اتخاذ قرارات سليمة أو وضع سياسات سليمة، العلم والمنطق العلمي أساسيان للتصدي لمثل هذه النظريات وكشف الغموض والالتباس الذي يكتنفها، ولكي تتحقق الفائدة من التفكير النقدي وإعمال المنهج العلمي لتغيير الفكرة العامة السائدة والتي تحكم طريقتنا في التفكير والنظر بعيداً عن نظرية المؤامرة والأنساق المغلقة، إلى التفكير العلمي والقبول بحقيقة نقص المعلومات والبيانات عن الواقع والتعامل من خلال منظور الأنساق المفتوحة، هذا الانتقال يساعدنا على تغيير نظرتنا للغرب وعلاقتنا به، وهو ما سيجري تناوله في المقال القادم.
----------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات سابقة في ملف "نحن والغرب"

مقالات اخرى للكاتب

صباحيات | مصر وجولة ترامب الخليجية