12 - 05 - 2025

"جوربي".. الإصلاحي الذي أسقط امبراطورية!

نشرت الموضوع التالي في مجلة الدبلوماسي، وكان السيد السفير وفاء حجازي رئيس تحرير المجلة، يرى أنني قسوت على جورباتشوف، ومع ذلك لم يعترض، ومعه أعضاء هيئة التحرير، على نشر المقال التالي:

جورباتشوف في عمان

يقفز إلي الذهن مباشرة مولد "البيروسترويكا" و"الجلاسنوست" مرتبطًا بظهور وأفول تلك الشخصية الغامضة "جورباتشوف"، وتتداعى الأحداث المتعلقة بالموضوع من انهيار الاتحاد السوفييتي، وتفكك الكتلة الشرقية، واهتزاز التوازن الدولي، والأحادية القطبية، وحرب الخليج، وأسطورة عملية السلام في الشرق الأوسط.

هذه الموضوعات وغيرها توالت في ذهني، عندما تلقيت دعوة من جمعية الشؤون الدولية الأردنية، لحضور محاضرة لميخائيل جورباتشوف الرئيس السابق لما كان يسمى بالاتحاد السوفييتي يوم 22 إبريل 1998.

في طريقي إلي مقر المحاضرة تذكرت السلاح الروسي الذي حاربنا به موقعتنا الظافرة، في ملحمة العبور، والكتب العديدة زهيدة الثمن التي كنا نشتريها من دار التقدم، ونطل منها على روائع الأدب الروسي، ومظاهر النهضة والتقدم في الاتحاد السوفييتي.. تذكرت صديقًا عزيزًا ينتقد بشدة الإجراءات الإصلاحية لجورباتشوف، ويتنبأ حزينًا بانهيار العالم؛ بسبب تراجع الاتحاد السوفييتي.. استرجعت سرادقات العزاء الحمراء التي نصبها الرفاق؛ حدادًا على موت الشيوعية، في مقابل الأفراح والليالي الملاح التي احتفل فيها أهل اليمين بانتصار الرأسمالية، وتبادلوا الأنخاب والتهنئة على أنقاض الكرملين.

تحدث الرجل في موضوعات عديدة، لكنني لاحظت المرارة التي غلفت كلماته، حين تناول دوره في تفكيك الامبراطورية السوفييتية، وعدم فهم أبناء وطنه لأفكاره التي سبقت عصره، كان يتحدث كنبي لم يفهم الناس رسالته، ومن ناحية أخرى اتهم أمريكا بأنها تقلد أخطاء الاتحاد السوفييتي في محاولة فرض أيديولوجية معينة على العالم كله، قال أنها تحاول خصخصة العلاقات الدولية، ونشر مفهومها في اقتصاديات السوق على كل الشعوب، وهذا يستحيل؛ فلا يمكن أن تقبل تلك الشعوب ثقافة الماكدونالد والهمبورجر كبديل عن ثقافاتها الأصلية، وتنبأ بفشل أمريكا في ذلك.

إلا أن أبرز ما لاحظته هو أن الرجل لا يزال يحلم بالسلطة، فهي تجري في دمه، ويعكسها كل شيء فيه، حتى أسلوبه في الحديث، وإيماءاته، وغضبه ورضاه. انتقد يلتسين وأسلوبه في الحكم وإدارة الإصلاحات.. ألمح إلى أن الأوضاع في روسيا لا يمكن أن تستمر بهذا الشكل، كانت عيناه تلتمعان شوقًا إلى السلطة. رحم الله من قال: "إن السلطة مفسدة.. والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة".

ولد ميخائيل سيرجيفتش جورباتشوف يوم 2 مارس 1931، حين كان الاتحاد السوفييتي لا يزال غارقًا في الدماء تحت القبضة الحديدية لستالين، وكانت معركة التعاونيات الزراعية تمضي على جثث آلاف من البشر، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية وجورباتشوف في سن الحادية عشرة، ولقد رأى من الفظائع التي ارتكبتها القوات الغازية، والدمار الذي خلفته في المدن والقرى التي مرت عليها، وعلي مقربة من قريته كانت ملحمة "ستالينجراد" التي صمد فيها المقاومون، رغم عنف القصف والحصار.

درس القانون في جامعة موسكو، وأصبح عضوًا في الحزب الشيوعي عام 1952، وانتخب عضوًا في اللجنة المركزية للحزب عام 1971، وخلال الفترة من 1978 إلى 1985 أصبح سكرتيرًا للجنة المركزية لشؤون الزراعة، ثم احتل منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي، في الفترة من 1985 إلى 1991، واحتل مناصب أخرى عديدة، في رحلته للصعود إلى القمة، حتى أصبح رئيسًا للاتحاد السوفييتي لمدة عامين فقط من 1990 إلى 1991.

كانت حقبة الثمانينات تغلق أبوابها، في حين انفتحت نوافذ الإعصار لتطيح بالنظام القديم، فانفجرت المظاهرات في تشيكوسلوفاكيا، وانهار حائط برلين العتيد، إلى فتات تسابق الناس على اقتنائها كتذكار لرمز الحرب الباردة، لقد انتهت هذه الحرب بطريقة، لم يتخيلها حتى المجانين وأعقل العقلاء.

وراء هذه الأعاصير التي اجتاحت الكرة الأرضية، كان ذلك الرجل الذي نفخ في النظام الشيوعي فانهار، كأنه بيت من ورق، وكان لا بد للفوضى أن تعقب الأعاصير، وانقضت قوات الأمن في الصين على المتظاهرين الذين يحملون صورة جورباتشوف، وسقط ديكتاتور رومانيا نيكولاي تشاوشيسكو ملطخًا في دمائه، وإلى جواره زوجته غارقة أيضًا في دمائها، وتوالت صور الفوضى شرقًا وغربًا وجنوبًا..

أصبح "جوربي" فجأة معبود الغرب، ولكنه في نفس الوقت فقد رصيده الشعبي في روسيا، وكان ذلك هو السؤال الذي حير المحللين، فكيف لا يستطيع ذلك الرجل الذي صنع التحول الضخم أن يحصل في انتخابات الرئاسة الروسية سوي 1%؟ ربما يصدق عليه ما قاله أحدهم يومًا: "إن أسوأ ما يواجه حكومة سيئة هو عندما تحاول تعديل مسارها"، ورغم أن الرجل لم يتخلَّ عن النظرية الشيوعية، إلا أنه أراد أن يطورها بما يلائم العصر، ويتفادى الأخطاء التي جعلت الإنسان الروسي يصل إلى الفضاء لكنه يعجز في نفس الوقت عن الحصول على بيضة للإفطار – كما ذكر جورباتشوف نفسه في المحاضرة ــ.

احتل مقعد القيادة بعد وفاة تشيرنينكو عام 1985، وقد قال عنه أندريه جروميكو وهو يقدم اسمه للترشح: "هذا رجل لديه ابتسامة جميلة، لكن لديه أيضًا أسنانًا حديدية".. وبدأ خططه الإصلاحية بتقديم البيروسترويكا (إعادة البناء) والجلاسنوست (الشفافية أو الإنفتاح)، وقام بحملة ضد شرب الكحوليات. وفي ذلك يروي أن رجلًا روسيًّا كان يقف في طابور طويل؛ كي يحصل علي زجاجة فودكا، وشعر فجأة بالغضب من حملة جورباتشوف فقال لمن حوله أنه سيذهب فورًا إلى الكرملين لاغتيال هذا الرجل، وتوجه غاضبًا إلى الكرملين، ثم عاد بعد فترة إلى مكانه في طابور الفودكا مرة أخري، فسأله أحدهم عما إذا كان قد نفذ وعيده باغتيال جورباتشوف، فقال له بملل: "إن الطابور أمام الكرملين أكثر طولًا من طابور الفودكا، وكلهم يريدون اغتياله!! 

منح جائزة نوبل في أكتوبر 1990؛ لجهوده في إنهاء الحرب الباردة، وفي عام 1991 تم احتجازه في منزله تحت الحراسة، بعد انقلاب لم يستمر سوى ثلاثة أيام، استعاد بعدها سلطاته، إلا أنه سرعان ما استقال من منصبه كسكرتير عام للحزب، وأعلن في ديسمبر من نفس العام، انتهاء وجود الاتحاد السوفييتي، واستقال من منصبه كرئيس لهذا الاتحاد، ثم فشل في إنتخابات الرئاسة أمام عدوه اللدود بوريس يلتسين.

أسس عام 1992 معهد جورباتشوف للدراسات السياسية في موسكو، وهو يحاول أن يجمع التمويل اللازم لهذا المعهد، حتى أنه قبل الظهور في إعلان تليفزيوني عن "البيتزا هت" لقي حوالي مليون دولار أمريكي، وكان الإعلان يصور وصول جوربي ومعه حفيدته إلى محل البيتزا، فيتعرف عليه الناس، ويختلفون حول إجراءاته الإصلاحية، ثم تهتف امرأة: "يكفي أنه جعل البيتزا ممكنة"، ويهتف الحاضرون: "يعيش جورباتشوف الذي جعل البيتزا ممكنة".

هذا الرجل الذي كان يحكم إحدى أكبر قوتين في العالم، يدور الآن في العالم بصحبة زوجته "رئيسه" ليحاضر في القاعات المغلقة، مقابل أجر معلوم، الرجل الذي كان يملك أن يضغط بإصبعه على زر كي يفجر الكرة الأرضية، أصبح لا يملك أن يضغط على زر الميكروفون كي يتحدث، إلا بإذن من السيدة الفاضلة التي أدارت اللقاء.

ربما حملت كلماته بعض البكاء على اللبن المسكوب، أو قرض قلبه بعض الندم، لكنه يدافع بقوة عن حركته الإصلاحية، يقول: "إن أحداث تشيكوسلوفاكيا عام 1968، كانت إشارة تنبيه لنا كي نبدأ في التغيير، ولكننا تأخرنا كثيرًا".

قال له أحد الحاضرين مداعبًا: إن كارل ماركس كان يقول: "يا عمال العالم اتحدوا".. ولو قدر له أن يبعث من قبره اليوم لقال: "يا عمال العالم سامحوني"! فاكتست ملامح جورباتشوف بألم ظاهر، وقال باسترسال طويل أنه لا ينبغي أن نلوم ماركس، فهو مفكر وعالم عظيم، ولا يمكن أن نعيب النظرية إذا كان العجز مركزًا في التطبيق، وأشار إلى أن اختلافه الوحيد مع ماركس هو في مسألة "ديكتاتورية البروليتاريا"، كما دافع عن لينين مشيرًا إلى أن الموت لم يمهله لإجراء إصلاحات نادى بها، قبل وفاته مباشرة. ورغم اعترافه بالأخطاء الفظيعة لستالين، إلا أنه أشار إلى إنجازاته، مؤكدًا خطأ من يحاولون انتقاد حقبة زمنية في حياة الشعوب، بعد مرور سنوات عليها، وتساءل عن كيفية تفسير التأييد الهائل الذي لاقاه ستالين في حياته، أو الإنجازات الهائلة التي تحققت على يديه، أو حتى مجرد الحزن الكبير الذي خيم على أرجاء الاتحاد السوفييتي إثر وفاته.

أتيح لي في حفل الاستقبال الذي تلا المحاضرة أن أسأله عن رأيه في مقولة "انتصار الغرب أخيرًا على الشرق في الحرب الباردة"، فقال - عبر المترجم -  أن الحرب الباردة لم يكسبها أحد؛ بل خسرها الطرفان، فقد أنفقت روسيا وأمريكا كل على حدة، ما يزيد على 10 تريليون دولار في سباق التسلح المحموم، وتخيل لو أنفقت هذه المبالغ الطائلة في التنمية، والارتقاء بالإنسان، والبيئة، ومجتمعات العالم الثالث، لما كان لدينا اليوم جائع في أي مكان، ولا أصبحنا مهددين بالكارثة البيئية التي تحيق بالعالم الآن، ثم أنه في ميزان الإنسانية يعتبر الشرق هو الذي انتصر؛ لأنه أنهى الحرب الباردة لصالح خير الإنسانية جمعاء.

وعن الشرق الأوسط ومعضلة السلام، اكتفى بالإشارة إلى أن وزير الخارجية الحالي (بريماكوف) كان مستشاره لشؤون الشرق الأوسط، مبديًا ثقته في أنه سيعيد روسيا بقوة لمعادلات الشرق الأوسط، ومعترفًا في نفس الوقت بأن غيابها أدى إلى انفراد الولايات المتحدة الأمريكية برسم وإقرار السياسات الدولية، كما انتقد أسلوب إدارة أمريكا للأزمة العراقية، موضحًا أنه كان ضد استخدام القوة لإجلاء القوات العراقية من الكويت، وكان يفضل العمل الدبلوماسي، وأن الأزمة الأخيرة أوضحت بجلاء أن العالم قد ضاق بالأسلوب الأمريكي في إملاء سياستها على العالم، فقد رفض مجلس الأمن مبدأ اللجوء للقوة ضد العراق، واعتبر ذلك هزيمة دبلوماسية لأمريكا، ولكنها لن تكون الأخيرة طالما واصلت السياسة الأمريكية عجرفة القوة وحدها.

خرج الرجل برفقة "رئيسه" صغيرًا وحيدًا، وقد انقشعت عنه أبهة السلطة وهيلمان القوة. ترك القاعة والحاضرون يتبادلون نظرات حائرة حول مصير العالم، همست سيدة فاضلة في غيظ مكتوم: "إذا كان كل زعيم سيرتكب أخطاءً عديدة يعتذر عنها بعد مرور سنوات، فعلى الدنيا السلام.. لا بد من طريقة للحيلولة دون تلك الأخطاء.. أنا خائفة على أولادي"!

علق دبلوماسي غربي صديق بأن جورباتشوف أدى مهمته في حدود الدور المرسوم له تاريخيًّا، فهو لم يصنع شيئًا، وإنما استجاب لمقتضيات التاريخ! بينما قال لي دبلوماسي عربي صديق: "إنه لم يكن غير عميل للمخابرات الأمريكية"! 

وإذا كان يوسف شاهين في فيلم "المصير" قد طالب بأن يعلو صوت الغناء، حيث أن الأغاني لا زالت ممكنة، فمن الواضح أن جورباتشوف أراد أن يعلو صوت الغناء، فلا زالت البيتزا ممكنة! واللي معهوش ما يلزموش!
----------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
*مساعد وزير الخارجية الأسبق
(المقال صفحات من فصل سنواتي في الأردن من كتابي – تحت النشر – "ع المعاش")


مقالات اخرى للكاتب