12 - 05 - 2025

محمد سايكس وعلي بيكو !

محمد سايكس وعلي بيكو !

تحت عنوان "إسرائيل العظمى" نشرت مقالًا في مجلة الدبلوماسي، في بداية الألفية الثالثة، استكملت به ما نشرته في مقال أسبق تحت عنوان "الفك والتركيب"، وقد وضعت في مقدمته ما أسميته "تحذير واجب"، قلت فيه: "على العرب جميعًا أن يقرؤوا الموضوع التالي بإقبال وشغف، حتى يعرف كل إنسان أين سيكون بيته في المستقبل؛ لأنه طبقًا للتخطيط التالي من الممكن أن ينام الإنسان العربي في دولة، ليستيقظ في اليوم التالي في دولة أخرى"..

هذا هو السحر الصهيوني العجيب، الذي يعدنا به السادة الصهاينة الجدد، ولكن ينبغي ألا ينسى أحد أن صهاينة قدامى وضعوا خططًا أخرى، منذ مئة عام أو يزيد، وربما كانت أكثر هزلية وقتها، وربما ضحك أجدادنا حتى استلقوا على قفاهم وهم يقرؤونها من فرط غرابتها، نعم.. أنا أتخيل جدي إبراهيم، حامل العالمية الأزهرية، المثقف جدًّا، عام 1897 وهو يقرأ عن مؤتمر بال في سويسرا، ويضحك من خيال الصهاينة الجامح، وربما شاركه في الضحك جاره اليهودي المصري!!

نقلت ما نشرته صحيفة "كيفونيم" الإسرائيلية باللغة العبرية عام 1982 تحت عنوان: "استراتيجية إسرائيل في الثمانينات"، وهذه الصحيفة من أجهزة المنظمة الصهيونية العالمية، ويرأس تحريرها يورام بيك، الذي هو في نفس الوقت رئيس إدارة المطبوعات والمعلومات في المنظمة.

وقد قام بترجمة المقال من العبرية إلى الإنجليزية الدكتور/ إسرائيل شاحاك، أستاذ الكيمياء العضوية في الجامعة العبرية بالقدس ورئيس الجامعة الإسرائيلية لحقوق الإنسان، بعد أن كتب مقدمة لها علي النحو التالي:

"المقال التالي يقدم – من وجهة نظري – الخطة التفصيلية والدقيقة، للنظام الصهيوني الحالي في الشرق الأوسط، وتعتمد على تقسيم المنطقة بالكامل إلى دويلات صغيرة، وتفكيك الدول العربية الحالية".

ويبدأ المقال المذكور في شرح عملية التقسيم على النحو التالي:

أن العالم الإسلامي العربي ليس مشكلة استراتيجية كبيرة سنواجهها في الثمانينات، رغم حقيقة أنه يحمل التهديد الرئيسي لإسرائيل؛ بسبب نمو قدرته العسكرية، فهذا العالم منقسم إلى أقليات عرقية، وفرق، ومشاكل داخلية، تحمل في ذاتها بشكل مدهش أسباب التدمير الذاتي Selfdestructive كما نرى في لبنان، وفي إيران – غير العربية – والآن في سوريا، وبالتالي لا يمكنه أن يتعامل معنا بنجاح في المشاكل الرئيسية، أي أنه لا يمثل تهديدًا حقيقيًّا ضد دولة إسرائيل على المدى الطويل، ولكن فقط على المدى القصير حيث يتمثل تهديده العسكري.

أن هذا العالم على المدى الطويل لن يكون قادرًا على الوجود في إطاره الحالي، في المناطق المحيطة بنا، بدون أن يمر بتغيرات ثورية حقيقية؛ لأن العالم العربي الإسلامي يشبه مبنى مؤقتًا من الورق، تم تجميعه بواسطة الأجانب (فرنسا وبريطانيا في القرن التاسع عشر والعشرين)، بدون أن تؤخذ في الاعتبار أماني أو رغبات سكان هذه المنطقة، فقد تم تقسيمها بشكل تحكمي إلى 19 دولة، كلها مكونة من تجميع لأقليات وجماعات عرقية متعادية، وبالتالي فإن كل دولة عربية مسلمة حاليًا تواجه تدميرًا عرقيًّا اجتماعيًّا من الداخل، وفي بعضها بدأت الحرب الأهلية بالفعل.

ثم يلي ذلك شرح تفصيلي لخطة التفكيك والتقسيم، التي قد يندهش البعض لدقة تنفيذها حتى الآن، وخاصة في العراق وسوريا. ويوضح المقال أن أوضاعًا حزينة وعاصفة تحاصر إسرائيل، وتخلق لها التحديات بما فيها من مشاكل ومخاطر، ولكن توجد أيضًا فرص بعيدة المدى لأول مرة منذ 1967، أن الفرص التي لم يتم اغتنامها آنذاك، أصبحت قابلة للتحقق في الثمانينات، بدرجة واتساع لا نستطيع أن نتصوره اليوم.

ويقول المقال بوضوح شديد: "إن إعادة اكتساب شبه جزيرة سيناء، بكل ما تملكه من مصادر ثروة محققة ومحتملة، يعتبر أسبقية سياسية، تم إيقافها بواسطة كامب ديفيد واتفاقيات السلام، والخطأ في ذلك يقع بالطبع على الحكومة الإسرائيلية الحالية، والحكومات التي مهدت الطريق لسياسة التنازل عن الأراضي، تلك الحكومات الائتلافية منذ 1967. إننا بدون البترول وعوائده (بترول ومعادن سيناء طبعًا!)، ومع نفقاتنا الهائلة الحالية، لن يكون أمامنا سوى العودة إلى الوضع السابق في سيناء، قبل زيارة السادات واتفاق السلام الخاطئ، الذي وقعناه معه في مارس 1979".

يتناول المقال بعد ذلك تفصيل شكل كل الدول العربية بلا استثناء، وقد تم تقسيمها وتفتيتها؛ حيث تبدو السعودية في الخريطة أكثر من ثلاثة دول، واليمن، والجزائر، وليبيا... إلخ. وفيما يتعلق بمصر يرى المقال المذكور أنها في صورتها الداخلية السياسية الحالية (عام 1982) ليست سوى جثة، وخاصة إذا أخذنا في الاعتبار الصدع الإسلامي / المسيحي.

إن الهدف السياسي لإسرائيل في الثمانينات، هو العمل على تمزيق مصر إلى مناطق جغرافية متعددة، وإذا سقطت مصر فإن بلادًا مثل: ليبيا، والسودان، وحتى بلاد أخرى بعيدة، لن تستمر في البقاء في وضعها الحالي، وسوف تنهار وتتفتت مثل مصر.

إن رؤية دولة مسيحية قبطية في مصر العليا، بجوار عدد من الدول الضعيفة ذات سلطة مغرقة في محليتها، وبدون حكومة مركزية، هي المفتاح للتطور التاريخي الذي أوقفته اتفاقية السلام، ولكنه يبدو قادمًا على المدى الطويل.

ويبدو أن المقال المذكور كان أكثر من مجرد نبوءة لحكماء صهيون؛ وإنما رؤية علمية وعملية، لمجتمع عربي لم يتخلص بعد من جينات داحس والغبراء، ولديه خبراؤه في التقسيم، الذين لا يقلون براعة عن سايكس وبيكو.. من المؤكد أن هناك محمد سايكس، وعلي بيكو.

اللهم بلغت، اللهم فاشهد.
-----------------------------

بقلم السفير: معصوم مرزوق *
* مساعد وزير الخارجية الأسبق


مقالات اخرى للكاتب