10 - 05 - 2025

عربات جدعون وصواريخ الحوثى

عربات جدعون وصواريخ الحوثى

دعونا من البهلوانيات المعتادة للرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" ، فقد أعلن "الكاوبوى" الهزلى ، أن "الحوثيين" أبلغوه استسلامهم ، وأنه أمر فى المقابل بوفف القصف الجوى الأكثف الأعنف على اليمن ، وسوق "ترامب" ما جرى باعتباره نصرا ساحقا لجلالته (!) ، بينما كانت الحقيقة شيئا مختلفا بالجملة ، فقد آلت الحملة الأمريكية على اليمن إلى خسران مبين و"خيبة بالويبة "، وفشل الحشد العسكرى الأمريكى الهائل ، وبأقوى وأكبر حاملات الطائرات التى تملكها واشنطن ، وجرب "ترامب" حظه التعس ، وبغارات بلغ عددها الآلاف ضد ما تصورت واشنطن أنها مواقع ومخابئ للحوثيين ، وأعلنت مرارا عن مقتل عدد كبير من قادة "الحوثيين" العسكريين ، لكن "ترامب" اضطر فى النهاية للانسحاب بعد قصف متصل لخمسين يوما وليلة ، أسقط "الحوثى" خلالها سبع طائرات درون أمريكية من طراز "إم. كيو. 9 " ، وهى أغلى وأعقد طائرات مسيرة أمريكية ، تبلغ تكلفة الواحدة منها 30 مليون دولار ، وأضيفت السبع المتساقطا حديثا منها إلى ضعفها الساقط المدمر فى زمن الرئيس الأمريكى السابق "جو بايدن" ، أى أن خسائر أمريكا فى باب "الدرونات، وحدها ، بلغت أكثر من 630 مليون دولار ، بينما كان "الحوثى" يسقط الطائرة "إم. كيو. 9" بصاروخ لا تزيد تكلفته على 500 دولار لا غير ، أضف إلى خسائر واشنطن فى حملتها على اليمن التى استمرت لأكثر من سنة ، ما خسرته واشنطن فى الحشد والتعبئة وجولات القصف بالمقاتلات الشبحية والقنابل الخارقة للتحصينات ، وهى تكاليف قد تصل إلى نحو عشرة مليارات دولار ، ومن دون أن تكسب هدفا واحدا معلنا ، لا فى حماية سلامة مرور سفنها التجارية وقطعها البحرية ، ولا حتى فى حماية ربيبتها "إسرائيل" ، التى شنت هى الأخرى خمس حملات جوية عنيفة ضد "الحوثى" ، استهدفت مرافق مدنية محضة ، ودمرت موانى "الحديدة" و"رأس عيسى" مرات ، إضافة لتدمير مطار صنعاء ومصانع إسمنت ومحطات كهرباء ، ودونما نجاح يذكر فى ردع "الحوثيين" ، الذين واصلوا قصف كيان الاحتلال بطائراتهم المسيرة وصواريخهم المتطورة ، ودونما تراجع عن قرارهم "الإيمانى" فى مواصلة حرب إسناد الفلسطينيين المظلومين المحاصرين فى "غزة" .

ورغم سريان إشاعات وتهيؤات صاحبت إعلان "ترامب" المفاجئ بوقف قصف اليمن ، إلا أن الضباب انقشع سريعا ، وتبين أن اتفاقا جرى عبر مفاوضات غير مباشرة بوساطة سلطنة "عمان" ، كان المقاول اليهودى الصهيونى "ستيف ويتكوف" ممثلا شخصيا لترامب فى التفاوض ، بينما كان القيادى "محمد عبدالسلام" ممثلا للحوثيين ، وبعد تفاوض اتصل لأسابيع ، أصر "الحوثيون" على حصر الاتفاق فى وقف إطلاق نار متبادل مع الأمريكيين دون "الإسرائيليين" ، وخضعت إدارة "ترامب" للمطلب "الحوثى" ، ربما بسبب الخسائر المالية الفادحة لواشنطن ، ويأس الجيش الأمريكى ، ورغبة "ترامب" فى الخروج من الورطة اليمنية ، مع ترك "إسرائيل" وحدها فى مواجهة "الحوثيين" ، والمحصلة ، أن حرب الإسناد الأمريكى للكيان "الإسرائيلى" فى اليمن ، توقفت إلى حين ، بينما أعلن "الحوثى" عزمه على مواصلة حرب إسناد "غزة" ، وإلى أحد الأجلين أو كليهما، إما إلى فك حصار "غزة" ، أو إلى وقف حرب الإبادة الجماعية الأمريكية "الإسرائيلية" تماما ، وقد يلقى "ترامب" بثقل ضاغط على "بنيامين نتنياهو" وحكومته الأشد تطرفا ، ويرغمها على قبول وقف إطلاق نار موقوت مقابل إطلاق سراح عدد من الأسرى الأمريكيين و"الإسرائيليين" فى "غزة" ، وهو ما قد تلحظه من تحركات أخيرة للوسيطين المصرى والقطرى بضوء أخضر أمريكى على ما يبدو ، وأيا ما كانت حدود وطبيعة الصفقة المعد لها ومداها الزمنى ، فإنها مرتبطة حكما بترتيبات زيارة "ترامب" المقررة أواسط الشهر الجارى إلى الدول الخليجية الغنية ، وطموح الرئيس الأمريكى لجنى تريليونات الدولارات فى صورة استثمارات لصالح أمريكا ، وهو ماجرى الإعلان عنه حتى قبل الزيارة الترامبية الميمونة (!) ، ومن دون أن يقدم "ترامب" فى المقابل ، سوى إيحاءات بمسافة ما تفصله عن خطط "نتنياهو" وحكومته ، التى أعلنت عن إتمام إجراءات التصديق على خطة أسمتها "عربات جدعون" ، ومن وراء الاسم التوراتى الوارد فى "سفر القضاة" ، والمنسوب إلى "جدعون" أحد أنبياء الحرب الصارمين فى التاريخ العبرانى القديم ، تقضى الخطة الإسرائيلية الجديدة القديمة باحتلال كامل قطاع "غزة" ، وتدمير ما تبقى فيها على نحو شامل ، وطرد ملايين الفلسطينيين ، وحشرهم فى "رفح" بين محور "فيلادلفيا" على الحدود المصرية ومحور "موراج الفاصل بين "رفح" و"خان يونس" ، مع التحكم فى توزيع الإغاثات الإنسانية من خلال شركات أمريكية خاصة بحراسة جيش الاحتلال ، ثم تكون الخطوة الحربية التالية بتهجير ملايين "غزة" إلى مصر ، وتحت شعار إخلاء "غزة" لتنفيذ خطة "ترامب" سيئة الذكر ، وعلى أن يجرى ذلك كله بزعم أولوية القضاء على "حماس" وأخواتها ، ولا يخفى "ترامب" تأييده لما ينوى كيان الاحتلال اقترافه ، لكنه يريد ـ على ما يبدو ـ إخراجا مختلفا ، يعطى له الأفضلية فى صناعة القرار الأمريكى "الإسرائيلى" ، ودونما مساس بأولوية "الاندماج الاستراتيجى" بين واشنطن وتل أبيب ، يحاول "ترامب" التأكيد على أولوية دور "حكومة إسرائيل فى واشنطن" على "حكومة إسرائيل فى تل أبيب" ، ويحاول نزع مخالب "نتنياهو" فى البيت الأبيض ، على طريقة مفاجأته لحكومة "نتنياهو" بالشروع فى التفاوض النووى مع إيران ، ثم قراره بإقالة "مايكل والتز" مستشاره للأمن القومى ، بسبب التفاف الأخير عليه ، وإدارته لمفاوضات سرية مع "نتنياهو" حول خطط "ضرب إيران" ، وإفشال المفاوضات النووية الجارية بوساطة "سلطنة عمان" ، قبلها كان "ترامب" قد أمر نتنياهو علنا بالتفاهم مع تركيا على خرائط التغ بالداخل السورى ، وبعدها كان قرار ترامب المفاجئ لكيان الاحتلال بالخروج من ملاعب قصف "الحوثيين" ، وربما تقديم ترضيات صورية للنظم العربية الموالية لأمريكا ، على طريقة اعتماد التسمية العربية للخليج ، الذى تنعته طهران باسم "الخليج الفارسى " ، أو التظاهر بحس إنسانى إزاء مآسى الفلسطينيين فى "غزة" ، أو السعى لضم دول عربية مضافة إلى مدار ما يسمى "المعاهدات الإبراهيمية" ، وكلها تصرفات عبثية لا تغير من الواقع المرير شيئا ، وإن تصور "ترامب" أنها قد تفيد فى الصراع الأمريكى متعدد الوجوه مع الصين ، بعد صدمات فشل حروبه التجارية ورسومه الجمركية ، التى أخفقت مبكرا فى إنقاذ الاقتصاد الأمريكى ، وزادت اضطراره للاغتراف من آبار الفوائض المالية فى منطقتنا المنكوبة .

والخلاصة الموقوتة فيما جرى ويجرى اليوم ، وفى الغد القريب ، أن "ترامب" مهما ناور وداور مع "نتنياهو" ، لا يستطيع التملص من التزامات واشنطن فى دعم "إسرائيل" ، والأخيرة هى "البقرة المقدسة" فى السياسة الأمريكية ، وعند كل الرؤساء الأمريكيين ، وعند "ترامب" بالذات ، الذى يفخر بدوره فى التسليم لكيان الاحتلال بكل ما يريد ، ولم يتراجع "ترامب" فى اليمن إلا تحت ضغط صمود "الحوثى" ، فلا شئ حربى يفلح فى اليمن بطبيعته الجغرافية "الأفغانية" المعقدة التضاريس ، ولا إمكانية لردع "الحوثيين" مع تطور إمكانياتهم التكنولوجية ، وتفوقهم الظاهر على خصومهم اليمنيين فى حرب "محو يمنية اليمن" ، ومسارعتهم واستمرارهم فى إسناد الشعب الفلسطينى ، لا تبدو مرشحة للتوقف ، وقد صاروا الجهة العربية الوحيدة المساندة بالنار للفلسطينيين ، وبما منحهم شعبية عربية عامة ، قد لا تتوقف كثيرا عند ما جرى ويجرى فى الداخل اليمنى الممزق ، وليس صحيحا ، أن المساندة "الحوثية" لم تضر بكيان الاحتلال ، فقد نجح التحدى "الحوثى" فى شل ميناء إيلات "الإسرائيلى" ، وإخراجه عن الخدمة مع مطاردة السفن "الإسرائيلية" أو المتجهة للكيان ، ثم أوحى نجاحهم الصاروخى الأخير بمقدرة فائقة ، تخطت كل طبقات الدفاع الجوى الأمريكى و"الإسرائيلى" ، وسكن صاروخهم الفرط صوتى "فلسطين ـ 2" على عتبة مطار "بن جوريون" ، ودفع ملايين "الإسرائيليين" إلى الهروب للملاجئ فزعا ورعبا ، ودفع شركات الطيران العالمية لمقاطعة الذهاب إلى أكبر مطارات الكيان لأيام طويلة ، وتفاقم خسائر الكيان وارد جدا مع التجدد المتوقع لضربات "الحوثى" ، خصوصا أن حكومة "نتنياهو" تربط مصيرها باستمرار الحرب على "غزة" ، والسعى لاحتلالها بالكامل بعد انتهاء زيارة "ترامب" ، وهو ما قد يعنى بالمقابل إعادة تنظيم صفوف المقاومة الفلسطينية ، ورفع وتيرة حرب العصابات ضد جيش الاحتلال ، مع استمرار المساندة "الحوثية" الفريدة عربيا ، وتزايد حرج أنظمة الاستسلام و"اتفاقات إبراهام" ، وذبول أدوار الوساطة مع كيان الاحتلال ، واتساع رقعة الحروب فى المنطقة ، وبالذات مع رفض السياسة المصرية التام لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء ، والتوتر المتزايد بين القاهرة وتل أبيب ، وبين القاهرة وواشنطن ذاتها ، وزيادة معدلات التوجه المصرى الرسمى إلى بكين وموسكو ، وما من فرصة للجم هذه التطورات الملموسة ، إلا بمتغيرات من نوع اختفاء "نتنياهو" سياسيا ، وهذا هو تحدى "ترامب" الأكبر .
-----------------------------
بقلم: عبدالحليم قنديل
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

عربات جدعون وصواريخ الحوثى