09 - 05 - 2025

سواقي القلوب

سواقي القلوب

"سامحك الله يا إنعام"، قلتها ثم تنهدت بعد ما انتهيت من قراءة رواية "سواقي القلوب"، للعراقية إنعام كجه جي. أضافت وجعًا إلى وجعي، ما كان ينقصني أوجاع شخصيات روايتك تلك، ولا رواياتكِ الأخرى.

تبدأ الرواية وتنتهي من نفس المكان، مكتب جوازات السفر على الحدود العراقية في أحد شهور الصيف، تجاوزت درجة الحرارة الأربعين درجة مئوية، والشمس تشوي ما تطوله من رؤوس ووجوه البشر والطير والحيوان، والرجل الواقف على الشباك ينتظر الإذن بالدخول إلى البلد الذي أكلت الحرب أولاده وحجارته، وعلى مقربة منه تقف سيارة أجرة تحمل تابوتًا اصطحبه من باريس، وضابط الجوازات لا يُلقي بالاً، الأحياء والأموات سواء لديه، اعتادت العيون مشاهد الموت والقبور."كلب. خائن"، هكذا يرى الحزب كل المهاجرين، كذلك الرجل الواقف أمامه، عاد بعدما أكلت الحرب كل شيء، وكل شيء يهون فداءً للزعيم.

وما بين المشهدين؛ البداية والنهاية، يقص علينا بطل الرواية جانبًا كبيرًا من حياته، بما فيها قصة السيدة المنتظرة معه في التاكسي، وتلك الممددة في التابوت تنتظر الدفن.

معتَّقةٌ هي روايات إنعام بشجن الغربة والمنافي وآلام البعاد، يهاجر العربي مخبئًا عاداته وتقاليده تحت جلده، صعب أن يفرط المهاجر في حكايات الوطن، وهل ترضى أذناه بغير الناي والعود؟، إذ كيف تهجر عصافير الذكريات حنايا الصدور؟

ما زال رغم طول إقامته في باريس يدندن بأغاني ناظم الغزالي (طالعة من بيت أبوها)، ثم لا يملك إلاأن يلوم ناظمًا لمخالفته صحيح الإعراب، فقد كان حقًا عليه أن يقول (أبيها وليس أبوها)، ولكنها القافية من ألزمته.

ولعل أشد ما يمس القارئ إحساسه بغربة البطل وعزلته بعد سنوات من تكرار فشله في بناء علاقة عاطفية سواء مع صديقته الفرنسية سوزان، أو العراقية المهاجرة سراب التي تزوجها وهي على فراش الموت تكريمًا لها، أو حبه الأول لنجوى، لتجعل الكاتبة من كل سيدة رمزًا لثقافة فشل في التعامل معها، فتكرر الفشل والخيبة والحرمان، حتى بطل الرواية جعلته مجهول الاسم وكأنه فقد الهوية والوطن.

تسيد الفشل المشهد، حتى في علاقته بالحزب الأوحد بعد ما اكتشف فساد كل رجاله وأنهم يناضلون من أجل (لقمة العيش)، وعندما يغادرون مواقعهم، يعيش تحت تأثير مخدر معتقدات الحزب.

في روايتها الأخيرة "صيف سويسري"، جعلت إنعام من أبطال روايتها فئران تجارب لعلاج سويسري تجريبي ضد الإدمان العقائدي خلال أحد فصول الصيف بالعاصمة بازل، أربعة عراقيين مهاجرين خلف كل واحد منهم مبادئ وعقائد حزبية عاش من أجلها، وبعد ما فات الأوان راح يبحث عن دواء لنسيانها. 

حتى عندما عكست زاوية الرؤية وأعادت الابنة الأمريكية بالميلاد، لوالدين عراقيين هاجرا بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، إلى العراق للعمل كمترجمة مع الجيش الأمريكي، وجدناها تعاني أيضًا من عذابات تمزق الهوية، بين أصلها العراقي وجنسيتها الأمريكية، لتطرح سؤالاً فارقًا، هل هي بعملها مترجمة مجرد ناقل للكلمات من اللهجة العراقية للأمريكية والعكس، أم أنها مُشارِكة فيما يرتكبه الجيش الأمريكي من مآس في العراق؟

ومن قال إن أبناء البلد لم يرتكبوا مآس أيضًا.. تمطع ضابط الجوازات خلف مكتبه وخرج للرجل الذي أذابت الشمس جسمه كشمعة تحترق، فظن الأخير أنه سيسمح له ولمن معه بالمرور، لكن الضابط وبكل برود ينصحه بشراء لوح ثلج إضافي، ويضعه على التابوت، فليس للانتظار نهاية.

أوجعتني يا إنعام وما براعة حكيك وتمكنك من لضم خيط الوطن في إبرة الغربة إلا إمعانًا في وجع يتكرر مع كثير من شعوب القهر والشتات، ممزقون بين الوطن والمهجر، فيتكئون على سيوف الخيبات، "ألا تعرف أن القلوب سواقٍ.. تتنائى ثم تتلاقى وتصب في مجرى واحد؟"، اقتباس من رواية "سواقي القلوب".. رواية تخطت حاجز الحكاية وصارت مرآة لما يحدث في دواخلنا، نحن الذين نحيا على تخوم الوطن والمنفى، الانتصارات والخذلان، الذكرى والنسيان.
---------------------
بقلم: 
د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

 

مقالات اخرى للكاتب

سواقي القلوب