في أوقات الهزيمة وأزمنة التطرف الديني والانحطاط الثقافي والتراجع الحضاري والانهيار والتخلف على كافة المستويات الأخلاقية والاقتصادية والصناعية والتجارية والزراعية والتعليمية والطبية والفنية وعندما تغيب الشفافية والمساءلة وتنتشر المحسوبية والكوسة وتضيع المروءة بين الناس وتتوارى العدالة والمساواة خلف الكواليس- عندئذ تطفو على السطح فقاعات وطفيليات بشرية ومجموعات من الجهلاء تتحكم في رقاب العباد ومصائرهم ويعم القهر والاستبداد والظلم وتضيع حقوق عامة الناس. ومما لا شك فيه أن القرود والافاعي والخنازير البرية سوف تحكم الغابة وتسيطر على الأحراش إذا مرضت الأسود.
في خضم تسونامي الفساد الرهيب يتم تضييق الخناق على الناس من جميع الاتجاهات وتكمم الأفواه وتتكالب الضباع من كل حدب وصوب على نهش أجساد الأبرياء والضعفاء والمظلومين. وبعدما يشعر الجميع بالإهانة وقلة الحيلة والعجز عن مواجهة الحقيقة بسبب تخاذل البعض وخيانة الآخرين يلجأ الناس للهروب من هذا الواقع الأليم بعدة طرق تضمن لهم العيش الآمن في أبراج عاجية وفي عالم من الوهم والزيف. وهذه الوسيلة هي نوع من توظيف ميكانيزمات دفاعية سيكولوجية للحفاظ على النفس من الانجرار نحو التدمير الذاتي أو الانتحار بسبب اليأس وضيق ذات اليد.
من بين طرق الهروب من مواجهة الواقع استدعاء البطولات والأمجاد القديمة التي لم يعد لها قيمة في الوقت الراهن مثل انتصار المسلمين على الفرس والروم وهزيمة المغول وقهر الصليبيين وفتح الأندلس وهنا تبرز صور الأبطال التاريخيين مثل صلاح الدين وقطز وصقر قريش الخ.
على المستوى الشعبي خاصة في (كفر بهانه) يلجأ العوام للأساطير والمقولات المؤسسة للثقافة الشعبية حتى يواصلوا العيش ويتحايلوا على الظروف الحياتية القاهرة. عندئذ تنتشر الأغاني التي تتحدث عن بطولات وإنجازات عفا عليها الزمن.
الأدهى من ذلك يحتمي الناس بأكاذيب ومبالغات يرددونها مثل الببغاوات. مثلا تجد سيدة تتشاجر مع أحد الباعة الجائلين بسبب خلافات على ثمن البضاعة فتقول له (خلي بالك أنا من شبرا أو أنا اسكندرانية أو أنا من بنات إمبابة الخ) كذلك تجد شخصا مثقفا يقول لك (خلي بالك أنا منوفي) أو شخص آخر يقول لك (لا تنس إن الدمايطة ملهومش حل) أو تاجر ملابس يذكرك ببطولات أهل بور سعيد الماضاوية عندما يحاول أن يفرض عليك شراء سلعة باكثر من ثمنها وهلم جرا.
طبعا محاولة الادعاء بأن سكان مناطق معينة من كفر بهانه يتمتعون بقدرات خرافية هو أمر مثير للضحك والسخرية خاصة في زمن الانحطاط الذي يعاني منه الجميع. إن الادعاء بأن شعبا ما أو سكان منطقة معينة يتميزون بخصائص خارقة للطبيعة هو محاولة يائسة - تثير الشفقة - للهروب من الواقع الأليم، وهو مخرج توفره أساطير الثقافة الشعبية للمجتمعات المطحونة التي تجاوزت جميع خطوط الفقر عبر التاريخ.
وفي محاولة للتأقلم مع القهر الفكري والسياسي والوظيفي (في مجال العمل) والعائلي (بين الرجل وزوجته) تنتشر مقولات عبثية مثل (إحنا نفوت في الحديد) و (إحنا إللي دهننا الهوا دوكو) و (احنا إللي عبأنا الشمس في أزايز) و(احنا إللي لفينا الفيل في المنديل) وغير ذلك من إفرازات ثقافة الفهلوة والتحايل على الواقع التي بدأت في كفر بهانه منذ باكورة عصور الاستبداد كنوع من مراوغة المستبد ولكنها أصبحت جزءا من تيار الثقافة الشعبية المركزي.
--------------------------
بقلم: د. صديق جوهر
* أكاديمي وناقد ومترجم