تهدي الكاتبة والباحثة النسوية غدير أحمد كتابها "حكايات الإجهاض: النساء بين العائلة والقانون والطب" إلى "أرواح النساء اللواتي فقدن حيواتهن بسبب الإجهاض غير الآمن في مصر، وإلى اللواتي الآن في حيرة.. كيف سيحصلن على إجهاض آمن، إلى كل امرأة خافت الموت في غرفة عمليات، على سرير ولادة، أو في منطقة نائية، أو في عيادة غير مجهزة، أو داخل غرفة النوم وفي أحشائهن حبوب تحفيز الإجهاض لا يعرفن ماذا سيحدث. وإلى كل اللواتي شاركن حكاياتهن في هذا الكتاب وآمنني على سردها ونشرها، وإلى كل راغبة في التمسك بحياة عادلة ومنصفة. لعل لحظات الخوف والألم والصدمة تتحول إلى منارة لغيرنا من النساء اللواتي لم تصلهن حكاياتنا من قبل الآن. معا كتبنا تاريخا من الهامش، يرأنا كما نرى أنفسنا وتجاربنا وحكاياتنا في مصر.. ومعا مهدنا الطريق لنساء من بعدنا يعرفن من خلالنا أنهن لسن وحيدات ولسن الوحيدات".
الكتاب الذي يعد فريدا في نوعه قدمت له د. سها بيومي كبير المحاضرين بقسم الطب والعلوم والإنسانيات بجامعة جونز هوبكنز الأمريكية، وصدر عن دار المرايا ينطلق من خلفية كاشفة وعميقة موثقا بدقة تقدم تأطيرا طبيا وتدقيقا قانونيا وشرعيا وتحليلا سياسيا للإجهاض في إطار الحراك النسوي في مصر تاريخيا وحتى يومنا هذا، كما يقدم فهما لما يقوم به النظام الأبوي من طمس متعمد لقضية الاجهاض القصدي، وما يمثله من تهديد لهذا النظام القائم على فرض السيطرة على أجساد النساء واستغلال أدوارهن الإنجابية والإنتاجية سياسيا واقتصاديا.
ومن جانب آخر تحلل الكاتبة الدلالات السياسية للإجهاض المستحث اعتمادا على النظريات النسوية والسياسية التي تنطلق منها إلى تأريخ قضية الاجهاض في مصر الحديثة وتربطه بسلاسة مع الاقتصاد المحلي والعالمي.. ثم تقدم ما يمثل لب الدراسة وأهم إسهاماتها حيث تسرد خمس عشرة قصة واقعية توثق لعلاقة النساء بأجسادهن حول تجارب الإجهاض القصدي في مصر، وهو توثيق قائم على بحث إثنوغرافي حثيث قامت به على مدار خمسة أعوام مع نساء مررن بتجارب إجهاض قصدي غير آمن. وبالأخير تتعمق في دوافعها لجمع هذه القصص وتأليف هذا الكتاب.
تقول غدير أحمد "بدأت العمل الميداني للكتاب في خريف عام 2017 وهو الإطار الأوسع لهذه الدراسة البحثية، والذي شمل مقابلات شخصية مع مجهضات مصريات تتراوح أعمارهن من 17 إلى 45 عاما. أغلبهن من طبقات اجتماعية متوسطة وتحت متوسطة، منهن متزوجات وعزباوات ومتعرضات للعنف الجنسي. بعضهن أتممن الإجهاض القصدي في القاهرة، وبعضهن بمحافظات أخرى، كما اختلفت وسيلة الإجهاض القصدي بين الإجهاض الجراحي وحبوب تحفيز الإجهاض أو كليهما. وقد اعتمدت على اختلاف الحالة الاجتماعية، التنوع الجغرافي والطبقي والفئة العمرية بين المشاركات. منهن صديقاتي أو دوائر معارفي، ومنهن من تواصلن معي كباحثة نسوية بهدف البوح أو التفاعل مع مقالاتي المنشورة عن العدالة الجنسية والإنجابية باللغة العربية، ومنها انتقلنا معا لتجاربهن مع الإجهاض. تعاملت عن قرب مع أطباء وصيادلة ومقدمي خدمات الإجهاض القصدي غير الآمن. تضمنت الإثنوغرافيا معايشة مع نساء يستضفن نساء أثناء أو بعد الإجهاض. كذلك قمت بزيارات ميدانية لعيادات يمارس فيها لإجهاض بشكل غير قانوني؛ بعضها عيادات مجهزة ومعظمها عيادات غير مجهزة طبيا.
وتلفت إلى أنها استنتجت من العمل الميداني أن هناك ربطا بين الإجهاض وممارسة الجنس دون زواج ما جعله وصمة أخلاقية مرتبطة بمفاهيم اجتماعية كالشرف والاحترام، وقد تسبب هذا الربط في ممارسة معظم الأطباء للاستغلال الجنسي والابتزاز للمجهضات، وفي ارتفاع أسعار العمليات وحبوب تحفيز الاجهاض. وهناك ربط آخر بين الإجهاض والإثم الشرعي، كأن يصور الإجهاض القصدي كجريمة قتل. وهذا الربط بين الاجهاض والقتل يعكس الصورة النمطية للأمومة. فالأم الجيدة لا تقتل أبناءها. في حال كانت المجهضة متزوجة يجب أن يوقع الزوج إقرارا بالموافقة، بعد إثبات أن الحمل خطر على حياة زوجية بتقارير طبية رسمية، أو كان الإجهاض غير متعمد. أما في حالة العزباوات فإن هذا الإقرار توقعه المجهضة بنفسها، ويكون الهدف منه إخلاء مسؤولية الطبيب في حال المضاعفات الطبية، رغم أن ذلك لا ينفي المسؤولية الجنائية. لا تختلف الأوضاع كثيرا في حالات الحمل الناتج عن اغتصاب، لأن مقدمي خدمات الإجهاض غير القانوني لا يصدقون أن الحمل كان نتيجة اغتصاب، وقد تتعرض الساعيات لإجهاض حمل الاغتصاب إلى الاستغلال الجنسي والابتزاز المالي من مقدمي خدمات الإجهاض غير القانوني، شأنها شأن العزباوات والمتزوجات اللائي سعين للإجهاض القصدي دون علم الزوج.
وتؤكد غدير أحمد أن دراستها تشكل نواة حراك نسوي قاعدي يدعم حق النساء في الإجهاض الآمن، ويسعى بجهد ورغم الخطر الأمني إلى إرساء قيم نسوية حول سياسات الجسد؛ يتحرك لصد الخطر ويستتر مرة أخرى، وهكذا. وتلك القيم النسوية إنما هي نتيجة تفاعل بين أفراد مختلفة، تعكس الخطابات المهيمنة وتعيد إنتاج علاقات القوة لصالح النساء وذوي / ذوات الهويات الجندرية والميول الجنسية غير السائدة، بعبارة أخرى، فمفهوم تغيير الخطاب على المستويات الفردية بالنقاشات أو استخدام وسائل التواصل الرقمية، ويتجلى مع المستضيفات في حالات الخطر "ضرورة اتمام إجهاض قصدي"، يندرج تحت ما يسميه بيات "سياسة الحياة اليومية، والتي تتبلور من خلال أفعال بسيطة تؤدي في حالات بعينها لفعل جماعي. كما في حالات الاستضافة وحالات جمع تكاليف الإجهاض أو ترجيح أسماء أطباء / طبيبات، أو توفير حبوب تحفيز الإجهاض أو الحضور معهن للعيادات. وهذا أيضا ما قصد جيمس سكوت بالسياسة التحتية كأساس غير مرئي للمقاومة السياسية، وأنها هي نفسها أفعال مقاوماتية.
حكايات الإجهاض
وترى أن هناك جدليتين يتم صياغتهما كمتضادات عند الحديث عن الإجهاض، الحق في الحياة والحق في الاختيار. الأولى يتبناها اليمين المحافظ معتبرا الحمل حياة، والثانية تتبناها نسويات وتيارات تقدمية تعتبر الإجهاض اختيارا. وهنا أطرح جدلية ثالثة وهي أن المجهضات في السياق المصري ليس لديهن ما يسمى بالاختيار. لذلك فجدلية الحق في الحياة نعيد إنتاجها لصالح المجهضات أنفسهن لأنهن موجودات بالفعل ولهن حياة فعلية حريصات عليها. وذلك عكس الطرح الذي يعرضه اليمين المحافظ بأن الحق في الحياة هو حق الأجنة غير المولودة.
وتوضح غدير أحمد أن القانون المصري يتبنى موقفا متشددا من الإجهاض، ويعطي الأهمية لاستكمال الحمل دون الانتباه لأسبابه: كأن يكون نتيجة لفشل وسائل منع الحمل، أو ناتج عن اعتداء جنسي من غرباء/ أقارب/ أزواج، وكذلك يعطي الأولوية لاستكمال الحمل دون الانتباه لنتيجة الاستكمال في الحالات التي ذكرتها. نرى التناقض في تبني التشريع المصري للحق في الحياة في حالات الاغتصاب أو الحمل من المحارم مثلا. فإعطاء الأولوية لاستكمال الحمل بدافع الحفاظ على حياة الجنين، هو انتهاك للحق في حياة لا يتم فيها وصم المولود/ المولودة بأنه/ أنها ابن/ ابنة غير شرعي/ شرعية، ولا يتعثر استخراج أوراقه/ ها الرسمية، ولا يتم فيها إلقاء الأطفال كعبء وعقاب للمنجبة على ممارستها للجنس أو تعرضها للاغتصاب وإجبارها على ممارسة دور الأمومة الاجتماعي بشكل قسري.
وتضيف "تعيد المجهضات في السياق المصري إنتاج جدلية الحق في الحياة. في أغلب الحالات، يكون الإجهاض القصدي ضروريا لضمان حياة كريمة للعزباء أو المعتدى عليها جنسيا، ولأطفال غير مرغوب بهم غالبا. الإجهاض القصدي بالنسبة للمجهضة حق أصيل في حياة لا يتم وصمها فيها بالنشاط الجنسي، ولا يتم إلقاء مسؤولية الإنجاب عليها، ولا يتم فيها ملاحقتها من القانون والعائلة لأنها حملت دون زواج. وهنا تحد واضح لمحدودية مصطلح "الخطر على الحياة" والذي لا يقتصر على البيولوجية ويشمل المنظور الاجتماعي للخطر. وجدير بالذكر في هذا الصدد أن الكثيرات من المجهضات قد يرغبن في استكمال الحمل الناتج عن علاقة جنسية خارج إطار الزواج إلا أن ذلك غير متاح أمامهن. وبالتالي ممارستهن للإجهاض القصدي في هذه الحالة للنجاة بحيواتهن، أما المتزوجات فيمكننا تفسير الإجهاض في ضوء حقهن في اختيار عدم الإنجاب وبالتالي حياة أفضل لهن، أي لأن ذلك يندرج تحت بند الحق في حياة الحامل الموجودة بالفعل.
وتشدد غدير أحمد "هنا لا أنفي الحق في اختيار الاجهاض انطلاقا من مبدأ العدالة الجنسية والإنجابية للنساء. لكن نظرا لسياق لا يتيح للنساء إنجاب أطفال دون زواج ويجبرهن على استكمال الحمل أو يعاقبهن بالإجهاض كرها، كما تفعل بعض العائلات أو أن تجبر النساء فيه على المخاطرة بحيواتهن مقابل إتمام الاجهاض القصدي، فإن الإجهاض هنا أولوية للحفاظ على حيوات النساء الموجودة فعليا قبل أن يكون حقا للمواليد المحتملة في حياة كريمة. وبالتالي في السياق المصري، إن كان استكمال الحمل خيارا غير موجود، فإن الإجهاض باعتباره البديل وفي هذه الظروف غير الآمنة طبيا وقانونيا واجتماعيا لا يمكن إضفاء مصطلح الاختيار الحر عليه.
وتتابع أن ممارسة الإجهاض القصدي تعكس مقاومة للأطر القانونية والمجتمعية وللخطابات والسياسات. بممارسته التي تتجاوز فعل الإجهاض نفسه تستعيد النساء ملكية أجسادهن متحديات هيمنة النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ممارسة تتجلى فيها فاعلية النساء ومقاومتهن لتقسيمة الأدوار الجندرية واستغلال قوة عملهن الإنجابية. عندما تمارس النساء الإجهاض القصدي يرفضن هذا الاستغلال وتلك الهيمنة. وعندما تساعدهن أخريات يشاركن في خلخلة اجتماعية وسياسية نابعة من إدراك نسوي بموقع النساء في نظام العائلة ونظام الاقتصاد السياسي المحلي والعالمي. وعندما نروي هنا قصصهن نحن مشاركات أيضا. نحن أمام مقاومة تمارسها النساء على مر التاريخ، لكن في سياق محلي شديد الخطورة والعنف، لذا فالإجهاض إعادة هيكلة للنظام الأبوي الرأسمالي العنصري ومقاومة جندرية لسياساته القائمة على استغلال الرحم كأدأة إنتاج. عندما نستعيد السيطرة على الرحم والجسد، نقف في مواجهة عنيفة مع تلك السلطة.
---------------------------
كتب - محمد الحمامصي