في ظل تسارع التحولات الاجتماعية والتكنولوجية التي يشهدها العالم العربي، برزت الحاجة الملحة لإطلاق حوار شامل حول حاضر الأسرة ومستقبلها في ظل تحديات العصر.
وفي هذا السياق، عقد “المنتدى الإقليمي العربي الأول للسياسات حول إعلان الدوحة، الأسرة والتغيرات الكبرى المعاصرة”، بالقاهرة، بمشاركة رفيعة من مسؤولين وخبراء عرب يمثلون مختلف القطاعات الحكومية والأكاديمية والاجتماعية من المغرب واليمن والأردن وقطر وغيرهم.
وقد شكّل المنتدى منصة استراتيجية لتبادل الرؤى واستعراض التجارب حول سبل حماية الأسرة وتعزيز صمودها في وجه التغيرات المتسارعة، انطلاقًا من مركزية الإنسان في رؤية قطر الوطنية 2030، وبدعم من قيادتها الرشيدة.
ومن هذا المنطلق، أكدت السفيرة هيفاء أبو غزالة، الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية ورئيس قطاع الشؤون الاجتماعية، أن المنتدى يمثل خطوة هامة في تفعيل إعلان الدوحة عبر دراسة توصياته ومبادراته، والبحث في كيفية تطبيقها بما يخدم استقرار الأسرة العربية ورفاهها الاجتماعي.
وأوضحت أن النقاشات ستركز خلال يومي المنتدى على أبرز التحديات التي تواجه الأسرة، مثل التغيرات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، إلى جانب تناول الاتجاهات المعاصرة المؤثرة على كيان الأسرة، مثل الرقمنة والهجرة والتحولات الديموغرافية والتغير المناخي.
ومن جانبها، شددت الدكتورة الشيخة حصة آل ثاني، أستاذ مساعد بجامعة قطر، على أن المنتدى يأتي في توقيت مفصلي لتسليط الضوء على القضايا الجوهرية التي تمس الأسرة العربية وتنعكس على الهوية والقيم والموروث.
وأشارت إلى أن تسارع الرقمنة غيّر طبيعة التواصل بين أفراد الأسرة، حيث بات الحضور الجسدي لا يعني بالضرورة وجودًا عاطفيًا فعّالًا.
وأضافت أن الإفراط في الاعتماد على التكنولوجيا أفقد “الميثاق الغليظ” – الذي يمثل جوهر الزواج في الإسلام – قوته ومتانته، مما تسبب في تفكيك الروابط الأسرية.
فيما، أكدت الدكتورة شريفة نعمان العمادي، المدير التنفيذي لمعهد الدوحة الدولي للأسرة، أن المنتدى يوفّر فرصة مهمة لتبادل الرؤى بشأن آليات تطبيق إعلان الدوحة في السياسات العامة.
وأوضحت أن أخطر التغيرات التي تمس الأسرة في العصر الحديث هي التحولات التكنولوجية، التي رغم جوانبها الإيجابية، تحمل آثارًا سلبية بالغة على العلاقات داخل الأسرة.
وأضافت أن قطر قطعت شوطًا متقدمًا في هذا المجال، حيث نجحت في دمج السياسات الأسرية داخل المناهج الدراسية وتطبيقها بفاعلية.
في كلمتها، دعت وزيرة التضامن الاجتماعي، الدكتورة مايا مرسي، إلى ضرورة وضع سياسات مراعية لخصوصية المرأة العربية وظروفها، مشيرة إلى الحاجة لتمويل مستدام لبرامج الحماية والتمكين، وتطوير مناهج تعليمية تكرّس احترام المرأة ودورها داخل الأسرة وخارجها.
كما شددت على أهمية تطوير خطاب إعلامي يُعلي من شأن المرأة ويُبرز ما تواجهه من تحديات.
وأشارت إلى أن المنتدى يمثل دعوة لدعم التشريعات الحمائية للمرأة، ومكافحة العنف الأسري، وتبنّي سياسات شاملة للتمكين الاقتصادي، بما في ذلك دمج المرأة في القطاعات الجديدة كالاقتصاد الرقمي والأخضر.
وفي سياق متصل، لم تغفل مرسي الإشارة إلى الأزمة الإنسانية في غزة، حيث أكدت ضرورة التحرك العاجل للحد من معاناة الأسر الفلسطينية التي تعيش أوضاعًا مأساوية في ظل النزوح والدمار، مشيرة إلى التحديات الجسيمة التي تواجه المرأة والأسرة في ظل النزاعات والصراعات المسلحة.
وأكد السفير طارق الأنصاري، سفير دولة قطر لدى جمهورية مصر العربية ومندوبها الدائم لدى جامعة الدول العربية، أن الأسرة تمثل جوهر الاستقرار الاجتماعي في الوطن العربي، مشددًا على أن تمكينها لم يعد ترفًا اجتماعيًا، بل ضرورة استراتيجية لبناء مجتمعات متماسكة قادرة على مواجهة التحولات العميقة التي يشهدها العالم.
وقال السفير الأنصاري إن هذا المنتدى يأتي استكمالًا لجهود دولة قطر في دعم قضايا الأسرة إقليميًا ودوليًا، والتي كان آخرها استضافة مؤتمر الذكرى الثلاثين للسنة الدولية للأسرة في أكتوبر 2023، بمناسبة مرور ثلاثة عقود على إعلان الأمم المتحدة لعام 1994.
وأشار إلى أن “إعلان الدوحة”، الذي صدر في ختام ذلك المؤتمر، تضمن أكثر من 30 توصية تعالج التحديات المعاصرة التي تواجه الأسر، من تغيرات ديموغرافية وهجرة وأزمات مناخية، وصولًا إلى التحولات الرقمية والتكنولوجية.
وأوضح أن منتدى اليوم يُمثل انتقالًا من مستوى التوصيات النظرية إلى بحث آليات التفعيل الواقعي، عبر منصة حوارية تجمع صناع السياسات والخبراء والممارسين، في سبيل بلورة سياسات أسرية قائمة على المعرفة والتجربة والتكامل المؤسسي.
وتوقف السفير الأنصاري عند حجم التحديات التي تواجه الأسرة العربية في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية الراهنة، موضحًا أن هذه التحديات تتراوح بين النزاعات المسلحة، والضغوط الاقتصادية، والفجوة الرقمية، والتغيرات الثقافية التي تمس جوهر الهوية الأسرية وتُضعف أدوارها التقليدية في توفير الحماية والدعم النفسي والاجتماعي لأفرادها.
وشدد على أن من أكبر التحديات التي لا يمكن التغافل عنها، ما تتعرض له الأسر تحت الاحتلال الإسرائيلي، لا سيما في فلسطين والجولان السوري ولبنان، حيث تسعى سياسات الاحتلال الممنهجة إلى تفكيك الأسرة من خلال الاعتقال وهدم المنازل والفصل القسري بين أفراد العائلة.
وقال إن هذا الاستهداف لا يمس فقط البنية الاجتماعية، بل يهدد أيضًا الهوية والانتماء ويورّث عدم الاستقرار جيلاً بعد جيل، مؤكدًا أن أي خطة استراتيجية للنهوض بالأسرة العربية يجب أن تأخذ في الاعتبار الاحتلال باعتباره عاملًا بنيويًا يعيق استقرار الأسرة.
وأضاف السفير القطري أن الاستجابة لهذه التحديات لا يجب أن تكون آنية أو تجزيئية، بل تتطلب رؤية شاملة تضع الأسرة في صلب السياسات العامة.
ولفت إلى أن رؤية قطر الوطنية 2030 انطلقت من هذا الإيمان، واعتبرت التماسك الأسري أساسًا لبناء مجتمع مزدهر، ولذلك حرصت دولة قطر على دعم البحوث والمبادرات التي تعزز صمود الأسرة وترسخ دورها كمحور للتنمية المستدامة.
و ثمّن السفير الأنصاري جهود معهد الدوحة الدولي للأسرة، وجامعة الدول العربية، وكل الشركاء في تنظيم هذا المنتدى، معربًا عن تقدير دولة قطر العميق لكل المبادرات الإقليمية والدولية الهادفة إلى تمكين الأسرة، وصون كرامتها، وتعزيز قدرتها على التكيف في مواجهة التغيرات الكبرى.
وأكد أن دولة قطر تدعم بكل ثقة الطموح العربي المشترك نحو ترجمة إعلان الدوحة إلى سياسات واقعية تلامس حياة الأسر العربية، وتسهم في بناء مستقبل أكثر تماسكًا وعدلًا واستقرارًا.
من جانبها، أكدت مستشارة بوزارة العمل القطرية أن الأسرة تظل أساس المجتمع، مشيرة إلى أن دولة قطر تضع الإنسان، مواطنًا كان أو مقيمًا، في صميم سياساتها التنموية، التزامًا برؤية 2030. وأوضحت أن الوافدين ليسوا مجرد مقيمين، بل شركاء فاعلون في عملية البناء الوطني، ويستفيدون من التعليم والرعاية الصحية والخدمات العامة دون تفرقة.
ولفت المشاركون إلى أن قطر وفرت بيئة متكاملة ينعم فيها الجميع بالأمن والاستقرار، وأن القيادة القطرية ، وعلى رأسها الأمير تميم بن حمد آل ثاني والشيخة موزا بنت ناصر ، تولي اهتمامًا بالغًا بالأسرة باعتبارها نواة المجتمع وضمانة تماسكه.
كما توقع المشاركون أن يشهد العام 2030 انعقاد النسخة السادسة من هذا المؤتمر، بالتزامن مع استكمال رؤية الدولة الشاملة، والتي تُكرّس دور الإنسان كعنصر محوري في مسيرة التنمية المستدامة.
شكل المنتدى الإقليمي العربي الأول للسياسات الأسرية منصة حوار شاملة حول مستقبل الأسرة العربية في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم. وعبّر المشاركون عن قناعتهم بأن التماسك الأسري ليس ترفًا اجتماعيًا، بل ضرورة استراتيجية لضمان استقرار المجتمعات ونهضتها.
وقد بعث المنتدى برسالة واضحة: أن دعم الأسرة يبدأ من تعزيز السياسات الاجتماعية، ويمر بتمكين المرأة، ويكتمل بالاستثمار في الإنسان بوصفه حجر الزاوية في التنمية والنهضة.