بمناسبة ما قيل عن " تسريب " حديث جري بين عبد الناصر والقذافي مؤخرا حول موقف الأول من مبادرة روجرز عام ١٩٧٠ ، وبغض النظر عن اسئلة مشروعة يمكن طرحها حول خبث الإقتباس خارج السياق أو توقيت وهدف " التسريب" ، فأنه من المهم دراسة أسلوب اتخاذ القرار في تلك الفترة ومدي سلامته ، وقد وجدت في أحد فصول كتابي ـ تحت الطبع ـ "دبلوماسية السويس " ما قد يلقي بعض الضوء علي ذلك ، وهو ما سوف انقله في السطور التالية :
من ضمن مشاكل صناعة القرار السياسي بوجه عام ، وفي مجال العلاقات الدولية بوجه خاص ، يعد من أهمها نقص المعلومات ، أو عدم دقتها أو تعمد تشويهها .
وكما كتب " كينز " في علم الإقتصاد: "أنه لا يوجد أساس علمي لأي احتمال محسوب" ، وهكذا فأنه عندما يسود الغموض فإن المعلومات التي يتطلبها حساب التكلفة والمنفعة لا تتوفر ، ويصبح اتخاذ القرار نوعاً من الرجم بالغيب ، أو في حالات التهور نوعاً من المقامرة .
لذلك، فإن العلاقات الدولية التي تكتنف دائما بالغموض أو بنقص حاد في المعلومات، تجبر صانع القرار إلي المخاطرة التي قد تقترب من حافة المقامرة في أحيان كثيرة، وقد عالج الكاتب الإستراتيجي الشهير " كارل فون كلاوزفتز " هذه المعضلة فيما يتعلق بالحروب التي تعد الشكل المتطرف من العلاقات الدولية ، فرأي أنه بسبب الشك في كل المعلومات والإفتراضات ، فإن الحرب هي مجال الغموض، وأن ثلاثة أرباع العوامل التي يتوقف عليها قرار الحرب تكون مغلفة في ضباب كثيف من الغموض" ، وربما لهذا السبب كانت نصيحته للقادة الميدانيين أن يضعوا مائة إحتمال للمعركة القادمة، ويدرسونها جيدا علي اعتبار أن كل احتمال منها وارد التحقق، علما بأن ما قد يتحقق فعلا هو الإحتمال رقم 101 ، ولكنه يكون سهل التعامل معه علي ضوء أن البحث المتعمق في مائة إحتمال يوفر فهما واسعا لعدد كبير من العوامل ويزيل مساحة أكبر من الغموض .
إن صانع القرار يواجه دائما ذلك النقص في المعلومات ، وهي تتزايد كلما كان القرار يتعلق بنظرة أبعد في المستقبل .
لقد اجري عبد الناصر تقديراته للموقف سواء في مواجهة أزمة السويس 1956 أو أزمة يونيو 1967 ، بنفس أسلوب ضباط اركان حرب الذي لا شك في إمتلاكه لأدواته ، وقد كانت تلك التقديرات بناء علي حسابات ردود الفعل الدولية دقيقة بشكل إجمالي عام 1956 ، وسوف نثبت في هذا الكتاب أنها لم تكن صحيحة في بعض أبعادها الجوهرية، مثل استبعاده لمشاركة إسرائيل، أو لاعتبارات دور مرور الزمن في منع وقوع العدوان المسلح.
وسوف نجد أن المعضلة تفاقمت في حسابات تقدير الموقف في يونيو 1967 ، وذلك لا يعني أن اتخاذ القرارات المختلفة لم تأخذ في الإعتبار الدراسة الدقيقة لكافة الأبعاد، فربما كانت المعلومات غير مكتملة عند حساب ردود الفعل المحتملة لدي العدو، ولكن الكارثة كانت غياب المعلومات بشكل شبه كامل عن الإمكانيات الذاتية ، ومدي استيعابها لمتطلبات الحرب الحديثة .
وهكذا ، فبينما كان اتخاذ القرار في الحالتين يسبح في ظلام دامس من الغموض، فإن قرارات 1956 كما ستثبت أزاحت عن طريق الإستبعاد deduction العديد من الأثر السلبي لبعض العوامل، وخاصة تلك المتعلقة بمشروعية قرار التأمين، وكذلك احتمالات رد الفعل العكسي للرأي العام الداخلي، سوف نجد - كما سيتضح في كتابنا اللاحق - أن قرارات 1967 كانت نوعا من المقامرة التي اعتمدت في أغلبها علي معلومات غير دقيقة أو استنتاجات غير علمية.
(وعند هذا الحد ينتهي النقل من كتابي ، ويبقي أن أؤكد المعني الذي أردت أن أركز عليه هو ما يتعلق بإتخاذ القرار ، فلم تكن تلك محاولة لتبرئة عبد الناصر أو اتهامه ، وأنما سعي صادق لتنقية الجدل من سموم التعصب ونقص المعلومات ، حتي يوضع قبول ناصر لمبادرة روجرز في إطاره العلمي السليم).
--------------------------
بقلم: معصوم مرزوق