السكن بين الحق والسلعة
تشكل قضية الإسكان أحد أبرز الاختبارات لمدى التزام الدولة بالتوازن، بين حقوق المواطنين وضرورات الاقتصاد.. وفي مصر أثارت التعديلات الأخيرة على قانون الإيجار السكني القديم (ما قبل عام 1996) جدلًا واسعًا، لا سيما في ظل تداعيات قانون 1996 الذي حرر أسعار الإيجارات الجديدة، وهذه التعديلات ليست مجرد تغيير قانوني؛ بل هي مرآة تعكس صراعًا اجتماعيًّا وسياسيًّا، بين حماية الفئات الهشة، وتحرير السوق العقاري، وتعلمنا الحذر حين نحاول عبثًا أن نقرر مصير ملايين الأسر..
الخلفية التاريخية: من التجميد إلى التحرير
• ما قبل 1996 حكمت مصر قوانين إيجار مُجمّدة، جعلت قيمة الإيجارات زهيدة، لدرجة أن بعض العقارات تُؤجر بجنيهات سنويًّا لعقود، وبينما حمَت هذه القوانين المستأجرين من الفقراء وكبار السن، خنقت حقوق الملاك، فتحولت العديد من المباني إلى أطلال بلا صيانة، وجاء قانون 1996 كزلزال حرر الإيجارات الجديدة وفقًا لآليات السوق؛ مما خلق فجوة بين عقود ما قبل وما بعد هذا التاريخ.
• ما بعد 1996 أدَّى القانون الجديد إلى توحش السوق وانزياح الحقوق؛ مما سبب تفاقم أزمة الإسكان، حيث ارتفعت الإيجارات لتصبح خارج متوسط دخل الأسر محدودة الدخل، وتحول السكن من حق إلى سلعة فاخرة، وازدادت الضغوط على الطبقة المتوسطة، بينما استفادت النخبة العقارية، ولم تُحَلَّ المشكلة؛ بل انتقلت من أزمة "مباني آيلة للسقوط" إلى أزمة "شعب عاجز عن السكن".
الأزمات التي تولدت من قانون الإيجار السكني 1996
- تفكيك الحماية الاجتماعية للمستأجرين محدودي الدخل
ألغى القانون نظام الإيجارات المُجمَّدة الذي كان يحمي شرائح واسعة من كبار السن، والعمالة غير المستقرة، والأسر الفقيرة، لصالح تحرير السوق بالكامل، فأدَّى هذا إلى تحوُّل السكن من "حق أساسي" إلى "سلعة خاضعة للعرض والطلب"، مما دفع آلاف الأسر إلى مواجهة إمَّا الإخلاء، أو تحمُّل إيجارات تفوق قدراتهم المادية.
- توسيع فجوة اللا مساواة الطبقية
سمح القانون بخلق سوق عقاري موازٍ، تُسيطر عليه النخب المالية والعقارية، حيث ارتفعت الإيجارات إلى مستويات تُناسب الطبقات العليا فقط، بينما تُركت الطبقات المتوسطة والفقيرة أمام خيارات محدودة؛ كالعشوائيات، أو الإقامة في مناطق نائية بلا خدمات؛ مما عمَّق الانقسام الاجتماعي.
- النزوح القسري وتفشي العشوائيات
مع تحرير الإيجارات، اضطرت أسر كثيرة إلى مغادرة مساكنها في المناطق المركزية ذات الخدمات الجيدة، والانتقال إلى أطراف المدن أو المناطق العشوائية، وهذا لم يزد من معدلات الفقر فحسب؛ بل حوَّل المدن إلى فسيفساء من "جزر الرفاهية" و"بؤر الفقر المترامية".
- إضعاف التماسك الأسري والمجتمعي
فرضت الضغوط المادية الناتجة عن ارتفاع الإيجارات على الأسر، تغيير أنماط معيشتها، كازدحام عدة أسر في وحدة سكنية واحدة، أو هجرة الشباب للعمل في مدن أخرى بحثًا عن إيجارات أرخص؛ وهذا أضعف الروابط الأسرية، وساهم في تفكك الشبكات المجتمعية التقليدية.
- غياب العدالة بين الملاك والمستأجرين
رغم أن القانون حاول تحقيق توازن جديد بحجة إنصاف الملاك، إلا أنه تجاهل التناقض الجوهري بين الطرفين: الملاك (غالبًا من أصحاب رؤوس الأموال) يتمتعون بقدرة تفاوضية أعلى، بينما المستأجرون (خاصة القدامى) يُعتبرون الطرف الأضعف في المعادلة؛ مما حوَّل العلاقة من "اجتماعية" إلى "استغلالية".
- تآكل الطبقة المتوسطة
لم تُصب الأزمة الفقراء فقط؛ بل امتدت إلى الشرائح المتوسطة، التي اضطرت إلى إنفاق نسبة كبيرة من دخلها على السكن، مما قلل من قدرتها على الادخار أو الاستثمار في التعليم والصحة؛ وهو ما يُهدد بانزياحها التدريجي إلى دائرة الفقر.
- شرعنة التمييز المكاني
شجَّع القانون على تحويل المناطق المركزية إلى مساحات نخبوية؛ عبر مشاريع سكنية فاخرة، بينما تُهمل الأحياء الشعبية، وهذا عزَّز من "الفصل المكاني الطبقي"، حيث تتركز الخدمات والاستثمارات في مناطق الأثرياء، بينما تُحرم الأغلبية من البنى التحتية اللائقة.
والأخطر في قانون 1996 هو تحويله السكن من "مكون أساسي للكرامة الإنسانية" إلى "أداة استثمارية صِرفة"، دون اعتبار للتداعيات الاجتماعية التي تُحوِّل الإنسان إلى رقم في معادلة الربح والخسارة، وهذه النتيجة لم تكن حتمية؛ بل هي ثمرة سياسات اقتصادية، تفتقر إلى رؤية تضمن التوازن بين نمو السوق وحقوق المواطنين.
التعديلات الجديدة: تفاصيل غير مُعلنة وآثار مُتوقعة
رغم غموض التفاصيل الدقيقة للتعديلات، يبدو أنها تهدف إلى تصفية نظام الإيجار القديم تدريجيًّا؛ عبر تسريع إخلاء الوحدات، أو رفع قيود التجديد، وهذا قد يُنهي معاناة الملاك القدامى، لكنه يهدد بإخلاء آلاف وآلاف الأسر، خاصة الفقراء وكبار السن والعمالة غير المستقرة، الذين يعتمدون على إيجارات زهيدة تكاد تكون رمزية.
التداعيات الاجتماعية: نزوح مُزمِن وانفجارالفقر
في ظل غياب شبكة أمان اجتماعي، قد تتحول هذه التعديلات إلى كارثة إنسانية؛ فالكثير من المستأجرين القدامى ينتمون لشرائح هشة، ودفعهم لسوق الإيجارات الحرَّة سيدفعهم إمَّا إلى عشوائيات المدن أو إلى الشوارع، وهذا ليس تفاقمًا للفقر فحسب؛ بل تآكُل للنسيج الاجتماعي، حيث تُستبدل الأحياء الشعبية بمشاريع سكنية نخبوية، والتاريخ خير شاهد.
الأبعاد السياسية: شرعية الدولة وصراع الطبقات
السياسة هنا لا تنفصل عن شأن الاجتماعي، حيث تُظهر التعديلات انحياز الدولة لرأس المال العقاري، في إطار سياسات نيوليبرالية غربية، تتبنى شروط المؤسسات المالية الدولية، ولكن مما لا شك فيه أن هذا الاختيار يهدد شرعية النظام، خاصة مع تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية المكبوتة، والسؤال: هل يمكن أن تنجح تنمية اقتصادية إذا دُفع ثلث السكان نحو الهامش؟
التناقض الاقتصادي: استثمارات أم فقاعات؟
يدعي مؤيدوا التعديلات أنها ستجذب الاستثمارات وتنشط السكن، ولكنَّ التاريخ يشير إلى أن تحرير الإيجار دون ضوابط يولِّد فقاعات عقارية، كما حدث في دول عربية أخرى، حيث تُبنى الشقق الفاخرة بينما تتفشى العشوائيات. فالأزمة ليست في قلة العرض؛ بل في انعدام القوة الشرائية.
نحو عدالة انتقالية
لا يعني الدفاع عن المستأجرين التمسك بقانون قديم عاجز؛ بل الدعوة لإصلاح يشمل:
1. حماية الفئات الهشة عبر إيجارات مدعومة أو تعويضات، أو توفيق الأوضاع بما يرضي المالك والمستأجر.
2. إلزام المالك بحد أدنى في مدد العقود لا يقل عن 15 سنة؛ لضمان الاستقرار الأسري.
3. تفعيل قوانين الصيانة الإلزامية للملاك، فقد ثبت بالفعل أنه حتى التعديلات الجديدة لا تلزم المالك بالصيانة.
4. تشجيع الإسكان الاجتماعي كبديل عن الفوضى العقارية.
الهدف ليس تجميد الزمن؛ بل صنع زمن جديد لا يُضحِّي بالإنسان في معبد السوق، والتعديلات ليست شرًّا مطلقًا، لكن تطبيقها دون رؤية شمولية سيفاقم الأزمات، وحين يُصبح السكن رفاهية، تكون الدولة قد تخلَّت عن أحد أهم أدوارها: ضمان الحق في حياة كريمة.
---------------------------
بقلم: أحمد حمدي درويش