01 - 05 - 2025

الكتابة كفعل تطهري

الكتابة كفعل تطهري

لا شك ان الكتابة والقراءة وجهان لعملة واحدة، إلا وهي صقل الوعي بالوجود والمعرفة. غير أن الكتابة كفعل تحريضي (بالمعنى الإيجابي) وتطهري تعلو درجة من هذا المنظور على القراءة. فالقراءة تلقي واستيعاب ولكن الكتابة عطاء وامتداد للخارج وتواصل بالمعنى الهابرماسي (نسبة الى الكاتب يورجن هابرماس). الكتابة هي بداية ونهاية لأنها تتضمن دهشة المعرفة التي توفرها القراءة وتنتهي بتوجيه رسالة من القاريء إلى العالم عبر نص من المفترض ان يصاغ بإحكام وتأنٍ. وربما يستطيع الفرد ان يقوم بقراءة سريعة عابرة يستوعب بها بعض مما في المقروء من رسائل. على النقيض لا يمكن ان تكون هناك كتابة سريعة إلا إذا تخطت معايير العقل والتعقل.

وبالإضافة للحالة التواصلية والإبداعية التي تقدمها الكتابة للكاتب، فان لها بعد مهم جدا يتعلق بالذات الكاتبة، خاصة في حالتي النص الأدبي والفلسفي. تلك هي حالة التطهر الإرادي واللاإرادي. وأصحاب المدارس الفلسفية الفرنسية والألمانية بالذات كانوا الأسبق بالإشارة لهذا البعد المركزي. أن تلقي افكارك وتناقضاتك وصراعاتك ككاتب مهموم بمشاكل و أزمات وجودية ومعرفية على الورق الأبيض هو في حد ذاته فعل تطهري متسامٍ يكافئ إعادة الولادة من جديد. ولكن قبل الولوج لعالم الكتابة الثري وما يتيحه من أبعاد نفسية ومعرفية متشعبة، يجدر بنا محاولة الإجابة على سؤال مركزي هو: لماذا نكتب؟ وحتما ستختلف الإجابة من كاتب الى أخر وفقا لعوامل عدة ذاتية و موضوعية.

من أهم العوامل الذاتية عامل السعي للتطهر الذاتي الذي أشرنا إليه في بداية المقال. ويبرز ذلك العامل أكثر ما يكون لدى الأدباء من كتاب الرواية والقصة والشعراء. و حينما كنت أقوم بجولة بين الكتب في إحدى المكتبات مؤخرا لفت نظري كتاب يحمل عنوانا دالا "أكتُب لكي لا يقتلني الشيطان". وعادة ما يقترن الباعث التطهري للكتابة بمستوى عالٍ من الإبداع لان الكاتب في هذه الحالة يكتب بدرجة عالية من الصدق والاستبطان الذاتي في سعيه الحثيث للتخلص من هواجسه وآلامه. ولا يقتصر التطهر كفكرة وإرادة على الكتابة الأدبية فمن الممكن أن نجده بوضوح كذلك في الكتابة الفلسفية على مر العصور. في بعض الحالات، كانت الكتابة التطهرية تودي بالكاتب الي الجنون. كان الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه (1844-1900) يلقي بأفكاره عن إرادة القوة و الاخلاق والسوبرمان وموت الإله بكل عنف على الورق. كان نيتشه يرى الأخلاق بمنظار المنفعة وليس بمنظار الخير والشر وكان يرى أن الحضارة الغربية قد حلت محل الله بعد أن أزاحته أو قتلته. بالرغم من ذلك فقد كان أميناً مع نفسه فيما يكتب، فقد كانت هذه هي قناعاته فعلا. لكن هذه القناعات هي التي أودت به في النهاية أن قضى أخر عشر سنوات من حياته في مصحة للمصابين بالجنون. أما غالبية حالات التطهر من خلال الكتابة كانت تؤدي الى توازن نفسي. وحالة نيتشه كانت مختلفة ربما لفساد أفكاره الذاتية أصلا وتناقضها مع مقتضيات الفطرة البشرية.

من البواعث الذاتية الأخرى للكتابة باعث الشهرة الذاتية. وربما كانت الكتابات السياسية وبعض الكتابات الأدبية مثالا على هذا الأمر. قطعا هناك كتابات سياسية عميقة تعكس فكر الكاتب وقناعاته الأيديولوجية. ولكن في هذا العصر هناك كتابات سياسية وفلسفية عديدة لا تعكس رؤى أصيلة بقدر ما تسعى الى الشهرة غالبا من خلال تبرير اتجاهات أو تيارات مهيمنة. ومن أهم الأسباب المرتبطة بالشهرة الاقتراب من دوائر نفوذ مالية أو سياسية. من أهم العوامل الذاتية أيضا عامل التبرير الأيديولوجي . وهنا لا يختلف الأمر كثيرا عن العامل السابق (الشهرة) لأنه غالبا ما ترتبط مصلحة الكاتب بتنظيم أو تيار إيديولوجي ما، يسعى الكاتب الى ترويجه من خلال قلمه.

أيضا يمكن الحديث عن بعض العوامل الموضوعية و التي تسهم في بروز ظاهرة الكتابة. إذا أخذا حضارتنا  الإسلامية مثالا للدرس، ربما نستطيع أن نشير إلى نموذجين من الكتاب. هناك فقيه السلطان يقابله فقيه الإصلاح أو فقيه العامة الذي يدافع عن مصالحها. وأنا لا أستخدم لفظة فقيه هنا بالمفهوم الضيق الذي يحصر صفة الفقيه في استنباط الأحكام الشرعية. فقيه السلطان كان يسعى الى تبرير أفعال الخليفة، بينما سعى فقيه الإصلاح الى حث الناس على العلم والارتقاء حماية لهم من بطش السلطان. وفي عصر النهضة العربية من أواخر القرن التاسع عشر الى أربعينيات القرن العشرين، كان لدينا في مصر سيادة لنمط "الكاتب المصلح" الذي يتميز بصفتين أساسيتين: حب المعرفة والتواصل مع الجماهير. ومن هذا المنظور يمكن أن نصنف كتابا مثل طه حسين ورفاعة الطهطاوي وعبد الله النديم وسلامة موسى وآخرين. كان ظرف الاحتلال البريطاني وتحدي الاحتكاك بالغرب من الظرف الموضوعي الذي ولد مثل هذه الكوكبة من الأسماء. منذ سيادة العلوم التقنية والسياسات الوظيفية في العالم بعد الحرب العالمية الثانية وليس عندنا فقط، توارى نمط "الكاتب المصلح" ليظهر نمط "الكاتب الخبير". وهو الكاتب الذي يحتمي بسياج الوظيفة الجامعية أو أعلى المناصب الحكومية ليتصدى لتبرير السياسات أمام الشعوب بدلا من الارتقاء بها، كما كانت وظيفة " الكاتب المصلح". إذن الكاتب يكتب ليتطهر أو ليشتهر أو يتقرب الى السلطة أو يبرر السياسات أو يخدم أيديولوجيا حزب أو حركة أو يرتقي بالجماهير. وفي أغلب الأحيان يكون هناك تداخل واشتباك بين تلك الدوافع مجتمعة.

في كل تلك الأنماط من الكتابة التي لها بواعث ذاتية أو موضوعية، تتم ممارسة عملية التطهر بدرجة أو بأخرى متفاوتة في العمق. كلما كان الصدق و التجرد من سمات الكتابة، كلما ازداد تأثير التطهر في نفس الكاتب بل وفي نفوس القراء. وكلما ازداد الصدق والتطهر كلما اقترب الكاتب أكثر من قرائه ومتابعيه.
------------------------
بقلم: محمد الأنصاري


مقالات اخرى للكاتب

الكتابة كفعل تطهري