30 - 04 - 2025

البلاليق والقرقيا: تراث مصري ساخر من عصر المماليك

البلاليق والقرقيا: تراث مصري ساخر من عصر المماليك

بعيدًا عن ديوان الشعر الرسمي، كان للعامة في مصر المملوكية صوت آخر  يعبر عنهم وعن أوضاعهم صوت، ساخر لاذع، وفكاهي... تجلى في البلاليق والقرقيا والمكفر، التي لم تكن ترفيهًا فقط، بل سلاحًا لغويًا في مواجهة الظلم والفقر. فنون عبر فيها المصريون عن أفراحهم وأتراحهم، عن نقدهم وسخريتهم، عن تصوّفهم وفكاهتهم. في المقاهي الشعبية والأسواق والحارات، فن شعبي يفيض روحًا مصرية خفيفة الظل.

فهل سمعت قبل اليوم عن كلمة البلاليق، هل تعرف ماذا تعني، وفي أي عصر من العصور كانت شائعة وما وظيفتها، غالبًا ستكون الإجابة لا.

البلاليق، ومفرده البُلَيّقْة هو فن شعبي مصري ظهر في العصر المملوكي أدرجه شوقي ضيف تحت المواليا وذلك نقلًا عن المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي، والمواليا وهي شكل من أشكال الشعر العامي الملحون لكن يرجع الباحثون نشأته إلى العراق، بينما البليقة أو البلاليق هي فن مصري انتشر في الشام، وجاءت تسميته من اللغة المصرية الشعبية يتسم هذا الفن بخفة الروح المصرية التي عرفت عن المصرين. يقتصر على السخرية والتهكم والفكاهة، وخفة الوزن التي تجعل سهل الانتشار والتداول بين العامة ويغنونه.

وممن اشتهروا بهذا الفن الشرف بن الطفال الذي توفي في قوص 722 هجرية، ومنها  بلبقية له كانت مشهورة في عصره يقول في أولها:

في ذي المدرسا … جماعه نسا

إذا أمسى المسا … ترى فرقعه

نسا ذي الزّمان … عجيب يا فلان

يكونوا ثمان … يصيروا أربعة.

ومن البلالبق المصرية التي سخر فيها المصريون من أحد سلاطين المماليك

سُلطاننا رُكينْ 

ونائبو دُقينْ 

يجينا الماء منينْ 

هاتو لنا الأعرج 

يجي الماء يدّحْرجْ 

 ويشير هذا المقطع إلى ما انخفاض مستوى النسل في عهد سلطنة الناصر الأول وما تبعه من شدة، ورأى العامة أن سبب هذا البلاء هو ظلم المماليك للسطان ركين بعد أن اغتصاب الملك والعرش ونفي السلطان. كلمة ركين تصغير لركن الدين الجاشنكير احتقارا  له لاغتصابه الملك، ودقين تصغير لدقن ويقصدون به الأمير نائب سلار لأنه كان ذقنه خفيفًا كونه مغولي الأصل.

ومن البلاليق الشعبية كانت لسراج الدين عمر  وهي بُليّقة هزلية رقص به منشدوه بين يدي السلطان حسن، وفيه يقول

من قال أنا جندي خَلَقْ  

فقد صَدَقْ 

عندي قبّاً من عهْد نوح 

على الفتوحْ 

لو صادفوا شمس السطوح 

كان احترق

ويشيرون بجندي خلق أي هرم للملوك السلطان حسن الذي كان يقف بجواره هو ما أطرب السلطان وجعلته يضحك كثيرًا وطلب من المنشدين أن يعيدوها أكثر من مرة.

ومن فن البليق قول الشيخ الحفني الشافعي الخلوتي:

خَطَر عَليّ غَزالي مَرْ ما اتكَلَّم 

فوق جفونه وقلبي والحشا اكَّلَّمْ 

إيش كان يضرُّه إذا بالراس لي سلَّم 

حتى أسرْ مهجتي لُولا السلام سَلِّم

فقد استخدم الشعراء هذا النوع من الشعر الشعبي للترفيه والتسلية، وأيضًا للانتقاد الأوضاع السياسية في مصر.

القرقيا

وعرف المصريون فنانًا ثنايًا أدرجه عبدالرحمن الجبرتي وشايعه في ذلك شوقي ضيف عرف باسم القرقيا ويختص بالموضوعات الفكاهية المتعلقة بالطعام عادة ومنه قول حسن شمّة:

قالوا تحب المدمَّس؟ قلت بالزيت حارْ 

والعيش الأبيض تحبّه قلت والكِشْكار 

قالوا: تحب المطبقْ؟ قلت بالقنطار 

قالوا اشْ تقولْ في الخضارى قلت عقلي طار

المُكَفِّر

وهناك شكل ثالث أورد الإدفوي نماذج منه وكان منتشرًا في مصر في العهد المملوكي وصنفه الجبرتي كشكل ثالث من أشكال المواليا ويطلق عليه اسم المُكَفّر  وهو عبارة عن مدائح نبوية، وفي الحب الإلهي، ومنه قول الشيخ شمس الدين الحفناوي 

بالله يا قلبُ دَعْ عنك الهوى واسْلَمْ 

من كلِّ قيلٍ ووافى عهدهم اسْلَمْ 

والزمْ حمى سادةٍ أمَّهُمْ يَسْلَم 

واسْلُكْ سبيل التُّقى يوم اللِّقا تَسْلَمْ

فنون شعبية ثلاثة جمعت خصائص الشعب  المصري روحه المرحة وكذلك تدينه، فنون بها السخرية والتهكم والنقد اللاذع وأيضًا التصوف،  

"البلاليق" و"القرقيا" و"المُكَفِّر" وثائق تاريخية مهمة تدل على حيوية الشعب المصري وذكائه، وقدرته على تحويل الألم إلى نكتة، مما يجعل من الضروري إعادة اكتشاف هذه الفنون، لإعادة اكتشاف أنفسنا.