01 - 05 - 2025

ملامحنــا لا تقول الحقيقة: عن وجع الطبقة المثقفة في زمن المسخ ..!!

ملامحنــا لا تقول الحقيقة: عن وجع الطبقة المثقفة في زمن المسخ ..!!

نحمل أفكارنا كصخورٍ على الظهر،

نمشي بها في دروبٍ لا ترحم،

نكتب كي لا نموت صمتًا،

ونرسم كي لا تبتلعنا العتمة،

ونغني... لنخدع الوجع قليلاً.

في عالم تهيمن عليه الأرقام، وتُقاس فيه القيمة بما يُراكم من مال أو يُستهلك من منتج، تغدو الملامح خادعة، والابتسامات أقنعة هشّة نخفي خلفها وجعًا قديمًا يتجدد كل صباح. نحن نضحك كثيرًا، لا لأن في الحياة ما يضحك، بل لأن البديل موجع، ولأننا نعرف أن الانكسار في هذا الزمن لا يُلتفت إليه إلا إن تحوّل إلى سلعة تُباع وتُشترى، أو عنوان جذّاب في عالم إعلامي تسوده الإثارة لا الفكر.

الطبقة المثقفة، تلك الفئة الهامشية في مركز المجتمعات، تبدو في ظاهرها متصالحة مع عزلةٍ اختارتها، لكنها في جوهرها تقاوم انهيار المعنى. لم تعد الكتب مصدر قوة، ولا القصائد سلاحًا، ولا الحقيقة مقصدًا، بل صار المثقف كمن يمشي على حد السيف بين الحاجة للعيش بكرامة، والرغبة في الصراخ بالحقيقة في وجه طوفان التزييف.

رأسمالية المعرفة المزيفة.في عصر تُباع فيه الشهادات الأكاديمية، وتُشترى فيه المقالات الجاهزة، صارت المعرفة نفسها سلعة، ولم يعد لجهد المفكر أو الكاتب أو الفنان أي وزن إن لم يتحول إلى منتَج قابل للتسويق. ولأن السوق لا يعترف بالعمق، فإن ما يُنتج من وعي وفكر غالبًا ما يُقصى، بينما يُرحّب بكل ما هو سطحي، استهلاكي، سريع الزوال.

صار المثقف غريبًا، لا لأن فكره معقّد، بل لأنه يرفض أن ينسجم مع إيقاع السوق. يكتب نصًا يحفر في وجدان القارئ، فلا يجد ناشرًا يغامر بطباعته، في حين تحظى كتب "التنمية البشرية" بملايين النسخ. يرسم لوحة تختصر ألم شعب، فلا تُعرض إلا إن تبنّاها "مستثمر فني". حتى الشعر لم يسلم، إذ غدا خاضعًا لمنصات التواصل ومنطق "الإعجابات" و"المشاهدات"، فاختلط الغث بالسمين، والرمزية بالفراغ.

الاغتراب الجديد

لم تعد الغربة مكانًا جغرافيًا، بل أصبحت حالة وجودية يعيشها المثقف في وطنه وفي المهجر على السواء. هو غريب بين أهله، يُنظر إليه كشخص "غير واقعي"، أو "محبط"، أو "فاشل في تسويق نفسه"، فقط لأنه لا يستطيع أن يروّج لوهم، ولا يُجيد لبس الأقنعة. كثيرٌ منهم يعمل في مهن لا تمتّ بصلة لاختصاصه، أو يبيع وقته في وظائف تفرغه من جوهره، كي يستطيع تأمين الحد الأدنى من الحياة.

حتى المثقف الذي اختار الصمت، لم يسلَم من قسوة الرأسمالية. فصمته ليس خيارًا حرًا دائمًا، بل أحيانًا نتيجة يأس من خطاب لا يُسمع، وكلمات لا تجد أرضًا تنبت فيها. إنهم يعيشون حالة نفي مستمرة، داخل المجتمع وخارجه، لأن ما يحملونه من وعي يكشف عورات النظام، والنظام لا يحب من يفضح عريه.

ثمن الصدق في زمن التزييف

ربما كان أخطر ما تواجهه الطبقة المثقفة اليوم هو الصراع بين البقاء والوفاء للمبدأ. أن تبقى صادقًا يعني أن تدفع الثمن مضاعفًا، وأن تكون وفيًا لأفكارك يعني أن تعيش غالبًا في الظل. فالرأسمالية لا تكترث لمن يُنير الطريق، بل فقط لمن يبيع المصابيح. لا تُعطي اعتبارًا للضمير، بل للمحتوى القابل للتداول. وهكذا، يُصبح المثقف صاحب الموقف، مثقلًا بالمواقف، بلا منبر، ولا منصة، ولا حتى صوت.

أخيرًا: حلم لا يموت

ورغم كل هذا، لا يزال هناك من يكتب، من يرسم، من يغني، لا طمعًا في مال، بل لأن هناك نارًا في الداخل لا تُطفأ، وروحًا تأبى أن تُهزم. المثقف الحقيقي يعيش معركته بكرامة، ويُراكم وجعه في نص أو فكرة أو لوحة، عسى أن يأتي زمن يُعاد فيه الاعتبار للمعنى.

ملامحهم لا تقول الحقيقة، نعم، لكنها تحملها في العمق. ربما لا يبتسمون من فرح، لكنهم لا يزالون يحلمون، لأن الحلم آخر معقل للحرية في زمن تُباع فيه الأرواح بأبخس الأثمان...؟!
---------------------
بقلم: محمد سعد عبد اللطيف 
*كاتب وباحث
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

ملامحنــا لا تقول الحقيقة: عن وجع الطبقة المثقفة في زمن المسخ ..!!