في صباح يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، كنت أعيش في الغرب وأعمل داخل المركز الثقافي الإسلامي، حيث كان يومًا سيغير مسار العلاقات الدولية، وسيترك أثرًا دائمًا في نظرة الغرب إلى العرب والمسلمين. كغيري من الملايين، تابعتُ مشاهد انهيار برجي التجارة العالمي، لكن ما لم أكن أتوقعه هو أن أجد نفسي في قلب العاصفة، ليس فقط كمسلم يعيش في الغرب، بل كجزء من مؤسسة إسلامية باتت فجأة تحت الشبهات، بعدما وُجهت اتهامات إلى بعض عناصرها بالتورط في الإرهاب.
صدمة اللحظة الأولى
ما إن وقعت الهجمات، حتى بدأ الإعلام الغربي في رسم صورة نمطية للمسلمين كإرهابيين محتملين. عايشتُ بنفسي كيف تحول تعامل الناس من الحذر الصامت إلى العداء الصريح. وجوه كانت تبتسم في الأمس، أصبحت متجهمة، ونظرات الريبة صارت تطاردني في الشوارع، في المتاجر، وحتى داخل المركز الثقافي الإسلامي الذي كنت أعمل فيه.
في الأيام التالية، تعرّض المركز لمراقبة أمنية مشددة، وبدأت الاتهامات تتوالى على بعض أفراده. لم يكن الأمر يتعلق فقط بالأشخاص، بل بدا وكأنه حملة منظمة تهدف إلى ربط الإسلام بالإرهاب. كانت تلك اللحظة فارقة، حيث شعرتُ أن هناك قرارًا سياسيًا وإعلاميًا بإعادة تشكيل صورة المسلم في الغرب، بحيث يصبح العدو الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
الإعلام وصناعة العدو
لعب الإعلام دورًا محوريًا في تأجيج الكراهية وتوجيه الرأي العام. رأينا كيف تم تسويق الإرهاب كظاهرة "إسلامية"، بينما تم تجاهل الحركات الإرهابية الغربية التي نشطت لعقود في أوروبا وأمريكا. لم نسمع عن ربط "الألوية الحمراء" في إيطاليا، أو "بادر ماينهوف" في ألمانيا، أو "إيتا" في إسبانيا، بالدين أو الثقافة الأوروبية، بل تم التعامل معها كحركات سياسية متطرفة.
وفي المقابل، كان أي حادث إرهابي يرتكبه شخص مسلم كافيًا لفتح نقاشات عن الإسلام والتطرف والعنف، وكأن العنف حكرٌ على المسلمين وحدهم. بل الأدهى أن مرتكبي الجرائم من غير المسلمين غالبًا ما يُبرَّر فعلهم بالمرض النفسي، كما رأينا في هجمات عديدة قام بها متطرفون بيض في الغرب، ولم تُصنّف إرهابًا.
ازدواجية المعايير في التعامل مع الإرهاب
كانت هذه الأحداث مثالًا صارخًا على ازدواجية المعايير. كيف يتم تصنيف الجيش الجمهوري الإيرلندي كمنظمة إرهابية لسنوات، ثم يتحول زعيمه جيري آدمز إلى رمز للسلام بعد توقيع اتفاق سياسي؟ كيف يصبح المستوطن الذي يقتل الفلسطينيين بطلاً قوميًا، بينما يُعتبر الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه إرهابيًا؟
هذه المعايير لم تكن عشوائية، بل جزء من استراتيجية تُستخدم لتبرير الحروب والتدخلات العسكرية، كما حدث في غزو العراق وأفغانستان، حيث استُخدم "الإرهاب الإسلامي" كمبرر لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وإسقاط أنظمة، ونهب ثروات، وزرع الفوضى.
كيف نعيد تشكيل الصورة؟
لكن السؤال الأهم: هل نحن كعرب ومسلمين مسؤولون أيضًا عن هذه الصورة النمطية؟ الحقيقة أن الإعلام الغربي ليس وحده المسؤول، بل هناك خلل في الخطاب العربي والإسلامي، وغياب لرؤية واضحة لتقديم صورة حقيقية عن الإسلام بعيدًا عن التشدد والانعزال.
يجب أن ندرك أن الغرب ليس كيانًا واحدًا، وأن هناك أصواتًا عقلانية تنتقد السياسات الغربية نفسها، مثلما فعل الفيلسوف جان بودريار عندما قال: "نحن (الغرب) الذين أردنا هذه الأحداث وإن ارتكبها (هم)"، مشيرًا إلى أن النظام العالمي يخلق الإرهاب ليبرر وجوده واستمراره.
أخيرًا
إن معركة الصورة هي جزء من معركة أكبر، وهي معركة الوجود والتأثير. ما حدث بعد 11 سبتمبر لم يكن مجرد هجمة على المسلمين في الغرب، بل كان محاولة لإعادة تشكيل العالم وفق رؤية القوى الكبرى.
اليوم، وبعد أكثر من عقدين على تلك الأحداث، علينا أن نتساءل: هل استوعبنا الدرس؟ هل فهمنا أن الحرب ليست فقط على الأرض، بل على العقول والقلوب أيضًا؟ الغرب يتلاعب بالذاكرة، لكنه لا يستطيع أن يمحو الحقيقة، إلا إذا تركناها تُنسى بأنفسنا...
--------------------------------------------
بقلم: محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث مصري متخصص في علم الجغرافيا السياسية