يُعد مسلسل "الشرنقة" من الأعمال الدرامية التي أثارت جدلاً واسعًا خلال موسم رمضان 2025، حيث نجح في جذب انتباه المشاهدين والنقاد على حد سواء. تدور أحداث المسلسل حول حازم، محاسب طموح يجد نفسه متورطًا في أعمال غير قانونية داخل الشركة التي يعمل بها، مما يدخله في صراعات نفسية حادة بين واقعه الحقيقي وعالمه الذهني المشوش.
هنا نصل للنقطة المحورية التي انطلق منها عمرو سمير عاطف مؤلف المسلسل، فكل فكرة تبدأ في مخيلة صاحبها رائعة، حتى تخرج من حيز الخيال إلى حيز التنفيذ، فإما تُكتب بروية وتتابع درامي ومنطقي صحيح، وإما ينفرط العقد فتتشرذم القصة ولا ننتهي بنسيج واحد كامل للدراما في شكلها النهائي، وهذا في رأيي كان التحدي الرئيسي للسيناريست سمير عاطف الذي أنحاز له بشدة كبطل رئيسي في هذا العمل الدرامي المهم جداً.
يستخدم عمرو سمير عاطف تقنية محيرة في كتابته لسيناريو "الشرنقة" فأنت تدخل معه في تكوين أشبه ببيت جحا أو شرنقة دودة الحرير، أو بمعنى أدق تقتحم لوحة بازل متشرذمة إلى ألف قطعة دقيقة، وتبدأ في البحث عن القطع المتناغمة بتأنٍ شديد لتلصق كل قطعة جوار شبيهتها بغية الوصول إلى الصورة النهائية.
هذا هو سيناريو الشرنقة، فعمرو يستخدم أحياناً تكنيك الفلاش باك وأحياناً يروي نفس الحدث على ألسنة شخوص متعددة لتعود وترى الحدث "كمُشاهد" من خلال أعين كثيرة، فتبدأ في فهم أحداث بدت غامضة أو في غير موضعها في حلقات سابقة، وأحياناً يُكمل حدث حدثاً آخر كقطعة بازل جديدة تُضاف إلى قطعة قديمة ليُزال الضباب الذي شمل الحدث في سرده الأول، وهكذا يلعب سمير عاطف بأعصاب المشاهدين ويُجبرهم على اللهاث خلفه في الأحداث التي يسردها بتشويق وإثارة رائعة.
المسلسل يعكس ببراعة الصراع الداخلي للشخصية الرئيسية "حازم"، حيث يعيش في حالة من الاغتراب النفسي، متأرجحًا بين طموحاته المهنية وإحساسه بالضياع الشخصي. هذا التناقض يعكس بوضوح مفهوم الاغتراب الذي طرحه الفيلسوف كارل ماركس ، حيث يشعر الإنسان في ظل الرأسمالية بأنه غريب عن ذاته، فيصبح مجرد آلة تسعى إلى تحقيق أهداف مادية على حساب وجوده الحقيقي، حيث لا يمارس الإنسان ذاته وتقف الأشياء ضده رغم أنها من صنعه، وبالتالي يبقى الإنسان مغترباً عن ذاته الأصيلة ويشعر بالعجز أمام عمله أو مقر عمله الذي ينتمي إليه ولا يستطيع أن يقيم علاقة سوية مع المجتمع الذي يعيش فيه.
نجح المخرج محمود عبد التواب في ترجمة السيناريو على الشاشة ببراعة، فاستطاع أن يوظف الأدوات البصرية والتشكيلية لإبراز الصراع النفسي للبطل وعلاقته بالأشخاص من حوله، مما جعل المشاهد يعيش في حالة تداخل بين الواقع والخيال غير قادر على تحديد أيهما الحقيقة وأيهما الوهم، فتمكن من إدخال المشاهد في الأحداث حرفياً، ليصبح المشاهد تماماً مثل حازم يتأرجح بين الحلم والحقيقة غير مدرك أيهماً يعيش؟
جاء أداء الفنان أحمد داوود مميزاً كالعادة، فهو مثال للنجم الهادئ الذي لا يثير حوله الكثير من الغبار، يعمل بحركة هادئة ويقدم أدواراً في مجملها علامات في دراما الفيديو والسينما، خاصة في الفترة السابقة مثل دوره المتميز في فيلم "الهوى سلطان" الذي عُرض منذ شهور قليلة وحقق نجاحاً كبيراً في السينما. تمكن داوود من تجسيد التعقيدات النفسية لشخصية "حازم" بعمق وإقناع شديدين، وهو ما يشي بأن داوود كممثل نضج كثيراً وبدأ في البحث عن أدوارٍ أكثر تنوعاً وتعقيداً.
الفنانة مريم الخشت أيضاً برزت بقوة في هذا العمل الفني، واستطاعت بأدائها لدور زوجة حازم أن تثبت قدرتها على تحمل مسؤولية دور بطولة نسائي لعمل فني ضخم كهذا، كذلك يستمر صبري فواز في تلاوة سيرته الخاصة كممثل حربائي "إن صح الوصف" قادر على التشكل والتلون وارتداء ألف وجه، وهو ما لعبه في شخصية المحامي "مرجان" الفاسد والذي رسم السيناريست سمير عاطف أبعاده الشخصية باحتراف، ليترجمها فواز باقتدار. نشاهد الدكتور أيمن الشيوي أيضاً في أداءِ متميز لن أفصح عن تفاصيله كثيراً وسأترك للمشاهدين اكتشاف طبقاته المتعدده. نرى أيضاً أداءات متميزة للفنانين محمد عبده ورامي الطمباري وباسل الزارو وسارة أبي كنعان.
رغم عرض مسلسل الشرنقة على منصة "ووتش إت" الرقمية فقط، إلا أنه أثار جدلاً واسعًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أشاد المشاهدون بتميز القصة والأداء التمثيلي والإخراج المتقن، ما يعكس قدرة المسلسل على ملامسة قضايا إنسانية عميقة تتعلق بالصراع الداخلي والاغتراب في المجتمع المعاصر.
إن مسلسل "الشرنقة" يعد تجربة درامية غنية تحمل أبعادًا فلسفية ونفسية، وتقدم دراسة عميقة عن الإنسان المعاصر وكيف يمكن للطموح غير المحسوب أن يتحول إلى لعنة. إن هذا العمل يثبت أن الدراما المصرية قادرة على تقديم محتوى متميز يجمع بين العمق الفكري والجاذبية الفنية، بعيداً عن الموجة الفاسدة لدراما تشويه الشخصية المصرية وحصرها في صورة العاهرة والبلطجي.
--------------------------------
بقلم: أمنية طلعت المصري