إذا تساءلنا عن السمة الأبرز في مجموعة "عطر الليل" (دار بتانة) للكاتب الروائي عمار علي حسن، التي لا تتجاوز أطول قصة فيها 100 كلمة، فسنجد الإجابة في أولى قصص المجموعة: "العجائبية" المفعمة بروح بالابتكار وكسر المألوف، حيث تتحول الرغبات والأمنيات المستحيلة إلى واقع يتحقق بأساليب غير تقليدية، خاصة عندما تنعدم السبل الواقعية لتحقيقها. إنها بمثابة بوابة للخلاص من الحياة المادية إلى عالم روحي يسمو بالقيم العليا للإنسان، مقدمةً تجربة فريدة تصل بالقارئ إلى أفق جديد وغير مألوف.
تتحدث القصة الأولى من مجموعة عطر الليل المعنونة بـ«حديد ودم» عن ذلك الحداد الذي صهر بنادق من مخلفات الحرب، فوجدها تنز دما ثقيلاً وتخرج عويلاً واستغاثات تنقطع لها نياط القلب. معبرة عن رغبة الإنسان اليويوبية الرافضة للحرب والقتل التي يروح ضحيتها الشباب والأطفال والشيوخ والنساء...إلخ؛ ولأن هذا غير ممكن في واقعنا الذي يتغذى على الحروب، التي باتت تجارة لبعض الدول؛ فتعمل جاهدة إذكاء الخلافات بين الدول، وإلقاء المزيد من الحطب في أتونها كلما أوشكت أن تخبو نارها، فجاءت العجائبية هنا؛ لتحقق الخلاص بعدما انعدمت كل الطرق والسبل الواقعية.
تقترن العجائبية بالخيال، وتعلو معها اللغة إلى سماء الشعر، ونجد ذلك في أغلب قصص المجموعة ومنها على سبيل المثال قصة «ظل»، « مشى متثاقلًا من فرط الهموم والأحقاد، ترنح عند أولى الدرجات، فتناثر ظله كشظايا زجاج ضربته العاصفة، وداسته أقدام المسافرين» اعتمد عمار علي حسن على الابتكار في إقامة علاقات غير ممكنة، وغير متوقعة بين الأشياء، ففي هذه الأقصوصة عبر عن الحرمان والقهر الداخلي الذي يعيشه بطل القصة، الذي يود أن تسحقه الريح ويتلاشى من فرط الهموم؛ ولكن تأتي المفارقة حين يتناثر ظله فقط، ويبقى صاحب الهموم كما هو رجل يمشى بلا ظل كأنه شبح .
دفعت هذه الروح العجائبية التي تغمر قصص عمار على حسن إلى أنسنة الجمادات في لقطات شاعرية خاطفة ومؤثرة في الوقت نفسه مثل قصة «المقعد» الموجود في عيادة طبيبة يسمع آنين المرضى، منهم من ذهبوا بلا عودة، فيؤجل انهياره المحتوم إشفاقا عليهم، وكذلك أنسنة «الحقيبة» وهي تتحدث عن استيائها من إساءة صاحبها لها، رغم أنها تحفظ أسراره، وتجلس في المقاهي أو مكتبه، وتعاني من دخان سجائره ورذاذ لعابه، وإزعاج هاتفه، وعدم عصيانها له، وينسى صاحبها الزمن الذي يأكلها، وستكون نهايتها في ركن معتم بالمنزل، أو في صندوق قمامة، فتقرر تلك الحقيبة بعد أن سردت الظلم الذي يقع عليها دون ذنب منها، أن تبحث عن حريتها المغتصبة.
وفي لقطة بارعة يأنسن عمار «الصاروخ» ويجعله أكثر رحمة وإنسانية ممن أطلقه من طائرة بالغة التعقيد والتطور، حين يقرر الانحراف عن هدفه الذاهب إليه بدقة متناهية مخالفًا فطرته التدميرية؛ لأنه رأى طفلين يلعبان كرة، وشجرة ترقص في النسيم، وقطة منكمشة، فيلقى بنفسه في منطقة فارغة،فالعجائبية هنا استطاعت أن تقهر وتحقق المستحيل.
ومن أهم مصادر العجائبية في الثقافة العربية القصص الشعبية المبنية على العدالة الشاعرية، التي تحضر في كرامات المتصوفة من خوارق للعادات،ولا تبعد هذه الروح الصوفية بخوارقها عن عطر الليل التي نلمحها في العديد من أقاصيصها مثل أقصوصة «عشق» التي تتناول قضية العشق وأثره في الروح والجسد «لا يشيخ من يجود الزمان عليه بالوصل» أو أقصوصة «باب ونوافذ» التي تقول «نام مطمئنًا؛ لأن للبيت بابًا ونوافذ؛ ولكنه حين استيقظ لم يجد سوى جدران مصمتة ترخي الظلام على كل شيء وسمع همسًا جليلًا
-آن الأوان أن تفتح الأبواب والنوافذ المغلقة داخلك لترى ما غفلت عنه» تلك القصة التي تتشابه مع التراث الصوفي الباحث عن الجمال الداخلي، وتربية النفس؛ للوصول إلى القيم الصوفية العليا. وتشابه أيضًا مع التراث الديني في قصة ابن عياض الذي كان من قطاع الطريق؛ ويهابه جميع المسافرين إلى أن سمع هاتفا يقول له "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ" ليجيب على هذا الهتاف بل آن يا رب بل آن"
وهناك أقصوصة «شجرة» التي تناولت الحديث عن شخص جلس تحت شجرة مرسومة على جدار فحولها إلى شجرة حقيقية، وراح يتسلقها وسط دهشة الجالسين ،وهي تشبه أسطورة صينية تقول:
«إن رسامًا فتح بابًا صغيرًا في صورته الجدارية ودخل منه، ثم أغلق الباب خلفه، ومنذ ذلك الوقت لا الباب وجد ولا رأي الرسام أحد"
كما عالجت الأقاصيص العجائبية في عطر الليل العديد من القضايا الشائكة مثل تقديس البعض لكل ما هو قديم، وتقديم النقل على إعمال العقل كما في أقصوصة «مخطوط» الذي يخاطب قرائه المعجب به بأنه كان مخطوطا مهجورًا منكورًا في زمنه، والآن بات من المقدسات فيجيه القارئ الذي يلغي حاسته النقدية «أن كلامه هذا من قبيل التواضع» فيصرخ فيه المخطوط بأن كتب والسيف على رقبته من سلطان جائر، فكانت النتيجة الطبيعة أن يفهم هذا القارئ أن القديم ليس مقدسًا، وبه الكثير من الزيف الذي أملاه سلطان جائر على عالم مجبر على الكتابة تحت حد السيف الذي يعلو مفرقه؛ لكننا نجد القارئ يصرخ قائلًا «– ما أعظم الأولين كانوا يطلبون العلم حتى وسيوفهم مشهرة ساحة الوغى لا تكف عن الجهاد»، ما يذكرنا بنكنة الكهربائي المعروفة التي تتهكم من الذين يغمضون أعينهم عن رؤية الحقيقة.
وهناك أقصوصة «خطبة» التي تبرز بشكل مادي القبح الذي يخرجه الخطباء الجهلاء على المنابر من دعوة إلى التعصب والفتنة، فهو يخرج من عينيه شررًا كثيفًا أحدث ثقبًا في جلبابه، والرذاذ بلل لحيته، ولما طالت الخطبة امتزج الشرر بالرذاذ فتحول جلبابه الأبيض إلى قطعة فحم، يتصاعد منها دخان كثيف غطت وجه الخطيب ووجوه مستمعيه، وهي نهاية توحي بانتشار التشدد الديني بسبب أمثال هذا الخطيب، فقد نقل إليهم أفكاره المتطرفة، وما الدخان الأسود إلا كناية عن هذه الأفكار وتجسيد هذه الأفكار ورسمها في صورة واضحة مادية مقززة عجائبية، تعادل صورتها المعنوية الخبيثة التي لا يستطيع الوصول إليها كل الناس.
والعجائبية قد تحمل في طياتها البعد الرمزي للعديد من القضايا الشائكة، فالرمز كان قرينًا للعجائبية في كثير من أقاصيص عطر الليل ومنها أقصوصة «الجنازة» لظالم يشيعه الناس وهم يتذكرون أفاعيله معهم؛ ليخرج أحد من بينهم ويبكيه بحسرة وهو يقول «كان رجل طيبًا» وسط حيرة المشيعين ثم يكمل، أنه في مرة سرقه وهو يضع السكين على رقبته فاسترحمه أن يترك له نقودًا ليشتري بها طعامًا فأعطاه مما سرقه منه. وهي قصة ذات بعد سياسي عن الأمم التي يسرق حكامها شعوبهم، ثم يعطونهم القليل منه فيشكرهم الناس على أنهم قد منحوها ما هو حق لهم بالأساس.
وإن كان غلب الجانب العجائبي على جل قصص عمار على حسن في عطر الليل، فإن ذلك لا يمنع وجود قصص واقعية أيضًا تناقش العديد من القضايا من زوايا جديدة، مثل قضية الظلم والعدل والاستهلاكية والدعوة إلى العمل وعدم اليأس وقصص أخرى مست قضايا المهمشين في الأرض والسياسية والفساد وهناك العديد من القصص التي عبرت عن أمثال وحكم وأبيات شعرية راسخة في الذهن العربي، حيث تنوعت القضايا التي تناولتها المجموعة في 185 قصة قصيرة جدًا، ما أثرى المجموعة بأفكار متنوعة وثرية تعالج موضوعات حياتية مختلفة.