لم تنبثق فكرة الاجتماع الإسلامي الذي يجمع ممثل عن كل قطر إسلامي لأول مرة من داخل الدوائر الرسمية في منظمة المؤتمر الإسلامي، والتي أعيد تسميتها عام 2011 بمنظمة التعاون الإسلامي.
ففي أوائل القرن العشرين ظهر كتاب مهم بعنوان "أم القرى" للكاتب السوري الشهير عبد الرحمن الكواكبي 1855-1902. كان الكتاب مبنيا على خيال الكاتب الذي تخيل مؤتمرا يحمل اسم "مؤتمر النهضة الإسلامية " عقد في مكة المكرمة عام 1899. وتصور الكواكبي لقاءات عقدت في مدينة مكة المكرمة على مدى خمسة عشر يوما تناولت تقريبا كل القضايا الفكرية والتحديات الداخلية والخارجية التي وقفت في سبيل النهضة الإسلامية على مشارف القرن العشرين. من التصوف والبدع والفقه والاستبداد الداخلي والتعليم الى الاستعمار ومواجهة الفكر الغربي والاستشراق. وكان هناك ممثل عن كل قطر إسلامي بل وممثلين عن المسلمين الغربيين في بريطانيا وفرنسا وألمانيا. وفي ذيل الكتاب أثبت الكواكبي 48 مادة مكونة لميثاق المؤتمر. وتأكيدا للطابع الفكري سمى هذه المواد " قضايا".
في 21 أغسطس 1969 حاول متطرف يهودي أسترالي إحراق المسجد الأقصى في مدينة القدس. وقد تم إحراق جزء من المسجد بالفعل. إثر هذا الحادث، اجتمع العديد من قادة الدول الإسلامية في مدينة الرباط وأعلنوا تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي (منظمة التعاون الإسلامي فيما بعد) في 25 سبتمبر 1969. لقد أصبح الشأن السياسي المباشر أكثر إلحاحا وأشد وطأة من عصر الكواكبي. منذ التأسيس عقدت المنظمة ما يربو على خمسين اجتماعا بين اجتماعات قمة واجتماعات وزراء الخارجية المنتظمة والاستثنائية. وتضم المنظمة حاليا 57 دولة ذات غالبية إسلامية في أسيا وأفريقيا ووسط أسيا. وتم التوافق على ميثاق المنظمة في الرباط في فبراير1972ثم استبدل بتاريخ مارس 2008 في قمة دكار بميثاق يضم تسعة وثلاثون مادة بعد ان كان الميثاق القديم مكونا من 14 مادة فقط. وتم تسجيل الميثاق الجديد في الأمم المتحدة عام 2017. وتتكون المنظمة من عدة أجهزة منها: أهمها مؤتمر القمة الإسلامي ومؤتمر وزراء الخارجية والأمانة العامة ومحكمة العدل الدولية الإسلامية.
في 7 مارس 2025 اجتمع وزراء خارجية دول منظمة التعاون الإسلامي في مدينة جدة اجتماعا استثنائيا بغرض "رفض سياسات التهجير والضم والعدوان والتدمير وارسال رسالة واضحة للعالم بان القضية الفلسطينية تمثل القضية المركزية للأمة الإسلامية" وفقا لبيان وكالات أنباء دول منظمة التعاون الإسلامي (يونا). وقد سبق هذا الاجتماع اجتماع القمة العربية الطارئة في 4-3-2025. ويذهل المرء لضعف تغطية وسائل الاعلام سواء العربية أو الدولية لمؤتمرات منظمة التعاون، مما يعكس للأسف الوزن الحقيقي لمفهوم الامة الإسلامية في العالم، على الرغم من أن منظمة التعاون تعد ثاني أكبر منظمة دولية من حيث عدد الدول الأعضاء بعد منظمة الأمم المتحدة. وليس من المتوقع من الاجتماع الأخير سوى المزيد من بيانات الشجب والإدانة. ويحاول هذا المقال أن يتلمس أوجه القصور والقوة في بنية وواقع ومستقبل هذه المنظمة الحاضرة الغائبة.
غياب الرؤية السياسية والمعرفية
غياب الرؤية السياسية الدقيقة للواقع والمستقبل مرض عضال أصاب الجسد الإسلامي منذ فترة طويلة. ولعله من المفارقات أن المطالع لكتاب أم القرى للكواكبي، يجد أنه تناول بالتشريح الدقيق في عام 1900 الكثير من القضايا والإشكاليات التي تواجه الامة الإسلامية بشكل مفصل وعميق. المشكلة هو تنحي الهم المعرفي كهم رئيسي من هموم منظمة التعاون الإسلامي. فمن بين الأهداف الخمسة عشر لمركز البحوث للتاريخ والفنون والثقافة الاسلامية الذي تأسس عام 1978 بقرار من مؤتمر وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي عام 1976، لا نجد هدفا واحدا متعلقا بشكل مباشر بالبحوث والدراسات السياسية أو المستقبلية. وكأن المنظمة تقر بانفصال الدين الإسلامي عن واقع المسلمين كحقيقة لا مفر من التسليم بها. ويوجد الآن خمسة مراكز أبحاث تابعة لمنظمة التعاون غير مركز البحوث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، كلها متعلقة بالإحصاء والاقتصاد والفقه والتضامن الاجتماعي. مما يعني غياب قضايا مؤثرة من منظور إسلامي من أجندة العمل في المنظمة. فلا يوجد أي دراسات برعاية المنظمة عن الصراع العربي الإسرائيلي أو الإسلام والغرب أو حتى معالجة التطرف الإسلامي من خلال دراسات جادة لا تخضع بالضرورة لسياسات الأنظمة الحاكمة.
شهدت المنظمة انتعاشا قصير المدى في ظل الأمانة العامة لأكمل الدين إحسان أوغلو 2004-2014 الذي حاول تحريك بعض المياه الراكدة. لكن لم تسفر جهود الرجل عن أي تغيير أو إصلاح مؤسسي ذا بال. والقصور في الرؤية يعود جزء كبير منه أيضا الي شبه انعدام التنسيق بين دول المنظمة التي تتباين في رؤاها الفقهية وأنظمتها السياسية مما يحول دون الالتقاء على رؤية موحدة، كتلك التي اصطنعها اصطناعا الكواكبي منذ ما يربو على قرن من الزمان.
سيادة الشكلانية القانونية
غلبة الشكلانية القانونية على آليات عمل المنظمة يساهم ولا شك في غياب الفاعلية والتصورات المستقبلية ، مما يبقي هذه المنظمة في إطار حدود الواقع المفروض على العالم الإسلامي . أو بالأحرى تلك التي يفرضها على نفسه ليظل يدور في دائرة رد الفعل . بالضبط كما نشأ كرد فعل لحادثة حريق الأقصى.ومن البديهي أن الاطار القانوني لاي منظمة دولية يجب ان يكون محكما و دقيقا. لكن ثمة ثلاثة إشكاليات تحديدا في هذا الصدد. جاءت بعض الأحكام في ميثاق المنظمة لتثير بعض التساؤلات .
على سبيل المثال هناك الفقرة السادسة من المادة الثانية والتي تؤكد أنه " ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للمنظمة و أجهزتها التدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما أو ذات الصلة بها." أيضا لا يوجدفي الميثاق أي ضمانات أو أليات لحل أي نزاع قد ينشب بين دولتين أو أكثر من الدول الأعضاء.
أيضا هناك عبارة غامضة جدا في الفقرة الثانية من المادة 33 و التي تنص على أنه " تعتمد القرارات بالتوافق في الآراء. وإذا تعذر التوصل للتوافق في الآراء يتخذ القرار بأغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين المقترعين ما لم يتم التنصيص على خلاف ذلك في الميثاق.
الإشكالية الثانية متعلقة بآليات العمل التي تتسم ببيروقراطية شديدة ناتجة عن شبكة معقدة من اللوائح والقوانين تدفن السياسة في كفن القانون. و ذلك ملحوظ حتى في آليات الأجهزة الفرعية للمنظمة مثل مركز البحوث الإحصائية والاقتصادية والاجتماعية والتدريب للدول الإسلامية أو مجمع الفقه الإسلامي الدولي على سبيل المثال. وإذا كانت الأمم المتحدة نفسها تعاني من تلك الإشكالية، فان الامر غير مفهوم تماما بالنسبة لمنظمة إقليمية أقل عددا و أكثر تجانسا. أو هكذا يفترض. ثم هناك الإشكالية المرتبطة بفعالية الأجهزة المختلفة للمنظمة حين التطبيق على المشكلات الحادثة. و كأن المنظمة تكبل نفسها بغابة من القوانين في هذا الصدد.
غياب العمل المشترك مع الهيئات الإسلامية في داخل وخارج العالم الإسلامي
وهذه نقطة مهمة ولكن يمكن فهمها من زاوية العداء بين الأنظمة الإسلامية الحاكمة و التيار الإسلامي الواسع خاصة في الغرب حيث تسيطر جماعة الاخوان المسلمين و جماعات أخرى على الهيئات الإسلامية في أوروبا و الولايات المتحدة وكندا. بعض هذه الهيئات تعمل بأجندة سياسية تحت مسمى العمل الخيري والثقافي. لكن كثيرا منها رغم ذلك يعمل بمهنية عالية وشفافية حتى أن الكثير من الهيئات الصهيونية في الغرب تسعى حثيثا لإلصاق تهمة الإرهاب بهذه المنظمات. مالعائق الحقيقي- غير عداء بين الأنظمة و التيار الإسلامي- يمنع منظمة التعاون من دعم ومد الجسور مع بعض هؤلاء النشطاء في الداخل و الخارج؟. ربما يبدو السؤال ساذجا. لكن أعتقد ان العمل السياسي الرسمي الاسلامي لن يكتمل الا بالعمل المشترك مع بعض مكونات المجتمع المدني الإسلامي ان جاز التعبير. لقد ظلت المنظمة مثلا في عداء موارب و توجس من اتحاد علماء المسلمين طيلة أن كان يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي المتهم بانتمائه لجماعة الاخوان المسلمين. لماذا لا ننظر للأمور من منظور مهني و واقعي؟.
التنافس السعودي المصري التركي
من عوامل إضعاف المنظمة هو لعبة الصراع على النفوذ بين المملكة العربية السعودية (جدة هي المقر الدائم للمنظمة "إلى ان يتم تحرير القدس لتصبح هي المقر الدائم" بنص المادة 21 من ميثاق المنظمة ) ومصر و تركيا. هنا لا أبالغ في تقدير ضخامة هذا العامل و لكن لا يمكن تجاهله. فالمملكة كحاضنة المقر الدائم وحاضنة الحرمين الشريفين، حاولت وتحاول توجيه المسارات السياسية في المنظمة.
أشار عمر كريم، الخبير في السياسة الخارجية السعودية في جامعة برمنغهام البريطانية إلى أنّ اجتماع منظمة التعاون الإسلامي في جدة يوم 7-3-2025 سيعمل على “تأكيد أوراق اعتماد القيادة السعودية” والإشارة بشكل أكبر إلى الوحدة داخل العالم الإسلامي ”.وذلك نقلا عن وكالة المعلومات السويسرية. أضف الى ذلك الثقل المالي للمملكة باعتبار أن أغلب الأجهزة المؤثرة في المنظمة هي أجهزة ذات طابع اقتصادي وخيري بالأساس.
بالنسبة لمصر ، فهي تطرح نفسها كدولة ذات تاريخ إسلامي ممتد ومؤثر خاصة على المستوى العلمي والفكري. و تركيا مشابهة لمصر في الثقل التاريخي وإن كانت لا تضاهيها في المستوى العلمي تاريخيا. ولكن تركيا لها ميزة القرب من تمثيل الكتلة غير العربية وهي الغالبية في الدول الأعضاء.
عوامل القوة
للأسف عند الحديث عن عوامل القوة لا يمكن الاستناد إلا على عوامل قليلة بالمقارنة بعوامل الضعف. يمكن الحديث عن ان المنظمة تمثل أكبر كتلة سكانية يجمعها عنصر العقيدة في العالم . يمكن أيضا الإشارة إلى تعدد وتنوع الثروات الطبيعية والعنصر البشري (ما يربو على المليار ونصف المليار نسمة). يمكن الحديث عن قوة وتماسك البعد العقائدي في حياة المسلمين رغم التشرذم المذهبي والسياسي. هي كلها عوامل يجمعها أمران: أولا : أنه لا يمكن ان تفعل هذه العوامل إلا في ظل قيادة واعية تتمكن من استخراج الطاقات الكامنة فيها. ثانيا في ظل عوامل الضعف التي أشرنا إليها في بنية منظمة التعاون الإسلامي، يظل هذا الأمل بعيد المنال على الأقل في المستقبل المنظور الذي لا نملك غيره.
-----------------------
بقلم: محمد الأنصاري