احتفت البلاغة العربية بحسن البدايات وأولتها أهمية كبيرة في الدرس البلاغي، فكان حسن الاستهلال ميزة كبيرة ، واستهجنت في المقابل البداية غير المبشرة «أول القصيدة كفر» لأن البدايات ذات دلالة شديدة على جودة الخطاب من عدمه، واهتم الخطاب النقدي الجديد بالبدايات خاصة فيما يعرف «بعتبات النص» التي تعتني الشكل الخارجي للعمل الأدبي باعتباره مؤشرًا على مضمون النص، وهو أيضًا ما يعرفه العامة في مصر بسليقتهم السليمة التي تعبر عنها جملته الدارجة «الجواب بيبان من عنوانه»، وهذا ما حدث بالضبط في الحلقة الأولى من مسلسل «معاوية» إخراجطارق العريان، تأليف وسيناريو محمد اليساري.
ظهرت من الحلقة الأولى هشاشة السيناريو عبر القفزات الزمنية السريعة، وترهله وضعفه فشهدت (45 دقيقة) أحداث فترة زمنية طويلة من مولد معاوية وانتهت بفتح مكة دون أن تقدم جديدًا بل أوقعت نفسها في مشاكل درامية جمة من عدم البناء للشخصيات والتغافل عن أحداث تاريخية مهمة والقفز من حدث إلى آخر دون رابط.
لم تتوقف هشاشة السيناريو في القفزات، ولكنها افتقدت إلى العمق التاريخي والاجتماعي لحياة العرب في شبه الجزيرة العربية مع بداية دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، فنجد المؤلف يتغاضى عن أحداث مهمة مؤثرة خاصة مع هند بنت عتبة زوجة «أبو سفيان» وأم معاوية، فقد قادت عملية التحريض ضد المسلمين بعد هزيمة قريش في غزة بدر، وحفظت لنا كتب التاريخ الكثير من أشعار الموثبات التي قالتها، وتحريضها لنساء قريش للامتناع عن أزواجهن إن لم يثأروا لقتلاهم في بدر، تلك الطقوس الجاهلية التي كانت من الممكن أن تخدم المسلسل دراميًّا و بكشفها عن طبيعة من طبائع العرب قبل ظهور الإسلام مما يسمح برصد مدى سماحة الإسلام وترويضه للأخلاق الذميمة التي كانت منتشرة قبله.
وتغاضى المسلسل كذلك عن تحريض هند لوحشي في قتل عم الرسول صلى الله عليه وسلم حمزة، ثم مضغها لكبده وتمثيلها بجسد سيد الشهداء، وهذا التغاضي عن أحداث من هذه الشاكلة تكشف عن رؤية السيناريو الأحادية التي تهدف للانتصار لمعاوية وجعله إنسانا بلا خطيئة وإن ارتكبها تمر عليها مرور الكرام مما يشي بمسلسل هش فنيا، رغم أن الدرامية تنبع من انتقال البطل من حال إلى حال مغاير، لكن المؤلف اختار أن يخفف من حدة الأحداث الفارقة والتي كانت ستخدم رؤية المسلسل لو أنه أحسن الاستفادة منها بدلًا من تجاهلها.
وبعبارة أخرى تبنى المسلسل رؤية تبريرية لمعاوية، وحاول تقديمه بصورة مثالية خالية من التناقضات في الحلقة الأولى، مما أضعف البعد الدرامي لشخصيته. فبدلًا من استغلال نقاط التحول في حياته لإبراز ذكائه السياسي وبراجماتيته، اختزل شخصيته في مشاهد نمطية لم تضف جديدًا. وهذا ما أوقع العمل في فخ الرؤية المنولوجية وأبعده عن تعددية الأصوات، وغابت فيه الصراعات الداخلية والمواقف الحاسمة التي كان يمكن أن تجعل شخصية معاوية أكثر تعقيدًا وثراءً.
أوقع المؤلف نفسه في ورطة حين أصر أن يبدأ مسلسله من مولد معاوية وهو الذي دفعه دفعًا وأجبره على القفزات الزمنية السريعة التي أضرت ببنية العمل أشد الضرر، وكان من الممكن أن يتغلب على ذلك بأن يبدأ مسلسله بتنازل «الحسن بن علي بن أبي طالب» لمعاوية عن الخلافة، وبذلك يتجنب الأحداث التاريخية التي ما زالت تلقي بصداها حتى الآن، ويغلق الباب على القيل والقال وإذكاء الصراعات المذهبية في وقت يحتاج فيه العرب إلى ما يجمعهم لا ما يفرقهم في ظل التحديات التي تواجه مصيرهم، خاصة مع توحش الكيان الصهيوني ضد أهل فلسطين وسوريا ولبنان وتحريضه ضد مصر والأردن والمملكة العربية السعودية وعمله على تهجير أهل فلسطين إليها واحتلال ما يستطيع منها.
ويضاف إلى ذلك أن عبقرية معاوية السياسية ومكانته كصانع إمبراطورية عربية تجلت أكثر ما تجلت عندما انفرد بالخلافة التي جعلها بالوراثة لأبنائه من بعده، وهي الفترة الأهم في حياته، وكان المهم أيضًا أثناء البناء لشخصية ذات خطر عظيم في الثقافة الإسلامية مثل معاوية أن يجرى التركيز على مفتاح هذه الشخصية المتمثل في البرجماتية في التعامل، وقياس الأمور بمبدأ الربح والخسارة الدنيوية، مما أكسبه مرونة جعلته ينتصر على مناوئيه السياسيين رغم مكانتهم الدينية التي تفوقه ولا تنقصهم الحنكة السياسية، غير أنهم اتبعوا المثالية السياسية في التعامل، فيما اتبع هو مبدأ «الغابة التي تبرر الوسيلة».
كما شهدت الحلقة الأولى مجموعة من الأخطاء التاريخية مثل الإشارة إلى ما أصاب النبي في الطائف وكأنه متزامن مع هجرة أصحاب النبي إلى الحبشة، رغم وجود فارق زمني بين الحدثين، ومن الأخطاء البارزة كذلك استدعاء القيصر لأبي سفيان ليسأله عن النبي الجديد فجعله يذهب فقط رفقة ابنيه معاوية ويزيد، ويقدم له الهدايا، مع أن الروايات التاريخية تشير إلى القيصر جمع تجار قريش وسألهم عمن فيهم أقرب نسبًا لمحمد (صلى الله عليه وسلم) فقدم العرب «أبو سفيان» وكان ما كان من حوار شهد فيه بصدق النبي ولم يكذب لأنه الكذب كان مذمة عظيمة تنقص من شأن الرجل وكان سيعير بها للأبد.
أما عن اختيار الممثلين فكان من الأحرى أن يتوافق مع ما رسخته كتب التاريخ والمرويات عنهم، فعلى سبيل المثال عرفت هند في التراث بكبر عجيزتيها مما كان يعني أن يختار لهذا الدور امرأة ممتلئة، لكنه اختار له ممثلة نحيفة تبعد كل البعد عن السمات الجسمانية التي تتطلبها الشخصية، كما أن أداءها اللغوي والتمثيلي كان الأضعف بين الممثلين وكانت تحرص على التسكين هربًا من اللحن هو أمر محمود حسب القاعدة المشهورة «سكن تسلم» حين يكون الكلام مباشرًا، لكن كان الأفضل الإعراب مع عمل مسجل وبوجود مدقق ومصحح لغوي وإمكانية لإعادة المشاهد. وهذا الأمر يجرنا إلى لغة الحوار في الحلقة الأولى التي كانت ضعيفة إلى حد كبير وتفتقد إلى الجزالة والبلاغة.
ويلاحظ المشاهد للمسلسل أن أصوات الممثلين ظهرت وكأنها مدبلجة، بينما كانت الصورة والإخراج موفقين إلى حد كبير وإن كان هناك تفاوت في هذا الأمر بين مشهد وآخر، فمشهد القوافل وهي تسير على البحر حمل جماليات مشهدية تمتع العين بينما في مشهد معاوية جالسا وحده في الصحراء وتأتي إليه أمه وتقول له أنها كانت تعلم أن ستجده في هذا المكان، بينما لم يكن المكان به أي ملامح تجعله مميزًا، زوايا التصوير للمشهد افتقدت للجماليات الفنية وإبراز انفعالات الأم وهي تخبر ابنها بأنها تفضل أن يموت على الباطل على أن يتبع محمدا، ولم تظهر كذلك صدى هذا الحديث على وجه الابن، وتنهي الحلقة بمعاوية وهو يتوضأ بينما ينادي المنادي بأن جيش المسلمين اقترب من مكة لفتحها. وحدث كإسلام معاوية بطل المسلسل يفترض أن يبرز بشكل أكثر درامية مما جاء عليه. مشهد تقريري ككل مشاهد الحلقة التي لا تغوص في عمق الأحداث ولا تترك أثرًا في نفس المشاهد
في النهاية، ظهرت الحلقة الأولى من مسلسل "معاوية" وكأنها فرصة لم تُستغل بالشكل الأمثل، لمسلسل صنع الجدل من قبل عرضه، إذ غلبت عليها السرعة غير المبررة، والتغاضي عن أحداث جوهرية كان يمكن أن تعزز العمق الدرامي للعمل. لكن للأسف جاءت البداية غير مبشرة، مما يثير التساؤل: هل يمكن للمسلسل أن يتدارك هذه الأخطاء ، أم أن البداية كانت كاشفة لما هو قادم؟
----------------------
د. عبدالكريم الحجراوي