نهاية أكتوبر 2023 وجه كبار المثقفين العرب رسالة مفتوحة لمثقفي الغرب أكدوا فيها أنهم كانوا ينتظرون من مفكري بلدان الغرب وأدبائها وفنانيها الانتصار لنضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه الوطنية المشروعة والعادلة.
أضافت الرسالة التي نشرتها المشهد في حينها القول: "كنا ننتظر ذلك من مثقفي الغرب لأنا نرى فيهم الفئة الحية المؤتمنة، في مجتمعاتها، على حماية المبادئ والقيم الكبرى التي صنعت الحضارة الإنسانية الحديثة والمعاصرة، ولأنها تتقاسم وهؤلاء المثقفين الإيمان بالمبادئ والقيم الإنسانية عينها: الحرية والعدالة، والمساواة، وحقوق الإنسان، وحماية الكرامة الإنسانية ونبذ التعصب والعنصرية ونبذ الحرب والدفاع عن السلم، ورفض الاحتلال، والاعتراف بحق الشعوب في استرداد أراضيها المحتلة وفي تقرير المصير والاستقلال الوطني...إلخ".
وأفصح المثقفون العرب في رسالتهم عما يشعرون به من "وجود فجوة هائلة بين ما تميل الثقافة في الغرب إلى الإفصاح عنه من رؤى وتصورات ومواقف تتمسك بمرجعية تلك المبادئ، نظريا، وما تترجمه مواقف القسم الأعظم من المثقفين في الوقت عينه - من ميل إلى مناصرة الجلاد المعتدي على حساب حقوق الضحية المعتدى عليه والمحتلة أرضه، أو من الصمت على جرائمه المتكررة" ومن "الفجوة الهائلة بين مبدئية مواقف مثقفي الغرب في شأن قضايا أخرى في العالم، وبين لواذهم بالصمت والتجاهل حين يتعلق الأمر بقضية فلسطين وحقوق شعبها في أرضه".
وأكد المثففون العرب أن "الخلط المتعمد بين المقاومة والإرهاب لن يكون من شأنه سوى تسفيه كل مقاومة مشروعة في التاريخ الحديث وتزوير مضمونها الوطني"، وتساءلت الرسالة: "هل يوجد في بيئات المثقفين في الغرب من هو مستعد - فكريا ونفسياً وأخلاقيا - لأن يصف المقاومات الوطنية في أوروبا للنازية والنازيين بأنها حركات إرهابية"؟
لم تكن حرب الإبادة الوحشية التي شنتها دولة الاحتلال على قطاع غزة والتي حولته إلى ركام هي المناسبة الأولى التي تظهر فيها هذه الفجوة بين الصمت والتجاهل تجاه قضايانا ومبدئية مواقف مثقفي الغرب في شأن قضايا أخرى في العالم، حيث سبقتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ونضال الشعب الجزائري لنيل استقلاله (باستثناءات حتى في أوساط المفكرين الفرنسيين أنفسهم أمثال جون بول سارتر وفرانسيس جونسون وجاك فيرجيس) وتأميم قناة السويس الذي اعتبره برنارد لويس ، الملقب ببطريرك الاستشراق والأب الروحي لـ"صموئيل هنتنغتون" ومن على شاكلته، دليلا على "كراهية المسلمين للغرب"!! ، فهم في نظره "من باءت مساعيهم للحاق بركب مدنية الغرب بالفشل، فراحوا يبحثون عن ذريعة لتبرير تخلفهم، وعجزهم وقصورهم، ويصبون جام غضبهم على الغرب"، وينتهي إلى نتيجة مفادها أن العرب والمسلمين "أوغاد بطبعهم، يكرهون الآخر، ويرون ذبح الغربي واليهودي أمرا طبيعيا لتعويض الدونية والقصور الذي يعيشونه في حاضر أيامهم".
بالقطع لايمكن اختزال الغرب في برنارد لويس وتياره وزيجينو بريجنسكي وتلاميذه في مراكز التفكير الغربية (وإن كان لايزال الأكثر تأثيرا في تشكيل رؤية النخب الحاكمة في مراكز الغرب الرئيسية وعلى نحو خاص في أميركا وبريطانيا) فهناك أيضا آلان جريش الذي يعد (مع إدارد سعيد) أفضل من قدم نقدا لأطروحات لويس، وتهكم بالقول "إنه يتوجب على علماء البيولوجيا ووظائف جسم الإنسان، البحث عن (جينة الإسلام) التي تحمل بذور العنف والشر والكراهية والتخلف والفوضى، وهي لا توجد عند غيرهم من شعوب العالم!"
هناك على النقيض توماس كارليل (1795-1881م)، اللورد هيدلي (1855- 1935)، غوستاف لوبون (1841-1931) جورج سارتون (1884 – 1956) جورج برنارد شو (1856- 1950)، ديڤيد صمويل مرجليوث، (1858-1940م)، ورينيه غينون (1886 – 1951)، ألفونس إتيان دينيه (1861 – 1929م)، ليو تولستوي (1828- 1910م) ، جوزيف شاخت (1902- 1969) لويس ماسينيون (1883 -1962) ) روجيه جارودي (1913- 2012) ويل ديورانت (1885-1981) أنا مارى شيمل (1922ـ2003)، "فرانز روزنتال" (1914-2003)، كارين ارمسترونج (1944 - ) وريتشارد كوك (1957 – 2007).
وفي مقابل من لايرون في العرب والمسلمين غير بذور العنف والشر والكراهية والتخلف والفوضى هناك من يرى أن "العرب سبق أن قادوا العالم في مرحلتين طويلتين ظلت الأولى حوالي ألفي عام قبل اليونان وعاشت الثانية طوال أربعة قرون خلال العصور الوسطى وليس ثمة ما يمنع هذه الشعوب من أن تقود العالم مرة أخرى في المستقبل القريب أو البعيد" (جورج سارتون) وأن كثيرا من الغربيين لم يدركوا قيمة ما اقتبسوه من الثقافة الإسلامية ولا فقهوا حقيقة ما اخذوه من الحضارة العربية في القرون الماضية (رينيه جيبون) وأن "أوروبا تدين بالكثير لإسبانيا العربية فقد كانت قرطبة سراجاً وهاجاً للعلم والمدنية في فترة كانت أوروبا لا تزال ترزخ تحت وطأة القذارة والبدائية" (ريتشارد كوك) وأن "فضل العرب والمسلمين في ميدان الحضارة لم يقتصر عليهم، فقد كان لهم الأثر البالغ في الشرق والغرب فهما مدينان لهم في تمدنهم، وهم (العرب) الذين هذبوا بتأثيرهم الخلقي البرابرة" (جوستاف لوبون).
ولم يقتصر الإشعاع العربي على الماضي، بل إن العقول العربية في العصر الحديث تنقض كل مقولات (جينة الإسلام) التي تحمل بذور العنف والشر والكراهية والتخلف والفوضى، وإلا من أين نبتت هذه العقول الفذة التي أضاءت جنبات الغرب أمثال - أحمد زويل (1946–2016) حائز جائزة نوبل للكيمياء - مايكل عطية (1929 - ) وهو من أبرز علماء الرياضيات في العالم. حصل على جائزة فيلدز في الرياضيات 1967، الموازية في أهميتها لجائزة نوبل - منير حسن نايفة الحاصل على 23 براءة اختراع في صنع جزيئات النانو سيليكون - محمد النشائي مصحح أخطاء حوتها نظرية النسبية العامة لآينشتاين، صاحب "نظرية المقطع الذهبي في فيزياء الكم" ورشحه علماء حائزون على جائزة نوبل مرات عدة لنيل هذه الجائزة - مصطفى شاهين صاحب الدور الرئيسي كباحث ومصمم ومطور ومحلل في كل تجارب الاستشعار عن بعد التابعة لناسا، ورئيس العلماء في مختبر الدفع النفاث الذي يعد من أهم مؤسسات الأبحاث في العالم، والذي سمي الكويكب "شاهين 4103"نسبة إليه - فاروق الباز الذي عمل في وكالة ناسا للمساعدة في التخطيط للاستكشاف الجيولوجي للقمر منذ 1967 وحتى 1972، ومدير مركز تطبيقات الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن الأميركية، ومؤسس ومدير مركز دراسات الأرض والكواكب في المتحف الوطني للجو والفضاء بمعهد سميثونيان بواشنطن. والحاصل على 12 جائزة علمية - مها عاشور التي أسهمت في وضع خطة الأبحاث الأساسية في فيزياء الفضاء في إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا)، ولها نحو عشرين بحثا علميا في مجال الفيزياء. حصلت على جائزة "نساء العلم" الأميركيات سنة 1990 - شادية حبال التي لعبت دورا رئيسيا في الإعداد لرحلة المسبار الشمسي لوكالة ناسا، وهو أول مركبة فضائية تدور فعليا داخل الهالة الشمسية - شارل العشي مدير مختبر الدفع النفاث المسؤول عن تطوير تقنيات الاندفاع في الفضاء الخارجي للمركبات الفضائية في ناسا، ونائب رئيس معهد كاليفورنيا التكنولوجي - مصطفى السيد وهو أول عربي يحصل على قلادة العلوم الوطنية الأميركية "أعلى وسام أميركي في العلوم" لإنجازاته في مجال النانو تكنولوجي وتطبيقه لهذه التكنولوجيا باستخدام مركبات الذهب الدقيقة في علاج مرض السرطان - مجدي يعقوب الذي قاد فريقا طبيا بريطانيا تمكن من تطوير صمام للقلب باستخدام الخلايا الجذعية، والحاصل على جائزة "فخر بريطانيا" سنة 2007 - مايكل دبغي مبتكر المضخة الدوارة، والتي أصبحت جزءا أساسيا من آلة القلب ومنطلقا لعصر جراحة القلب المفتوح - إلياس آدم الزرهوني مدير معاهد الصحة القومية الأميركية بولاية ميريلاند - أحمد سعيد الطيبي مكتشف 35 متلازما جينيا ذا صلة عميقة بتهيئة الاستعداد الوراثي للأمراض ذات المنشأ الجيني، وسميت العديد من هذه المتلازمات الجينية باسمه.
هذا في مجال العلوم وحده، الذي يباهي الغرب به .. ناهيك عن مئات الأسماء في المجالات الأخرى.
يمكن إذن للعقل والفكر العربي أن يكون ندا للفكر الغربي، كل مانحتاجه هو تفكيك القوالب النمطية السائدة عن الآخر لدى الغرب ولدينا، فالصور النمطية السلبية (كما تؤكد دراسة لمحمد الشنقيطي) هي القاعدة الأخلاقية التي تشرع التدخل الاستراتيجي والمغامرات العسكرية في المنطقة وتقوم وسائل الإعلام الحليفة بالعمل على تنميط صورة الآخر لكي تسهل شرعية السيطرة والتحكم فيه.
فقد رصدت اللجنة العربية لمكافحة التمييز(ADC) مجموعة من الصور النمطية السلبية الموجودة داخل مناهج التعليم الأمريكية عن المسلمين والعرب، ما جعلها تنتشر داخل قطاعات واسعة ومختلفة من المجتمع الأمريكي وتنتقل لمجتمعات غربية أخرى. فالصور النمطية العامة، تشير للعرب باعتبارهم راكبي جمال، عبيد الرمال، كل العرب مسلمون وكل المسلمين عرب، القبيلة، البدو، الواحة، الجمال، الصحراء، الحريم، الشيخ ، ولشخصية العربي باعتباره "شيخ بترول، مسرف، طماع، قذر، غير متعلم، غير أمين، ديكتاتور". وتصور المسلمين باعتبارهم "سفاحين، إرهابيين، متطرفين، مغتصبين"، أما عن الفلسطينيين، فتصورهم كمفجري طائرات، وإرهابيين.
وكما أن العرب ليسوا كذلك، فإن الغرب ليس بالصورة النمطية المطبوعة في أذهان كثير منا، فنحن بحاجة أيضا إلى تدقيق مفاهيم مثل "حكومة العالم الخفية" و "محافل الماسونية العالمية" و "نظرية المؤامرة" و"الغربي الذي لايهتم بنظافته الشخصية" وكون غالبية النسوة الغربيات "مشاريع فتيات ليل".
نحتاج إذن إلى فهم أعمق للغرب، حتى نستطيع بناء نسق فكري، يمكن نخبنا العربية – وعلى رأسها النخبة السياسية والفكرية – من التعامل بفهم عميق للعقلية الغربية، وليس باستعلاء ولا شعور بالدونية.
ولذا فإنني أدعو النخب العربية للكتابة، في هذا الملف، وبخاصة الدبلوماسيين والمفكرين والكتاب الذين أتاحت لهم خبراتهم الاحتكاك والاقتراب من العقلية الغربية، وآمل أن يجتذب النقاش عددا من الأسماء اللامعة للإسهام فيه وأخص بالذكر د. أحمد الطيب ، أدونيس ، عبد الإله بلقزيز ، نبيل عبدالفتاح ، محمد بنيس ، عبده وازن ، عمار علي حسن ، وحيد عبدالمجيد ، عمرو موسى ، نبيل فهمي ، محمد المعزوز ، غسان سلامة ، يسري فودة ، معصوم مرزوق ، أنور الهواري ، عاطف معتمد ، شريف العصفوري ، نصر القفاص ، علي الدين هلال ، مصطفى كامل السيد ، حسن نافعة ، عالية المهدي ، ممدوح الشيخ ، حمدي شفيق ، طارق الشامي ، صفاء فيصل ، أحمد عبدالرازق ، عادل القليعي ، وليد الشيخ ، حنان البدري ، خالد محمود ، هالة البدري ، حسن خضر ، فراس السواح ، عبدالله الشايجي ، إلهام عبدالعال ، ضياء رشوان ، حافظ الميرازي ، محمد السطوحي ، مجدي خليل وعشرات غيرهم ممن عاشوا في الغرب أو درسوه أو يرون في أنفسهم القدرة على التفسير والتحليل واجتراح الحلول للإشكاليات القائمة.
كما آمل أن يجتذب النقاش لاحقا مفكرين وكتاب غربيين – أو عربا يعيشون في الغرب – لإضاءة الصورة من كافة جوانبها، ووضع يدنا على حلول لما يعتبره بعضنا ألغازا.
المقال الأول في هذا الملف بادر به الدكتور أشرف راضي بعنوان "نحن والغرب .. ملاحظات افتتاحية من منظور نقدي".
وهذا رابط المقال
--------------------------
بقلم: مجدي شندي