01 - 05 - 2025

سُقطرى .. جزيرة الجن والأساطير

سُقطرى .. جزيرة الجن والأساطير

قد يعتقد البعض أن كتب الرحلات ليست سوى مخطوطات رحلات حدثت في أزمنة قديمة، خاصة في العصور الوسطى التي سبقت الاكتشافات الجغرافية التي غيرت من خريطة العالم، ولعل أبرزها "رحلات ابن بطوطة" في الشرق العربي، وما سجله "ماركو بولو" عن رحلاته إلى الشرق بحثا عن التوابل والبخور، أو الكتب الخاصة بطريق الحرير، أو حتى كتاب "رحلات علي باي العباسي" الذي صدر عن "كلمة" في أبو ظبي قبل عامين، لأنه لا يزال هناك من يعشق الرحلة والترحال، ومنهم الكاتب والصحافي الاسباني "جوردي استيفا" الذي قدم لنا في السنوات العشر الأخيرة عددا من الكتب من أبرزها "عرب البحر" وجاء الآن ليقدم لنا كتابه عن هذه الرحلة الجميلة المؤثرة والمثيرة وغير العادية التي قام بها في بدايات الألفية الثالثة إلى جزيرة سُقطرى، جزيرة السندباد المفقودة ذات المكانة الاستراتيجية الواقعة جنوب شبه الجزيرة العربية والقرن الافريقي. يأخذنا إليها رحالة معاصر لا يزال يعيش بيننا، مستعيدا أزمنة مضيئة لتاريخ قديم عرفه العالم من خلال الأساطير وواقع مؤلم وحزين، على الرغم من الرضا والقناعة التي تبدو على وجوه سكانها المعاصرين الذين يعيشون حياتهم ما بين واقع لا يشبه الواقع بل يشبه الأساطير التي يتناقلونها كجزء من حياتهم اليومية، يصادقون الجن والعفاريت ويسكنون الكهوف، الكثير منهم يتعامل معها على أنها الواقع رغم رياح الحداثة التي تأتي إليهم من وقت إلى آخر عبر بعض السُقطريين العاملين في دبي، وهداياهم إلى أهاليهم من أدوات العصر الحديث، أجهزة التليفزيون والهواتف الجوالة بل وحتى أجهزة صنع القهوة والطبخ. 

 في هذا الكتاب ينقلنا جوردي استيفا عبر كتاباته وصوره الرائعة ورغباته القديمة إلى جزيرة سُقطرى المجهولة، المنسية في المحيط الهندي، على بعد أربعمائة كيلومتر من سواحل الجزيرة العربية، فلم يكن الكتاب فقط نتاج خمس رحلات قام بها الرحالة الاسباني إلى سُقطرى في الفترة ما بين عامي 2005 و2011، أبدع أيضا فيلما تسجيليا مهما يحمل العنوان نفسه "سُقطرى... جزيرة الجن"، إضافة إلى مئات الصور الفوتوغرافية الفريدة التي تسجل هذا الواقع الأسطوري الذي بدأت تهب عليه رياح التغيير.

في هذه المغامرة في المكان والزمان. يسافر إلى جزيرة سُقطرى مؤلف كتاب "عرب البحر" المشهور ويراكم القصص والأساطير، وفي هذا التراكم للمستويات - سُقطرى هي مكان طائر الرخ الأسطوري الذي تعرف عليه من خلال قراءة"ألف ليلة وليلة"، و"رحلات السندباد البحري"، وأساطير زيوس تريفيليو، ولكنه لا يكتفي برواية واقع الحال الأسطوري، أيضًا يبحث في أثر الثورة الشيوعية في عدن التي قضت على عهد السلاطين وأقامت مكانه لجانها الشعبية، وأيضا يبحث أسرار قاعدة الغواصات الروسية السرية من رموز الحرب الباردة التي لم تذهب من هناك إلا بعد أن تمكن الشمال اليمني من التغلب على الجنوب في حرب أهلية دامية، وإن كانت قد أعادت توحيد البلاد إلا أنها عادت بالتطرف الديني ليسيطر التدين الشكلي ويزيح كل ما تحقق من تطور اجتماعي وما يعنيه من تحرر المرأة ويعيدها إلى الاسدال والنقاب. 

يتنقل المؤلف ما بين الماضي والحاضر، مثل أولئك السحرة الذين تعرف على ما تبقى من حكاياتهم على ألسنة كبار السن من سكان الجزيرة، وكان قادرا على التنقل بين الواقع والأسطورة في نشوة تغذيها العاطفة المسكرة. وفي سُقطرى، "التي عظمت شهرة ساحراتها"، يجد المؤلف عالمًا سحريًا فاتنا يشبه في نواحٍ عديدة عالم كوميان من ساحل العاج، وهم معارفه القدامى الذين أهدى لهم فيلمه الأخير الحائز على جوائز "العودة إلى أرض" النفوس. حفيد السلطان الأخير، وهو بالفعل فيرجيل، ينتظره في الجزيرة. بين روائح البخور والمر والقات، ومخلفات الجمال وأغاني الواوا.يتابع جوردي استيفا في رهبة من الجغرافيا الطبيعية والأسطورية والروحية للجزيرة، ونستمع إلى قصص سكانها، ونتحقق من القصص (مثل أجنحة الثعابين التي تحمي أشجار البخور) أو بشكل أكثر دنيوية البقايا الأثرية لمعبد (زيوس) وأعاجيب المناظر الطبيعية الخارقة للطبيعة، المليئة بأشجار الدراكو والصبر والأدينيوم الغريبة، وشجرة "وردة الصحراء" الشبيهة بشجرة الباوباب الصغيرة. المكان الذي يشير فيه ظل النسور وطيور العنقاء إلى ظلال الطيور الأسطورية وجبال حجهر، ويربط ما بين ملحمة جلجامش السومرية. التي أخذته إليها بحثا عن "الخلود" وكيف أنه غاص إلى أعماق بحر العرب في سُقطرى ليحصل على العشبة التي تمنحه الخلود لكن حية زحفت في سكون وسرقت منه العشبة قبل أن يفيق من ذهوله تاركة له جلدها الدنيوي الذي انسلخت منه.

هذا الكتاب/ الرحلة يأتي بعد تجربة طويلة من الرحيل ما بين أفريقيا وجزيرة سُقطرى والجزيرة العربية، فإذا كان كتابه "عرب البحر" مهما للتعرف على زمن مضى لتاريخ البحارة العرب، فإن هذا الكتاب يعتبر مهما أيضا لأنه يلقي الضوء على تلك الجزيرة الغامضة والساحرة أو المسحورة، ويضعها مجددا على خارطة الواقع المعاصر، خارطتها البشرية وتضاريسها الجغرافية، وعادات سكانها القدامى في محاولة للحفاظ على الهوية التي بدأت تتلاشى تحت ضغط الأدوات المعيشية الحديثة.
---------------------------------
الكتاب: سقطرى... جزيرة الجن والأساطير
تأليف: جوردجي استيفا
ترجمة وتقديم: د. طلعت شاهين
الناشر: كلمة (مركز اللغة العربية في أبوظبي)