04 - 05 - 2025

ما بعد حرب غزة.. البحث عن حل في بيئة معقدة

ما بعد حرب غزة.. البحث عن حل في بيئة معقدة

طالب عبد اللطيف المناوي، الرئيس التنفيذي للأخبار والصحف في الشركة المتحدة، في لقائه مع الإعلامية لميس الحديدي، حركة حماس بالاعتراف بهزيمتها والتعاون من أجل الخروج من المأزق الحالي المترتب على الهجوم الذي شنته في السابع من أكتوبر 2023. وأثار هذا الطلب جدلاً في الأوساط والسياسية، وقوبل بعاصفة من النقد والاتهامات من تيار الرفض في مصر وخارجها. لم يكشف هذا الجدل مدى التباين في رؤى ومواقف الأطراف المنخرطة فيه وحسب، وإنما يكشف أيضاً حالة التخبط وتشوش الرؤية الناجمين عن الخلط بين ما هو دعاية ممنهجة لا تنفصل عن الحرب من ناحية، وبين الوقائع والحقائق القائمة على الأرض والتي تكشف مدى تعقد هذا الصراع من ناحية أخرى، وبين الأوهام النابعة من المعتقدات والتصورات الخاصة بأطراف الصراع والأيديولوجيات الحاكمة للسرديات التي ينطلقون منها من ناحية ثالثة. ويعنينا هنا التوقف عند البعد الخاص بالأوهام ومنابعها لأنها تشكل أساس موقف تيار الرفض على جانبي الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، لما تسببه من تشوش في الرؤية يؤثر على الأطراف التي تسعى لوقف الحرب كخطوة أولى تسمح بتثبيت الوضع، لتقييم الموقف بدقة والتصرف على أساس هذا التقييم الذي يصعب إجراؤه في ظل البيئة المعقدة لصراع تتداخل فيه العديد من المؤثرات النابعة من البيئة الداخلية لأطرافه، ومن البيئة الخارجية، الإقليمية والدولية. 

لم يتضح بعد ما إذا كانت هذه الحرب ستنتهي في الأمد المنظور على الرغم من صمود اتفاق الهدنة الثاني بين إسرائيل وحركة حماس، الذي أُنجر بوساطة إقليمية ودولية، قامت بها مصر وقطر والولايات المتحدة، وعلى الرغم من ورود تقارير عن فرص التوصل إلى اتفاق جديد لتبادل المخطوفين والأسرى وتمديد وقف إطلاق النار وبدء انسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع. وإذا ما قدر النجاح لهذا الاتفاق الثالث، فإن ذلك سيكون مؤشراً على قرب انتهاء الحرب التي استمرت لأكثر من 15 شهراً، وسيكون ذلك بمثابة وصول الطرفين المتحاربين إلى الاقتناع بصعوبة تحقيق الأهداف المرجوة من خلال الحرب واستخدام القوة، لكن المفاوضات تكشف من ناحية أخرى افتقار الجانبين لأي تصور واضح وقابل للتنفيذ بخصوص ترتيبات اليوم التالي للحرب، الأمر الذي يجعل من الصعب وضع خريطة للطريق واضحة،لاسيما في ظل عدم وجود رؤية مشتركة ومتفق عليها بخصوص الترتيبات بسبب التعارض الشديد، ليس فقط في مواقف الطرفين المتحاربين، وإنما أيضاً فيما بين الوسطاء، رغم أنهم يعملون لتحقيق هدف واحد، هو وقف الحرب. وتزيد التصريحات التي يطلقها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الوضع تعقيداً، بسبب ما تحدثه من ارتباك، ربما بسبب غرابتها وافتقارها إلى أي منطق يتناسب مع حقيقة أنها صادرة عن لاعب رئيسي في صراعات الشرق الأوسط، بعد تغييب الأطراف الدولية الأخرى، لاسيما الأمم المتحدة والقوى الأوروبية وقوى دولية مثل الصين وروسيا، أو تحييدها بسبب الاستراتيجية الأمريكية الطامحة لأن تكون القوة الرئيسية المهيمنة على منطقة الشرق الأوسط التي لا تزال تمثل قلب العالم، القديم والحديث. 

في مثل هذا الوضع المعقد، تزداد القابلية للتأثر بعوامل تافهة. وفي مثل هذه البيئة، يتعين علينا التمسك بحد أدنى من وضوح الرؤية المستند إلى أسس منهجية تمكننا من التمييز بين ما هو دعائي، وبين ما ينبثق عن التصورات المسبقة الناجمة عن تحيزات أيديولوجية، وبينهما وبين الوقائع والحقائق الصلبة على أرض الواقع، وأن ننحي جانباً تحيزاتنا من أجل بناء تصور يساعدنا على وضع خطة عمل للمستقبل لتحقيق تسوية لهذه الحرب التي شهدت فظائع لن تمحى من ذاكرة الأجيال، عسى أن تكون هذه التسوية أساساً لنقطة انطلاق جديدة من أجل المستقبل. ويتعين علينا من أجل بناء هذه الرؤية الاستناد إلى الوقائع والحقائق القائمة، سواء في تاريخ هذا الصراع الممتد لأكثر من مئة عام، وعزل هذه الوقائع والحقائق عما يتم سرده كجزء من الحرب النفسية والدعائية المستمرة والمكملة للحرب، من أجل التفرغ للتصدي للمهمة الأصعب المتعلقة بالأسس التي يستند إليه تيار الرفض على الجانبين والمنخرط في صراع صفري لا يترك أي مجال لتحقيق أي تسوية، أو يحيل أي تسوية يتم التوصل إليها إلى خطوة على الطريق لتحقيق الهدف النهائي الذي يصبو إليه. 

على الرغم من وجود مشتركات كثيرة بين تيار الرفض الإسرائيلي والصهيوني، وتيار الرفض الفلسطيني والعربي، أهمها إصرار الجانبين على السيطرة على أرض فلسطين من البحر إلى النهر كاملة، وتصفية وجود الطرف الآخر أو إخضاعه، ومعارضتهما لأي تسويات تؤدي إلى تنازلات في هذا الصدد، ورفضهما لأن تكون قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية أساساُ لأي تسوية، وتمسكهما بالحقوق التاريخية، تظل هناك فروق مهما بين التيارين يتعين الوقوف عندها.  

تيار الرفض: مرحلية الحلول واستحالة التعايش 

بداية، يعلن تيار الرفض الفلسطيني، الذي يشمل أيضا مناصرين لحقوق الشعب الفلسطيني من غير الفلسطينيين، أنه لا حل للقضية إلا من خلال تحرير أرض فلسطين بالكامل والقضاء على إسرائيل، بوصفها تجسيداً للمشروع الصهيوني والقوى الاستعمارية الداعمة له، ورفض أي تسوية تقوم على أساس الرضوخ للأمر الواقع، ويعلنون أنهم يقبلون فقط بتسوية تحقق العدالة وتنهي الاحتلال، دون توضيح ما الذي يقصدونه بإنهاء الاحتلال، هل يقصدون إنهاء الاحتلال للأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب عام 1967، وفق قرار مجلس الأمن 242، أم يقصدون احتلال كامل أرض فلسطين. اللافت أن أنصار هذا التيار يجهلون الكثير من الوقائع والملابسات التي نشأت في سياقها المشكلة الفلسطينية في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين والتي صدر في سياقها أيضاً قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، ولا يعرفون الكثير من التفاصيل المرتبطة بحرب عام 1948، ولا اتفاقيات الهدنة في رودس عام 1949، التي رسمت الحدود بين إسرائيل والدول العربية من ناحية والحدود داخل فلسطين من ناحية أخرى، والتي اعتبرتها الأمم المتحدة والقوى العالمية الكبرى حدوداً دولية معترف بها، رغم ما ترتب على حرب 1967 من تغييرات. ويلجأ هذا التيار في سعيه لسد الفجوات المعلوماتية إلى نظريات المؤامرة أو تخوين الحكومات العربية واتهامها بأنها شريكة في مؤامرة استهدفت الشعب الفلسطيني، الأغرب أن المنتمين لتيار الرفض يرفضون رؤية الحقائق وينفرون من التفاصيل التي قد تزعزع يقينهم بتحقيق النصر في نهاية المطاف. 

لكن يظل هناك فارق أساسي بين الفلسطينيين المنتمين لهذا التيار وبين غير الفلسطينيين المنتمين إلى تيارات عقائدية تتراوح بين الإسلاميين في أقصى اليمين والشيوعيين في أقصى اليسار وما بينهما، ويتمثل هذا الفارق في أن الفلسطينيين هم من يدفعون ثمن هذا الصراع ويتحملون نتائجه، وهم أيضا من يتعايشون على الأرض مع عدوهم الرئيسي بصور وأشكال مختلفة، تتراوح بين من يحملون الجنسية الإسرائيلية، فلسطينيو 1948 الذين بقوا على الأرض ولم ينزحوا في أعقاب حرب عام 1948، ومن يعيشون في القدس الشرقية، الذين يحملون بطاقات إقامة ويقاومون تهويد المدينة بصمودهم على الأرض هناك رغم المعاناة، والفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة الخاضعين للاحتلال الإسرائيلي منذ حرب عام 1967، والذين خضعوا من قبل للإدارة المصرية في غزة، أو للحكم الأردني في الضفة الغربية، ويقيم بينهم في مخيمات للاجئين، فلسطينيون تم تهجيرهم في حرب عام 1948. وأخيراً هناك فلسطينيو الشتات الذين ينقسمون بدورهم بين فلسطينيين حصلوا على جنسيات الدول التي يقيمون فيها وأصبحوا مواطنين في دول أخرى، وبين من يقيمون في مخيمات للاجئين في الدول المضيفة في الأردن والعراق وسوريا ولبنان، وتتولى (الأونروا) وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وغيرها من وكالات شؤونهم. في ظل هذا الوضع المشتت تبلورت سرديات فلسطينية للصراع تتقاطع أحياناً وتتعارض في كثير من الأحيان. لكنها تظل جميعاً متمايزة عن السرديات الأخرى لتيار الرفض في العالم العربي وفي الشرق الأوسط.

في المقابل، تعود جذور تيار الرفض الإسرائيلي إلى التيار اليميني أو التصحيحي في الحركة الصهيونية، وقد حدث انقسام داخل الحركة الصهيونية العالمية بين التيار العمومي، أسلاف حزب العمل، وبين التيار التصحيحي حول الموقف من السكان الفلسطينيين على أرض فلسطين، في حين رأى التيار العمومي إمكانية التعايش مع السكان واستيعابهم في الدولة اليهودية، أصر التيار التصحيحي اليميني على ضرورة التخلص منهم، إما بالإبادة من خلال العنف والحروب أو بترحيلهم طواعية أو قسراً. باختصار كانت رؤية اليمين الصهيوني، التي مثلها حزب "حيروت"، الذي سبق تشكيل حزب "الليكود"وغيره من أحزاب يمنية دينية وعلمانية، هي استحالة التعايش مع الفلسطينيين. ووضعت في مرحلة ما قبل صدور قرار التقسيم وإعلان الدولة، آليات تنظم العلاقة بين التيارين بما لا يضر الهدف العام المشترك الذي يسعى الطرفان لتحقيقه بوسائل مختلفة، ألا وهو إقامة الدولة اليهودية وبنائها وتقويتها وترسيخ وجودها على الأرض. لم يكن الموقف من الوجود الفلسطيني على الأرض هو نقطة الخلاف الوحيدة بين التيارين، وإنما ثارت خلافات أخرى حول قبول نتائج حرب عام 1948، والتي أبقت ما يعتبره الإسرائيليون "أرض إسرائيل التاريخية" التي يطلقون عليها "يهودا والسامرة" التي تقع في الضفة الغربية خارج سيطرتهم، بوضعها تحت السيطرة الأردنية، ثم السيطرة الفلسطينية. 

كان الفوز الانتخابي الذي حققه حزب الليكود بزعامة مناحيم بيجين في انتخابات عام 1977، والذي وصف بالزلزال، نقطة تحول رئيسية في مسيرة تيار اليمين التصحيحي الصهيوني، الذي انتقل من كونه حركة تمرد صغيرة على هامش السياسة إلى تيار رئيسي ينافس على الحكم، ويسعى لفرض رؤيته وتغيير الواقع المرفوض ولكن بشكل لا يلحق الضرر بما حققوه من مكاسب ومواصلة زحفهم للسيطرة على مقاليد السلطة والحكم في إسرائيل. استند الفوز الانتخابي لليكود على عاملين أساسيين يشيران إلى التحولات الاجتماعية والديموغرافية في إسرائيل وإلى التحولات على المستوى العالمي. فقد استند فوز الليكود إلى صعود اليهود الشرقيين الذين تم تهجيرهم من البلدان العربية، بعد حرب 1948، ويُشكل اليهود القادمين من اليمن والمغرب والعراق الجماعات الرئيسية المؤثرة بين اليهود الشرقيين الذين عانوا من التمييز والتهميش بسبب سياسات حزب العمل الذي يهيمن عليه اليهود المنحدرين من أصول أوروبية وروسية، ووجد اليهود الشرقيون فرصتهم في حزب الليكود وفي الأحزاب الدينية. كذلك استفاد الليكود من صعود أيديولوجية السوق الحر في أوساط اليهود وفي العالم وما تعرض له الحلم الاشتراكي من ضربات متتالية ليعيد ربط إسرائيل بتيار عالمي صاعد. 

اللافت هنا، أن الرئيس المصري الراحل أنور السادات، المتهم من دوائر الإسلاميين واليسار والقوميين بالخيانة، استطاع أن ينتزع مكسباً كبيراً بإجبار الليكود وزعمائه على اتخاذ قرارات تتعارض مع رؤاهم الأيديولوجية بالانسحاب من سيناء وتفكيك مستوطنات يهودية هناك، وفرض حقيقة وجود الشعب الفلسطيني على الأرض وأن لهذا الشعب حقوقاً ثابتة وغير قابلة للتصرف، وتثيبت وضع الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية كأراضي محتلة بموجب قرارات مجلس الأمن ومن خلال اتفاقية الإطار الثانية الموقعة في كامب ديفيد. لسنا هنا بصدد تقييم ما أنجزه السادات من خلال اختياره طريقاً آخر لتحقيق ما لم تستطع مصر تحقيقه من خلال الحرب، وسنخصص لهذا مقالاً آخر، وإنما من المهم هنا التنبيه إلى قدرة العمل السياسي على تعديل التوقعات المترتبة على التصورات الأيديولوجية للخصم ودفعه للسير في اتجاه مضاد للمسار المتوقع أن يتخذه بسبب التزاماته العقائدية. لا يعلم المنتمون لتيار الرفض العربي مدى التشابه بين موقفهم من اتفاقيتي كامب ديفيد ومعاهدة السلام المبرمة مع مصر عام 1979، وموقف تيار الرفض الإسرائيلي الذي يرى أن هذه الاتفاقيات تُشكل تهديداً لإسرائيل يفوق التهديد الذي تشكله الحرب، خصوصا مع إجبار القوة الرئيسية في تيار الرفض الصهيوني على الالتزام بمواقف كان يرفضها من قبل.

يعنينا هنا نقطتين أساسيتين: الأولى هي أن تيار الرفض على الجانبين يسعى وراء هدف واحد، وهو السيطرة على كامل أرض فلسطين، ولا يقبل أي تنازل أو حلول وسط فيما يخص هذا الهدف، وهم مستعدون لممارسة كل أشكال العنف ضد أي مشروع يرون أنه قد يعيق تحقيق هذا الهدف، على النحو الذي رأيناه في اغتيال السادات في عام 1981، واغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين في عام 1995، على يد متطرف يهودي من أصول يمنية وبمباركة من أحزاب اليمين الرئيسية، ويترتب على هذه النقطة حقيقة أن كلا التيارين يرى استحالة التعايش على أرض فلسطين وأنه لا بد من مواصلة العمل بكل الوسائل لتحقيق الهدف الأسمى. النقطة الثانية، هي أن كلا التيارين يرى أن أي تسوية يتم التوصل إليها وتمليها التوازنات السياسية الداخلية والإقليمية والدولية، هي تسوية مرحلية إلى أن يتم تعديل ميزان القوة بما يسمح بنقضها وتغييرها، والمهم هو الاستمرار في تعزيز القوة حتى تحين اللحظة المناسبة للتغيير. ويؤمن كلا التيارين أنه لا يمكن تحقيق الهدف المنشود إلا عبر الحرب واستخدام القوة والعنف، وتعمق النقطة الثانية هذه أزمة الثقة بين الطرفين.  

الواقعية السياسية بين الانهزامية والرفض 

يظل هناك فارق رئيسي بين تيار الرفض الإسرائيلي وتيار الرفض الداعم للحق الفلسطيني يتعلق بالقدرة على التقييم الدقيق للأوضاع وتعديل المواقف من أجل امتلاك القدرة على مواصلة السعي وراء الهدف الرئيسي، وبينما توفر طبيعة النظام السياسي الإسرائيلي والترتيبات التي تم التوافق عليها لإدارة الاختلاف فيما بين الفصائل السياسية والرؤى المختلفة، هامشاً كبيراً للمناورة وتحقيق أقصى قدر ممكن من الاستفادة، فإن طبيعة السياسات العربية تقلص هذا الهامش وتدفع الأطراف المتصارعة إلى اتخاذ مواقف متطرفة وتبادل الاتهامات بالخيانة أو التفريط نتيجة للتهور والإقدام على مغامرات غير محسوبة. وعلى الرغم من أن الدراسة الدقيقة لتجارب التحرر الوطني في العالم تشير إلى ضرورة المزاوجة والمزج بين الأدوات والوسائل السياسية والعسكرية لتحقيق الهدف يصر تيار الرفض العربي على رفض العمل السياسي واتهام المنخرطين فيه بالخيانة، في أسوأ تقدير، أو بالاستسلام والانتهازية في أقل التقديرات سوءً. يتضح هذا بجلاء في الموقف من هجوم السابع من أكتوبر، والحرب على غزة وما أسفرت عنه من نتائج. يرفض تيار الرفض المؤمن بحتمية القضاء على إسرائيل والانتصار الحاسم للمقاومة استناداً إلى فرضية امتلاك "الحق"، المواقف والتصريحات والمسوغات التي يقدمها تيار التسوية السياسية للحرب، ويتلخص تقييمه للهجوم وما أسفر عنه في نقطتين، رفض الاعتراف بهزيمة حماس ومحور المقاومة في الحرب،ومعارضة الترتيبات المزمعة في غزة والتي من المتوقع أن تعبر عن النتيجة الفعلية للحرب، بعيداً عن فكرة النصر والهزيمة، وإنما ارتباطاً بفكرة حدود القوة العسكرية. 

من الواضح، أن اتفاقات تبادل الأسرى والمخطوفين تمثل طوق النجاة الرئيسي الذي يحفظ لحماس وفصائل المقاومة الأخرى ما تبقى لهم من قدرات عسكرية، من المؤكد أنها ستتعرض لمزيد من الاستنزاف والتآكل مع استمرار الحرب، فضلاً عن الأثمان الفادحة التي يدفعها الشعب الفلسطيني المصر على الصمود على الأرض في غزة، وأن حرص مصر وقطر على نجاح هذه الاتفاقيات التي من المحتمل أن تؤدي إلى وقف القتال وانسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة يعمل في مصلحة الفلسطينيين وتدعيم قدرتهم على مقاومة المشروعات المختلفة المطروحة لتصفية قضيتهم، إلا أن هذه الجهود لا تزال تواجه مزايدات من المعارضة السياسية في مصر، ومن قبل العقائديين من الإسلاميين واليسار والقوميين الذين يطربهم النفخ في أبواق الحرب، ويرفضون أي بديل آخر سوى استمرار المقاومة غير عابئين بالتحولات على الساحة الدولية والإقليمية، وغير مهتمين بالأثر الذي تحدثه مثل هذه المزايدات على تدعيم القوى الأكثر تطرفاً على الساحة الإسرائيلية، أو ربما يسعون لتلك النتيجة لتأكيد نظريتهم التي ترى استحالة التعايش مع إسرائيل ومشروعها الاستعماري الاستيطاني. المشكلة أن هذا التيار لا يملك ما يكفي من أدوات القوة التي تمكنه من منع تقدم هذا المشروع على حساب الحقوق الفلسطينية بل حقوق شعوب عربية أخرى، الأمر الذي يحيل خطابهم إلى نوع من المزايدات والمعارضة المجانية.

المشكلة، أن مثل هذا الطرح وما يتضمنه من إدانة واضحة للنهج السياسي وأدواته، قد يعرقل المفاوضات الرامية لإنهاء الحرب ويدفع الخصوم الذين يتملكون ما يكفي من وسائل القوة لفرض ما يمكن فرضه من ترتيبات، مما يفتح الباب لاستمرار الحرب وما تحدثه من استنزاف يزيد الموقف الفلسطيني ضعفاً، ويفتح الباب لخسائر أكبر للقضية، وهو احتمال يرفضه تيار الرفض رغم أن المؤشرات تدل على أنه مرجح، وبنسبة كبيرة، في ظل موازين القوى الراهنة، والتي يمكن حسابها بدقة. الأخطر هو وصف الجهود السياسية التي تسعى إلى تحقيق أقصى قدر من المكاسب التي تثبت الوجود الفلسطيني على الأرض في ظل اختلال موازين القوى هذه بأنه افتقاد إلى الإدراك العميق لطبيعة الصراع، والقبول بما حدث من مجزرة تعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة ودعوة للاستسلام للقوة الغاشمة والتأقلم مع الاحتلال. وينطوي هذا الطرح على أكذوبة كبرى، ذلك أن مقولة الاحتلال، وصف غير دقيق لطبيعة الوضع في القطاع الذي يخضع لحصار لكنه لا توجد فيه أي مظاهر للاحتلال، والذي كانت تديره حركة حماس كسلطة منفردة. كذلك، فإن هذا الطرح يحصر الخيارات للتعامل مع الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل أثناء الحرب، في بديل واحد فقط هو حركة حماس، ولا يلتفت إلى البدائل الأخرى الممكنة للتعامل مع هذه الجرائم ومحاسبة المسؤولين عنها. 

بالتأكيد، أن أحداً لا يطلب من الفلسطينيين الاستكانة، أو ينفي حقهم، كحركة تحرر وطني، في مواصلة المقاومة والاستمرار فيها حتى النهاية التي يمكن لأحد أن يدعي معرفته كيف ستكون في ظل هذا الصراع المعقد، بل إن الأطراف المنخرطة في الوساطة من أجل التوصل إلى اتفاق يوقف المجزرة في غزة من خلال التفاوض لم تطالب بمحاسبة حماس أو تشكك في دوافعها، حين أقدمت منفردة على شن هجوم السابع من أكتوبر واحتجاز هذا العدد من المخطوفين من عسكريين ومدنيين إسرائيليين في قطاع غزة كورقة مساومة للإفراج عن الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، وإنما يركز السعي المصري بالتنسيق مع قطر، رغم المزايدات الإعلامية لقناة الجزيرة القطرية، لإيجاد مخرج ممكن من هذا المأزق الذي تمر به القضية الفلسطينية، مع إدراك أن مثل هذا المخرج لا بد وأن يحظى بموافقة إسرائيل لإخراج قواتها العسكرية من القطاع والشروع في إعادة إعماره كي يتسنى للفلسطينيين العيش فيه. 

بات من الواضح أن استمرار الرفض على أساس أن المعروض على الفلسطينيين يمثل حلولا قسرية وغير عادلة دون الالتفات إلى ما يمكن للسياسة أن تفعله لتغيير هذا الوضع، حين تفشل الوسائل العسكرية في تغييره. الحقيقة، هي أن الوضع الأمثل لتغيير معادلة الصراع يبدأ من المناقشة الجادة والبناءة لمنطلقات تيار الرفض العربي، لكن هذه مهمة شاقة وتكاد أن تكون مستحيلة بسبب غياب المنطق لدى هذا التيار الذي يستند إلى إيمان بالنصر لا يمكن البرهنة عليه، وإصرار على تجاهل حقائق الصراع وحقائق التاريخ، وافتقاره إلى المرونة الضرورية التي يتحلى بها تيار الرفض الصهيوني، على الأقل للحد من التدهور الشديد والمستمر في الموقف الفلسطيني والعربي. في ظل وضع كهذا، لا تملك القوى الفاعلة والمؤثرة سوى بذل الجهود لتصحيح أي خلل قد ينجم عن أي خطوات غير محسوبة العواقب تتخذها فصائل المقاومة مهما تكن الأعباء والتكلفة، فالاختيارات تظل دائمة محدودة بسبب السياسات وموازين القوى المختلة، في بيئة شديدة التعقيد. من المهم لكي تؤتي هذه الجهود ثمارها أن تتعلم الأطراف كيفية التعامل مع هذا المستوى من التعقيد وما يرتبط به من فوضى، وهذا ما سنتناوله في مقال لاحق، والمهم ألا تتأثر هذه الأطراف باتهامات الانهزامية والاستسلام والخيانة التي تتضاءل أمام فداحة الوضع وتعقيد اللحظة التاريخية.
----------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

صباحيات | عندما تغيب دولة القانون والمواطنة .. حق ياسين والذهنية الطائفية البغيضة