04 - 05 - 2025

القاهرة تاريخٌ وتراثٌ لا يُقدَّر بثمن.. هى إرث الشعب المصري

القاهرة تاريخٌ وتراثٌ لا يُقدَّر بثمن.. هى إرث الشعب المصري

القاهرة ليست مجرد مدينة، بل هي ذاكرة الأمة المصرية، كتابها المفتوح الذي تحكي شوارعه وأزقته ومبانيه قصة أقدم عواصم العالم. في وقت تحافظ فيه دول العالم على إرثها الثقافي بحرص شديد، تبدو القاهرة في مواجهة غير عادلة بين التطوير والاستثمار من جهة، وبين الحفاظ على هويتها التاريخية من جهة أخرى. فهل يمكن الجمع بين الاثنين دون التضحية بروح المدينة؟

التاريخ ملك الشعوب وليس الأنظمة

التاريخ، التراث، الإرث الثقافي والعلمي، وحتى الشوارع، ليست ملكًا للحكومات والأنظمة لتتصرف بها كيفما تشاء، بل هي ملك للشعوب. هذه الأماكن هي ذاكرة الجماعة الوطنية، وشاهد على تطورها وتحولاتها عبر العصور. ولهذا نجد الدول الكبرى تعمل على الحفاظ عليها بكل السبل، فهي ليست مجرد مبانٍ قديمة، بل جزء من الهوية الجماعية للأمة.

في إحدى القرى الصينية، وجدتُ بيتًا ريفيًا صغيرًا لا يتجاوز غرفة واحدة، محاطًا بعناية فائقة، والطرق إليه مُمهدة، والمنطقة التي يقع فيها خضعت لتخطيط دقيق للحفاظ على مظهرها التراثي. لا شيء يُعرض للبيع، ولا شيء يُهدم. بل هناك احترام حقيقي للأشجار، للأبنية القديمة، لكل ما له صلة بالتاريخ. أما في مصر، فالتدمير أصبح القاعدة، حيث تُهدم الأحياء القديمة بلا هوادة، وتُمحى معالم تاريخية كانت شاهدة على حياة الأجيال المتعاقبة، ليس من أجل التطوير، بل لصالح المستثمرين والمقاولين الذين يضعون حساباتهم المادية فوق كل اعتبار. المقاول والتاجر والمستثمر".. ثلاثي هدم التاريخ، والقاهرة ليست قابلة للتحويل إلى نسخة من مدن اخرى

لم يعد التراث محميًا من التجريف والاستثمار العشوائي، فقد أصبح التاجر والمقاول والمستثمر الثلاثي الذي يحدد مصير الأماكن التاريخية، في ظل غياب رؤية واضحة تحافظ على التوازن بين التطوير والهوية. والحقيقة أن مصر ليست مجرد اسم، بل كيان يضم كل شيء فيها: التاريخ، المعمار، التراث الشعبي، وحتى الأماكن العشوائية التي تحمل طابعًا إنسانيًا فريدًا.

ما يطرحه بعض المليارديرات  من مشروعات "تطويرية" قد لا يكون مقبولًا للشعب المصري، فالقاهرة ليست  مدينة مجهولة التاريخ أو تقارن مع مدينة أخرى بالعالم كانت عواصم كبرى تتمنى أن تكون مثل القاهرة  ، ولا يمكن تشويه معالمها لجعلها نسخة أخرى من مدن أُنشئت في الصحراء. لكل مدينة روحها ورونقها الخاص، ولا يمكن اقتلاع عشوائيات القاهرة بحجة الحداثة، لأن حتى هذه العشوائيات لها طابعها الذي يعكس "جدعنة" أهل البلد.

قد مررنا بهدم المقابر التاريخية وطمس ذاكرة المدن الإسلامية

لم يتوقف الأمر عند هدم المباني التراثية، بل امتد إلى المقابر التي تحمل عبق التاريخ وأسماء العظماء، حيث أُزيلت شواهد قبور الشخصيات التي أسست للفكر الإسلامي والعلمي في مصر. مقابر الإمام الشافعي والسيدة عائشة، التي كانت جزءًا من الذاكرة الروحية والتاريخية للقاهرة، طالها معول الهدم تحت ذريعة التطوير العمراني، وكأن التاريخ الإسلامي يُمحى بلا حساب. شوارع بأكملها محيت من الوجود، وتم تغيير ملامح مناطق كانت تمثل قلب القاهرة القديمة، فكيف يمكن لهذا أن يكون تطورًا؟

التطوير لا يعني مسح الهوية.. والحفاظ على خصوصية القاهرة ضرورة وطنية

ما تحتاجه القاهرة ليس الهدم والتدمير، بل إعادة التأهيل بأسلوب يحترم تاريخها. هناك تجارب عالمية ناجحة تُثبت أن التطوير لا يعني مسح الهوية، بل يمكن تجديد البنية التحتية مع الحفاظ على الطابع العمراني والثقافي للمدينة. باريس، إسطنبول، لندن، وغيرها من المدن الكبرى، نجحت في تحقيق هذه المعادلة، فلماذا لا تنجح القاهرة أيضًا؟

القاهرة ليست مجرد عاصمة، بل هي أقدم مدينة في الشرق الأوسط، حاضنة الحضارات وذاكرة لا تُقدر بثمن. لا نريد أن تصل إليها معاول الهدم، ولا أن تُطمس معالمها تحت حجج "التطوير". من يريد البناء والإنشاء، فمصر تمتلك 90% من مساحتها كصحراء صالحة لإنشاء مدن تضاهي أي مدينة خليجية أو حتى أوروبية.

ارفعوا أيديكم عن تاريخنا وإرث الشعب المصري.

القاهرة ذاكرة المصريين.. فهل نسمح بضياعها؟ السؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم: هل هناك إرادة حقيقية لحماية القاهرة كتراث، أم أن المصالح الاستثمارية ستتغلب على قيمتها الحضارية؟ إذا لم يتم وضع سياسات صارمة لحماية ما تبقى من هوية المدينة، فإن القاهرة قد تفقد روحها، وتتحول إلى مجرد كتل خرسانية بلا حياة، بلا تاريخ، بلا ذاكرة.

القاهرة ليست مشروعًا استثماريًا، بل كيان تاريخي حيّ، لا يُقدَّر بثمن.
-------------------------
بقلم: عز الدين الهواري

مقالات اخرى للكاتب

محكمة الذكاء الاصطناعي التجارية: ثورة فى عالم العدالة الرقمية