04 - 05 - 2025

فلسفة العفو والتسامح

فلسفة العفو والتسامح

(السطور التالية مجتزأة من كتابي - تحت النشر - " تجليات الزنزانة رقم 10 " ، وهي مقال تمكنت من كتابته وتسريبه من السجن سراً في 25 يناير 2019).

يعلم الله كم سأبقي من الزمن  في هذه الزنزانة ، ويعلم الله أنني راض تماماً ، فكل محنة تحمل في ثناياها منحة ، كما أنني لست غاضباً من أحد لنفسي ، وإنما غضبي ممن يبذرون بذور الظلم والكراهية.

لقد قرأت قبل سنوات عن فتاة أمريكية اسمها : " إيمي بيهل " Amy Biehl ، كان عمرها 26 عاماً عندما حصلت علي منحة فولبرايت لعمل دراسة عن حقوق المرأة ، والفصل العنصري في جنوب إفريقيا .

وأثناء تواجدها في قرية اسمها " جوجو ليتو " بالقرب من " كيب تاون " ، وقبل يومين فقط من موعد عودتها النهائية إلي أمريكا ، قام بعض الزنوج بجذبها خارج سيارتها والإعتداء عليها بالضرب حتي الموت.

بعد عامين من الحادث ، قام والدا إيمي بزيارة القرية التي قتلت فيها ابنتهما كي يبديا دعمهما عائلات القتلة !! ..

وهؤلاء القتلة كانوا أربعة شباب صدر الحكم عليهم بالسجن ثمانية عشر عاماً ، وقد توجه والدا إيمي إلي لجنة الحقيقة والمصالحة ، حيث أعرب هؤلاء الشباب عن حزنهم لما أقترفوه وطلبوا الصفح والعقو ..

أعرب والدا إيمي عن دعمهم لإطلاق سراح هؤلاء القتلة ، وكان ذلك موقفاً رائعاً منهم يؤكد نجاحهم في التغلب علي غضبهم وآلامهم ، بل والسيطرة علي كراهيتهم لهؤلاء الشباب المجرمين ..

ولقد توفي والد إيمي بعد عودته من هذه الرحلة ، ولكن والدتها عادت إلي جنوب إفريقيا مرة أخري كي تعلن غفرانها لأحد هؤلاء القتلة ، وهو شاب يدعي " أتوبيكو بني " ، وكان يعتقد أنه أحد المناضلين الذين يكافحون نظام الفصل العنصري ، وتعلم منذ طفولته أن الإنسان الأبيض هو عدوه ، ولم تكتف أم إيمي بإعلان التسامح عنه ، بل ساعدته في الحصول علي وظيفة في منظمة " إيمي بيهل " للتوعية بشأن مرضي الإيدز ، كما اصطحبته معها في رحلات حول العالم كي يروي قصتها في التسامح والتصالح ، وأصبح هذا الشاب جزءا من عائلة إيمي ..

ربما يبدو هذا القدر من التسامح مبالغاً فيه ، وغير معقول.. ولكن لو فهمنا مغزاه وفوائده ربما تغيرت وجهة نظرنا بل وسلوكنا العام ..

الشعور الطبيعي في الحالات المماثلة هو الرغبة في الإنتقام أو القصاص من المعتدي .. وهذا الشعور إذا تملك من إنسان ، تكون له آثار خانقة عليه ، فيصبح متوتراً منفعلاً تحركه كراهيته للجاني كل لحظة من حياته ، وربما تدرك البشرية أن مشاعر الغضب والكراهية والإنتقام كانت وراء الحروب الطاحنة التي تسببت في موت مئات الملايين عبر التاريخ ..

أن " الغفران " أو " العفو " هو تلك الآداة السحرية التي " تفرمل" مشاعر الغضب والكراهية ، فتوقفها قبل أن تدمر كل شيء ، وتلك الآداة تشير إليها أغلب الأديان ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ) ، ( من ضربك علي خدك فاعرض له الآخر أيضاً ، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك ..) ، فالإنسان حين يفعل هذه الآداة الإيجابية يستبدل بها مشاعر سلبية ..

وهناك فارق بين " الغفران " و " المصالحة " ، فإذا غفرت للجاني فإن ذلك لا يعني أنك " تصالحه " ، كما أن " الغفران " لا يعني التنازل عن الحق القانوني ، أو يعني أنك توافق علي سلوكه الإجرامي .. وبشكل عام لا يعني الغفران النسيان ..

من المهم إدراك أن عملية " الغفران " تحقق للمجتمع مصلحة أكبر وأهم مما تحققه للجاني ، وهي عملية دقيقة وشاملة ، رغم أن قطاعاً من المجتمع قد يرفض ذلك من حيث المبدأ ، ويجب احترام مشاعر هذا القطاع ، لأنه يفكر ويشعر بشكل طبيعي ، ولا يمكن اتهامهم بالقسوة واللا إنسانية ، فمن المهم ألا ننسي أن اللوم يقع أساساً علي الجاني أو الجناة ..

إن طرح الغفران هنا يتناول زاوية تتسامي علي المشاعر التقليدية والطبيعية للإنسان ، في محاولة لإستخدام هذه الآداة لعلاج المجتمع نفسه ، دون أن نغفل أن " الغفران " لا يعني نسيان السلوك الإجرامي للجناة ، أو التماس الأعذار لهم أو الموافقة بأي شكل علي هذا السلوك المؤثم قانوناً ..

من المعروف أن الإصرار علي مشاعر الحقد والكراهية يضرك بأكثر مما يضر الشخص المستهدف بذلك ، فقد تكره جارك وتتمني له المصائب ، وتظل تحترق بهذه المشاعر السلبية التي ربما لا يشعر جارك بأي أثر لها ، وهكذا تموت أنت كمدًا دون أن تؤثر علي المستهدف بكراهيتك ..

إذاً ، أنت تحرر نفسك بــ" الغفران" قبل أن تحرر خصمك أو من أساء إليك ، أي أنك لا تسدي إليه أي معروف يوازي الأثر الإيجابي الذي تشعر به حين تتخلص من هذا الوحش الكئيب وتخرجه من أعماقك بفعل "الغفران" ، لأنك ستشعر بالنبل والسمو ، وبأنك أكبر وأفضل ممن أساء إليك ، فحين تنتصر علي مشاعر الكراهية في أعماقك ينهزم خصمك الذي أساء إليك.
--------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق


مقالات اخرى للكاتب

محاكمة قناة السويس في بريطانيا!