قد يتساءل القارئ ماذا يقصد الكاتب من العنوان؟ وبشكل مباشر وصريح فإن أضابير التدويخ والموت هي التأمين الصحي وبيروقراطيته وبيروقراطية وزارة الصحة البائسة المتخلفة.
أتعامل مع التأمين الصحي منذ حصلت علي بطاقة صحية لأحصل منه علي أدوية القلب بعد إجرائي لعملية قلب مفتوح بسبب ارتفاع أسعار أدوية القلب ، وكل شهرين أذهب لمبني التأمين الصحي في مدينة نصر لمجرد تكرار الأدوية والحصول عليها وهناك أشاهد مشاهد صادمة تشيب لها الولدان بمعني الكلمة، فالمبني كالقبور مزين من الخارج بينما من الداخل تشم منه رائحة التدويخ والموت والإزراء بالمتعاملين خاصة كبار السن ، الذين تراهم في الطرقات رافعي أكفهم يصرخون من سوء المعاملة والقسوة وما أطلقت عليه هنا "التدويخ" كما في المثل العامي " دوخيني ياليمونه ".
كنت أقول إن مؤسسات الخدمة في وزارة الصحة وعلي رأسها التأمين الصحي هي مؤسسات للقمع وليست للخدمة والعناية والرعاية والرحمة بالمرضي المتعاملين معها ، فالطبيب والممرضة ومدير المستشفي يعاملون المرضي بقسوة وباجتراء وإهانة واستعلاء لا يصدر من موظفين عامين في الدولة عملهم هو الرعاية والتأمين والبذل والخدمة لمن يستحقونها، خاصة المرضي وكبار السن .
وبصرف النظر عما كتبته علي صفحتي علي الفيس بوك من مآس مروعة من العاملين في التأمين الصحي في مدينة نصر، ومن قبل ما واجهته زوجتي الصحفية إيمان القدوسي حين أصابها مرض السرطان وتعاملت مع منظومة صحية مترهلة تحتاج إلي ثورة حقيقية في الإدارة وفي تأهيل الأطباء والمرضي والموظفين ليتعاملوا بطريقة تحقق هدف التأمين والرعاية الصحية للمواطنين المصريين .
فإن أخي الأصغر أصابته مطلع هذا الشهر جلطة مفاجئة في الدماغ كان يمكن تلافيها ومحاصرتها والقضاء عليها، لو أن التأمين الصحي لديه كفاءة وإمكانية التعامل مع مثل هذه الحالات الحرجة التي تحتاج لعلاج سريع ينقذ الإنسان من موت محقق حتي لو بقي حيا علي قيد الحياة.
فقد توجه لمستشفي دكرنس دون أن ينال الرعاية والتوجيه لما يجب عمله قبل عدة ساعات كثيرة من إصابته وسقوطه بالجلطة في منزله في نفس الليلة ، وحين فاجأته الجلطة لم يجد غرفة للعناية المركزة تتعامل مع الحالة قبل تفاقمها واستقرارها ليفقد قدرته علي الوعي والحركة والكلام والإدراك ، إنها أضابير الموت وحقوله القاتلة بلا رحمة ولا ضمير ولا شفقة.
لم نجد لأخي غرفة للعناية المركزة وظل في الاستقبال لأكثر من تسع ساعات في المستشفي العام بمدينة المنصورة التي يقيم فيها ، ثم بدأ التعامل معه بعد أن فاتت فرصة إنقاذه من نتائج الجلطة وآثارها .
تخيل أن هذا المستشفي العام لا يمكنك أن تجري فيه قسطره تشخيصية لمريض مصاب بجلطة وأن علي أهل المريض أن يأتوا إلي القاهرة هنا بالتأمين الصحي في مدينة نصر للحصول علي إذن بعمل هذه القسطرة التشخيصية ، والمصيبة أن ذلك لا يحدث إلا يوما واحدا في الأسبوع هو يوم الأحد، حيث يأتي طبيب مخصص لذلك هو من يقبض علي أرواح المرضي فيحييها أو يميتها ، تدخلت كصحفي لإنجاز الأمر فتحدثت مع مستشارة وزير الصحة منال سلامة التي وجهتني لمستشفي مصرالجديدة التي لم تكن تعرف مكانه ولا اسمه ، ومع التعلق بالأحبال الدايبه في غابة الموت وأضابير القتل والتدويخ ذهبت إلي هناك بتوصية منال سلامه مستشارة الوزير، والتقيت بطبيب كبير هناك اسمه محسن ، حاول الرجل أن يجد منفذا لاستخرج الأشعة التشخيصية في غير موعدها الذي فات يوم الأحد فلم يستطع ، ولم يجد منفذا في بنها مثلا حتي يتم استخراج الأشعة منه ، أفادته طبية تجلس علي مكتب مجاور له أن مركز بنها مغلق ، أي أن مرضي بنها هم أيضا لا يمكنهم استخراج الأشعة بشكل مباشر من بلدهم بل لا بد من قذفهم في أضابير التدويخ والموت .
خرج أخي من المستشفي العام التخصصي بمدينة المنصورة مهانا دون أن يستكمل العلاج الضروري له ، ذلك أن المستشفي ليس بها سوي ثلاثة عشر سريرا وأن المرضي في الاستقبال بحاجة إلي أسرة، ولذا يتم إخراج من لم يستكمل علاجه إلي منزله ليتصرف هو ويجعل من منزله مستشفي خاصا يواجه فيها مصيره هو وأسرته وينفق من ماله ومدخراته التي لا تكفي؟ عين أحد في وزارة الصحة أو في التأمين لأجله ولأجل أمثاله الذين يواجهون نفس المصير كل يوم وكل ساعة.
هذا ولا زلنا بعد نحاول الحصول علي إذن بعمل أشعة تشخيصية لأخي عبد المنعم السعيد حبيب من التأمين الصحي في مدينة نصر، دون أن يكون المستشفي العام التخصصي ولا أي مستشفي آخر مجاور له أو داخل في منظومة وزارة الصحة في مدينة المنصوره به إمكانية استخراج أشعة تشخيصية للمريض الذي يواجه الموت حرفيا ، وإلا فماذا بعد الإصابة بجلطة في المخ إلا الموت .
هذا مثل واحد مما يواجهه المصريون في أضابير التأمين الصحي وفي أضابير وزارة الصحة والذي أطلقت عليها (أضابير التدويخ والموت ) ، فمتي تكون حياة المواطن المصري لها قيمة ولها كرامة ولها ثمن لدي أولئك الذين ولاهم الله أمانة القيام علي صحة المصريين والحفاظ عليها؟
(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا)
-----------------------------
بقلم: د. كمال السعيد حبيب
* أكاديمي وكاتب صحفي