لعبت أم كلثوم بقلوب العشاق "الكورة الشراب"، "رقّصت يمين وشمال" فتساقطوا على الجانبين وشاطت في مرمى القلوب بأقصى ما تملك من بديع الكلمات والألحان فاشتعل الحضور طربًا.
من طوح الحب بقلبه وراح يكلم نفسه "يا أغلى من أيامي/ يا أحلى من أحلامي/ خدني لحنانك خدني/ من الوجود وابعدني"، عاجلته بمقطع "يا حبيبي إيه أجمل من ليل واتنين زينا عاشقين تايهين/ ما حناش حاسين العمر ثواني ولا سنين"، فذهب باقي عقله وألقى بالتقاويم في الجحيم.
ومن اشتكى هجر الحبيب عاتبته قائلة: لعلك نسيت !!؛ "وعمري ما اشكي من حبك.. مهما غرامك لوعني"، فيمسح المغلوب على أمره دموعه ويشرع يبني بيتًا في مدينة الانتظار وهو يردد "الأمل لولاه عليا.. كنت في حبك ضحية"، مسكين!!
رسخت أم كلثوم في قلوب مجاذيب الحبيبة أن "الحب كده.. وصال.. ودلال.. ورضا.. وخصام.. واهو من ده وده الحب كده مش عايزه كلام"، فلا بأس إن لمحت المساكين وقد عَلَقوا قلوبهم في مراجيح الهواء، فإذا بعضها يطير – عافانا الله وإياكم - لينزل على جذور رقبته، بينما فاتنة الحي مشغولة بغيره.
فإذا جت سليمة، رفع كفيه إلى رب السماء مبتهلاً "يا رب لا عمر كاس الفراق المر يسقينا.. ولا يعرف الحزن مطرحنا ولا يجينا.. وغير شموع الفرح ما تشوف ليالينا"، عفريت هو الشاعر مرسي جميل عزيز، فما بالك أي أغنية تكون عندما يشاركه الألحان جني بقدر بليغ حمدي مع صوت أقرب لمزامير داوود.
تنوعت أغاني الست، وما سُمعَ لقب "ست"، وسأل مستمع؛ من تكون؟، هي ثومة وكوكب الشرق وقيثارة السماء والست، رحل الجسد منذ نحو خمسين عامًا، (ديسمبر 1898 – فبراير 1975)، وبقي الأثر عالقًا بين السماء والأرض يتكاثف حضورها الطاغي عامًا بعد عام. ولم يكن غريبًا أن يُعلن السيد وزير الثقافة أن هذا العام هو عام الست.
صنعت أم كلثوم مجدها وخلودها بفكر انتقائي يراعي مقاييس الجودة في تفاصيل الأغنية؛ من كلمات، وألحان، مع حنجرة وَمَلَكَاتٍ صوتية قلما يجود بها الزمان.
غنت وشدت لمحمد يونس القاضي؛ مؤلف نشيد "بلادي بلادي بلادي"، وأحمد رامي، العاشق المتيم بها، والذي يكاد يحاورها في كلمات أغانيه؛ "ما دام تحب بتنكر ليه، حيرت قلبي معاك، انت الحب"، ولأمير الشعراء أحمد شوقي قصائد "سلوا كؤوس الطلا، نهج البردة، "، ولحافظ إبراهيم "مصر تتحدث عن نفسها"، ولزجال العرب؛ بيرم التونسي "يا صباح الخير يا للي معانا، شمس الأصيل، هو صحيح الهوا غلاب"، ولأبي فراس الحمداني "أراك عصي الدمع".
كما أضافت إلى قطيفتها الشعرية فرائد قمم شعراء ذلك الزمان؛ الأمير عبد الله الفيصل و"ثورة الشك، من أجل عينيك عشقت الهوى"، والسوداني الهادي آدم "أغدًا ألقاك"، والباكستاني محمد إقبال "أقبل الليل"، واللبناني جورج جرداق "هذه ليلتي"، والسوري نزار قباني "أصبح عندي الآن بندقية".
وكما فعلت في الأشعار صنعت في الموسيقى، تنوعت بين ألحان رياض السنباطي برصانتها وعمقها وثقلها إلى عفريت الموسيقى بليغ حمدي، وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، والمتنوع كمال الطويل، والشيخ سيد مكاوي.
صهرت أم كلثوم بديع الأشعار مع رائع الألحان وضفرتهما بصوت فيه من مرونة المشاعر والأحاسيس والقوة ما جعل أغانيها تأخذ بالألباب، ولكن تمهل سيدي العاشق إذا سمعتها تشدو "انت روحي وكل عمري ونور حياتي/ يا حياتي إيه أنا بالنسبة لك"، وتوقع أن تلعب بك الكورة فتقول بصوت هادر رادع "يا فُؤَادِي لا تسلْ أين الهَوَى كَانَ صَرْحًا مِنْ خَيَالٍ فَهَوَى".
هوى على رأس المسكين وأمثاله، للأسف كانت الحبيبة الموعودة كانت خارج الصرح وقت أخذ ينهار!!.
رحم الله الهوى ومساكينه والست!!
-----------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]