إنْ سألناكم عن أحوالِكم فلا تُجيبونا، إذ كيف تُجيب البَتول "مريم العذراء" مَن فَرّط في شرفِها وعرضِها وتركها تُغتصبُ علىٰ مَرأىٰ فاضِحٍ، ومَسمعٍ جارِحٍ ؟!
لا تُجيبونا؛ فحالُكُم نعرفُه تمامًا أيُّها الفلـ..سطينيون كما تعرفوننا أنتم أيضًا؛ أنّا نمارسُ كثيرًا مِن الكَذب الصُّراح والبَجاحة الفَجَّة كما عهدتمونا، لكن بعضنا ما يزال يقبِضُ علىٰ بقايا "أحاسيسٍ نبيلةٍ" يحاول قتْلها، صدقونا لو قلنا لكم ليتها تذهب عنّا وتتفلّتُ جميعها؛ كي لا نَبقَى خَجْلَىٰ أمامكم جَرّاء حقارة ووضاعة ما فعلناه طويلًا بكم.
قُدُسكم قُدُسنا، وأقصاكُم أقصانَا، ودينُكُم دينُنَا، وعرْضُكُم عرْضُنَا، ومَريمُكم مَريمُنا..
بيْدَ أنّا لا نملِكُ وعْيكُم ولا عِزّتَكم ولا سمو رُوحِكم ولا علو هِمّتكُم؛ اكتفينا أمام التّلفاز بذروف الأدْمع واجترار الأحزان؛ بعد أنْ قالوا لنا: "الحزن ظاهرة إنسانية نبيلة أنْبل مِن الفرح ذاته" !! فتَشبَّسنا بذلك النُّبل المتوَهم !! وتركنا لكم عذراءَنا؛ تلك التي بكيناها مائة عام مذ وعد "بلـ..فور" المشؤوم، وتركنا الصّـ..هايـ..نة يتناوبون اغتصـ..ابها طيلة نفْس المدّة بحثًا عن "هيـ..كلهم" المزعزم.
أيها الفلـ..سطينيون؛ أريقوا على جوانب كرامة أوطانكم المَسفوحة المَغدورة دماءَكم وحدَكم؛ ذَودًا عن شرفِها (رغم أنه شرفنا !!) لأنّا نعْلمُ أنّكم لها ولمَسرى نبيكم (رغم أنه أيضًا نبينا !!) ولأُوْلَى قِبلَتكم (وهي في ذات الوقت قِبلَتنا !!) وحائط بُراقِكم (بُراقِنا !!)، لأنّا مِنّا: المتخاذلون، ومِنّا الخائنون، ومِنّا الخانعون، ومِنّا المُتصـ..هينون بكل ما أُوتينا مِن خِسَّة.
ولأنَّكم وحدَكم القابِضون على الجَمر، فلا تُجيبونا إن أردنا الاطمئنان عليكم، واتركونا؛ علّ ما تَبقّى لدينا مِن فتاتِ أحاسيس -أو أحاسيس العار- تقتُلنا؛ فنكونُ خيرَ ثأرٍ ومُنتَقَمٍ لكم وأَمْثلُ عِبْرَة، أو ربما يُبْدلنا ربنا فيُعيدنا سِيرتنا الأُولَى؛ فنكونُ خيرَ عَونٍ لكم.
نُقسِمُ لكم -وأنتم الموقنون- أنّا مِن الصّراخ مَمنوعون، ومِن الاحتجاج مَوسومون، لكنّا نملِكُ فقط قلمًا يكتبُ عنكُم (رغم أنّا وأنتم بنيان واحد !!).
قد تأكدنا ومع كلمات "ناجي العليّ" التي تطنُّ في مسامِعنا: "اللي بِدو يكتب عن فلـ..سطين واللي بِدو يرسم فلـ..سطين يعرف حاله ميت"، ففرحِنا أنّا مُقبولون علىٰ الموت راحةً لنا مِن حال الجُبن والخنوع الذي نحياه؛ فشَرَعْنا نكتبُ بهمّة.
امتلأنا بالغصص وانكسرت نظراتنا حين تلَىٰ علينا "غسَّان كنفاني" قِيلته: "وحدُنا نعرفُ ما الذي أضاع فلـ..سطين؛ فكلام الجرايد لا ينفع يا بُنيّ، أولئك الذين يكتبونَ في الجرايد ويجلسونَ على مقاعدٍ مُريحة، وفي غرفٍ واسعةٍ فيها صورٌ وفيها مِدفأة، ثم يكتبونَ عن فلـ..سطين وهم لم يسمعوا طلْقةً واحدةً في حياتهم" !!
نعم.. فشلْنا في الدِّفاع عن القضية فوأدْناها؛ كي لا نُكلِّفُ أنفسَنا عناء تغيير المُدافعين، والأن.. الأن؛ نعتذرُ لكم؛ فكلامُ الصُّحف لا يُسمن ولا يُغني مِن جوع، كلام الصُّحف كله خَدَر، مِلؤه المورفين والسّكَر.
شرفُ "البتول" لن يُعيده إلا فارِسٌ عربيٌ أصيل؛ يَعتلِي صَهوة العِزِّ والإِباء، يحرقُه أنينُ الأقـ..صىٰ وطول السٌّهاد؛ فيقبِضُ علىٰ الزّناد، يتسَمَّع لصباحٍ قُدُسِيّ النِّداء؛ فيُلبّي ودمُه الفِداء، لا بالدّموع ولا بالكلمات؛ ولا مُستَذَلًّا ولا جاثِيًا، بل يحملُ البَأسَ ليأوي الفَجْرَ.. انتظِروه -كما ننتظره- فقد أَزِفَ موعدُه وأظلَّنا زمانُه.
---------------------------------
بقلم: حورية عبيدة