في العلاقات السياسية يجب الحذر سواء في الكلمة المكتوبة أو المنطوقة ، لأن كلام السياسة هزله جد ، وقد يورط دولا دون أن تتعمد ذلك .
في الذاكرة المعاصرة، كان هناك تعبير:" إلقاء أسرائيل في البحر "، ورغم أنني بحثت عن المصدر الأول له ، فلم أجد غير بن جوريون الذي صرح عام 1950 لأحد الصحفيين " أن العرب يريدون إلقاء إسرائيل في البحر "، ويبدو أن بعض الإعلام العربي تلقفها ، كما استساغتها بعض الدوائر السياسية ، كنوع من تنفيس للغضب من جرائم الصهاينة ، وسارعت آلة الدعاية الصهيونية في التقاط كل تصريح أو تلميح يومئ إلي ذلك، مع مزجه بمهارة مع ما يسمي الهولوكست، ويصبح لدي الدعاية الصهيونية قميص عثمان ، الذي حولته إلي حائط مبكي متحرك.
حالياً، تتناثر البيانات والتصريحات من كل الجسد السياسي المصري سواء الحكومي أو المعارض ، بأن " التهجير " خط أحمر ، والمقصود هو تهجير الفلسطينيين من غزة إلي سيناء ، ولا شك أن ذلك يعني مباشرة تحديد اللحظة التي ينبغي فيها أن تبدأ الحرب، وربما كان ذلك هو المقصود فعلا ، ولكن ألا يعني أيضاً ببساطة منح العدو فرصة إعلان الحرب في التوقيت وبالكيفية التي تناسبه.
لذا يجب التنبه لئلا يتحول التحذير نفسه إلي نوع من القيد يحد من مساحة المناورة strait jacket ، أو يكون مثل نبوءة محققة بصدام كان يمكن تفاديه إذا لم يستخدم ذلك القيد.
من الصحيح أن هناك من المصالح العليا التي لا تقبل بطبيعتها التفاوض، ولكن الفطنة في بناء المواقف السياسية تستدعي مراعاة مبدأ "التدرج" ، وترك مساحات كافية للمناورة ، تتيح للسياسي أو لخصمه التراجع وفقا لحسابات الربح والخسارة ، وكما أوضحت سابقا ، أن استخدام مصطلح " الخط الأحمر " أو " الإنذار " يجعل صاحبه أسيراً له ، فإذا حدث ما يتخوف منه ، لا يستطيع التراجع أو المناورة لاكتساب الوقت كي يعد نفسه مثلا ، وإذا لم يفعل شيئاً بعد هذا التهديد الصريح ، فإنه يفقد مصداقيته ، بل ويغري الخصم بالمزيد من الإختراق .
وتجدر الإشارة إلي أن وسائل التحذير متنوعة ، وأنجحها ما تتم سرا عبر القنوات الدبلوماسية أو من خلال وسطاء يمكن أن يتدخلوا لخفض حرارة الأزمة ، كما أن هناك وسائل غير مباشرة مثل تحريك القوات بشكل معين يرسل الرسالة المطلوبة دون النطق بها ، أو أن يتم إظهار عدم الرضا من خلال إجراءات دبلوماسية وإقتصادية متصاعدة ، أو تحركات شعبية تحمل في ذاتها تهديدا بما قد يتجاوزها .
وأخيرا هناك أسلوب مخاطبة المنظمات الدولية ذات الصلة ، بشكل رسمي بالملاحظات ذات العلاقة بسلوك الخصم الذي يهدد مصالح معينة ، والتحرك الدبلوماسي الواسع علي اتساع العالم للشرح والتوضيح لإكتساب دعم الرأي العام الدولي ، وإيضاح أن ذلك يعطينا الحق في الدفاع عن مصالحنا بكل الوسائل الشرعية بلا استثناء ، بما قد يشكل ضغطا علي الخصم يدفعه للتراجع عن سلوكه العدائي .
لا يقدح في ذلك أخيرا ، أن استخدام هذا المصطلح قد يكون بالفعل بلا بديل، بحيث يتحتم استخدامه رغم كل العيوب السابق الإشارة إليها ، شريطة أن لا يقتصر الأمر علي مجرد "التصريح " به ، وإنما بأن يكون جزءا من خطة متكاملة تشمل الاستعدادات الكاملة لأي احتمال ، أو لأسوأ الإحتمالات ، وهذا موضوع آخر .
--------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق