29 - 05 - 2025

استباحة

استباحة

لو أنى أزمعت هجرة عن وطنى مصر لكان مما يحملنى عليها خُلُق سيئ قد أَلِفناه واعتدناه نحن المصريين حتى صار لنا طبعًا لازمًا وسنة متبعة؛ ذلكم هو (الاستباحة)، ففى كل محل تنزله بالطريق أو الدار أو المركبة أنت (مُستباح أو مستبيح أو كلاهما)، ففى مصر الطريق لمن غلب، وهو مجمع حفلات المصريين واجتماعهم، فهو فى العيد الأضحى مذبح يفيض دمًا وفرثًا ونتنًا وصخبًا يؤذى المقيم وابن السبيل، والطريق لأهل الجنازة مأتم وسرادق يقطع سبيل المارة وتخطب فيه أبواق الخطباء، والطريق لأهل الأفراح نادٍ وملهى يقام من الليل إلى الصبح ما بين قطع للسبيل على السالكين، وعزف وقصف يرج بيوت الحى رجًّا، والطريق للتاجر الجديد حفل افتتاح يضيق المسلك على المشاة والمركبات ويذيع على أهل الديار ما شاؤوا وما لم يشاؤوا، والطريق للطفل والشاب ملعب كرة، ودار ندوة، ومعرض ألعاب نارية! وإننا لنفعل كل هذا فى طرقاتنا وشوارعنا غير مبالين بتأخر المتأخر ولا بتأذى المتأذى، "وكل عام وانت بخير يا بيه، ده يوم فى السنة"، "كل عام وانت بخير ده موسم"، "خلى الناس ترزق"!

فإن أنت فررت من موطن الإزعاج ومضيق الكرب هذا وأويت إلى دارك وظننت أنك قد عُصِمت من (الاستباحة) فقد وهِمت وخدعك شيطانك، فإن استباحتك فى عقر دارك أشد وأنكى، فجارك فى الطابق الأعلى يريد إصلاح جداره أو تجديد بلاطه فسيطرق فوق رأسك ولا يبالى! فإذا أتم بنيانه جاء ابنه فتواثب وتقافز فوق سقفك فمنعك غفوة قيلولتك ورقدة ليلتك! فإن أنت أخذت دارًا وسكنت فيها وحدك جعل الصبية بابك مرمى كرتهم، وجعلوا سلمك مدرج تشجيعهم، فلم تهنأ لا برقدة ولا بغفوة! فإن قلت أسكن حيًّا شعبيًّا فإن أهل الأحياء الشعبية أكثر استباحة، بل أنت هناك لا حق لك فى دارك، فجارك فى ورشة يدق وينشر ويخرط ويصل الليل والنهار! وجارك الآخر لا يرى من بأس أن يضع بعض دوابه أو دواجنه قدام بابك! فإن أنت كلمت هذا أو عاتبت ذاك احتد عليك وخاصمك وعدَّك عدُوًّا من أعدائه تريد سلب حقه وقطع رزقه! فأما حقك أن ترتاح فى دارك فى سكينة وطمأنينة فليس يبالى بذلك أحد، بل ربما رأوك مجنونًا أو متكبرًا إن نطقت لهم بذلك! فليس لك والحال هكذا إلا أن تستبيحهم كما يستبيحونك، ويكون هذا هو العقد الذى بينكم، أو تنظلم لهم ويتكدر عليك عيشك، أو تجاهدهم بالتى هى أحسن، أو تصبر وتحتسب فإنما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب، أو تعتزل مرئيات يوتيوب وتقطع متابعتك لمشاهد المهاجرين عن حياتهم فى مُهاجَرهم فإنها تنغص عليك واقع حالك، رد الله الأذى وهدى المؤذى.
-------------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
mohammedzein110@gmail.com

مقالات اخرى للكاتب

الغضب المسفوح