حفزني لكتابة هذا المقال مقال للصديق العزيز أشرف راضي في هذا المنبر بتاريخ 9-2-2025 بعنوان "كيف تتعامل مع ترامب وتصوراته وعالمه"، فهمت من المقال الممتع والعميق أنه دعوة جادة لفهم تصورات ترامب وخلفيته السياسية كمقدمة لمعرفة كيفية التعامل السليم معه. بعد قراءة المقال أكثر من مرة، تبادر الى الذهن أنه ربما قبل فهم ترامب أو بالتوازي معه، يجدر بنا محاولة فهم الولايات المتحدة ذاتها وخصوصيتها ونشأتها كالبلد الذي ينفرد بصدارة العالم سياسيا وثقافيا وعسكريا منذ سقوط الإتحاد السوفيتي أوائل التسعينات القرن الماضي. ومن البديهي، ألا يستطيع الباحث تقديم مثل هذا الفهم في مقال أو حتى في كتاب واحد،وهذا المقال هو محاولة في سبيل فهم الولايات المتحدة الأمريكية.
يمثل ترامب بلا شك ظاهرة سياسية باعتباره لاعبا أساسيا خارج منظومة المؤسسة التقليدية السياسية في الولايات المتحدة. وله في هذا خصوصية. إلا أنه كرجل أعمال ومضارب عقارات وبراجماتي من الدرجة الأولى لا يمثل استثناء من التيار الأوسع، الاجتماعي والسياسي في الولايات المتحدة، الذي يطمح هذا المقال إلي بيان بعض وجوه "الاستعلاء" الذي يميزها كإمبراطورية في إطار التاريخ البشري. فلأسباب دينية وسياسية واقتصادية ولدت عقيدة "الاستعلاء" مع ولادة الأمة الأمريكية في القرن الثامن عشر. فمع إرهاصات ولادة الولايات المتحدة أعلن الآباء المؤسسون شعار " مدينة فوق التل تشرف على العالم." لوصف بلدهم الناشئ ورسالتها في العالم. وهو شعار مستمد من الإنجيل يصف مركزية ومحورية القدس. ومفهوم"الاستعلاء" مركزي لفهم الأبعاد السياسية والدينية والاقتصادية المفسرة لخصوصية الولايات المتحدة، مع تأكيد أن لكل أمة خصوصيتها التي تميزها.
مدينة فوق التل
كانت الطوائف التطهرية " البيورتانية " المسيحية تشكل غالبية " الحجاج" على ظهر سفينة الماي فلور التي رست في نيوإنجلاند (ولاية ماساشوستس الحالية) في عام 1620 في العالم الجديد. و"البيورتان" هم طائفة بروتستانتية ظهرت في إنجلترا في القرن السادس عشر وكانت تنتقد الكنيسة الإنجليزية بقوة على أساس أن الأخيرة وإن كانت بروتستانتية أيضا، إلا إنها لم تتخلص تماما من بقايا الكاثوليكية في العقيدة والممارسة. وبعد أن استقر المهاجرون تفرعت عن الطائفة حركات دينية أكثر تطهريه مثل "الكويكر"و"المرمون". كان الجانب الديني مركزيا في وجدان ركاب الماي فلور والسفن التي توالت من أوروبا على العالم الجديد بعد ذلك. وكان هؤلاء المهاجرين يسمون أنفسهم حجاجا باعتبار أن الهروب من "الاستبداد الديني" للكنيسة الإنجليزية وتأسيس حياة جديدة في العالم الجديد "واجب مقدس"، بحسب الكاتب الامريكي هوارد زن مؤلف كتاب " التاريخ الشعبي للولايات المتحدة الأمريكية "، وهو من أكثر الكتب شمولاً لهذا التاريخ. ومن هذا الباعث ظهرت عبارة "مدينة فوق التل تشرف على العالم." أو ربما في أذهان بعض المهاجرين الأوائل: "أورشليم الجديدة".
لا يمكن في حقيقة الأمر فصل هذا الجانب الديني القوي عن محاولة فهم أمريكا، حتى إن ظواهر سياسية دينية مثل المسيحية الصهيونية والتي يبدو أن هناك ما لا يقل عن 30 مليون أمريكي يعتنقها لا يمكن إدراكها تماما دون اعتبار هذا الجانب. ولا شك ان الولايات المتحدة قد خطت فيما بعد الاستقلال عام 1776، وحتى الآن خطوات متسارعة نحو العلمانية. وأيضا فان الدستور الأمريكي الذي تمت صياغته عام 1787م وإن كان لا ينص صراحة على العلمانية كمبدأ حاكم مثل الدستور التركي أو الفرنسي، الا إنه ينص بوضوح على فصل الكنيسة عن الدولة والحياد تجاه الأديان المختلفة. أما في الممارسة العملية فان الدين يحتل حيزا مهما في المجتمع والسياسة.
لم تكن حرب الاستقلال (1775–1783)، ولا الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب (1860-1865)، حروباً دينية. ولكن هذا لا يعني أن قطاعات مؤثرة في الجنوب استخدمت الدين لتبرير استمرار العبودية. إلا أن الشمال انتصر في النهاية. أما بالنسبة للدين في خطابات الرؤساء الأمريكيين منذ جورج واشنطن وحتى ترامب، فنلحظ تأرجحا في استخدام التعبيرات الدينية يتحدد وفقا للفترة ولخلفية الرئيس. ومهما يكن لا شك أن الدين وأهميته هي فكرة لم يتجاسر رئيس أمريكي على تحديها مدركاً أن الدين يمثل ركنا أساسيا في حياة قطاع لا يستهان به من الشعب. ويُعد حضور المراسم والمناسبات والاجتماعات الكنسية بالإضافة الى احتفالات الأديان الأخرى مثل الإسلام واليهودية برنامجا أساسيا لم يحد عنه أي رئيس أمريكي. ويؤكد حوالي 36% من الشعب الأمريكي التردد على الكنائس وهي نسبة منخفضة بمعايير العالم العربي ولكنها مرتفعة نسبيا إذا ما قورنت بأوروبا.
الفكرة التي أريد أن أؤكد عليها هي ان المجتمع الأمريكي الآن ما زال ذو غالبية علمانية، ولكن هذا لا يعني أن الدين لا يشكل مفهوماً أساسياً في خلفية فهم المواطن الأمريكي بصفة عامة لرسالة أمريكا العالمية. ورغم أن مصطلح "مدينة فوق التل" قد أختفى نظرياً إلا أنه لا يزال قابعاً في خلفية مفاهيم مثل "الحلم الأمريكي" و"رسالة أمريكا" ومفاهيم "استعلائية" أخرى كما يشير الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتاب "الفردوس الأرضي". وحتى الدين بمفهومه الصريح لم يغب أبداً عن الحوار العام. فترامب الآن يعيد إحياء حزمة من القضايا الدينية التي ظن الكثيرون أنها حسمت مثل الإجهاض وعقوبة الإعدام ومكافحة المثلية. ولاحظنا على مر تاريخ الولايات المتحدة استدعاء الخطاب الديني وقت الأزمات، في الحربين العالميتين وفي فيتنام وحتى في المواجهة مع الاتحاد السوفييتي، خاصة في عهد ريجان، تم استدعاء الكثير من المضامين والايحاءات الدينية، واستخدمت تعبيرات مثل "امبراطورية الشر" و"الدول المارقة" (مارقة عن ماذا؟). فالقضية لم تكن أبدا متعلقة بشر أو بخير، وإنما بالسياسة والنفوذ. ليست الولايات المتحدة دولة دينية، بطبيعة الحال، وإنما حضور الدين في الوعي واللاوعي عند النخبة والمواطن أكثر ظهورا من ديمقراطيات أخرى. ولم تكن هذه الحقيقة غائبة عن المسلمين الأمريكيين الذي كانوا تاريخيا يرجحون الحزب الجمهوري لمناداته باحترام الأخلاق والأسرة، كما يرى الدكتور وليد عبد الناصر في كتابه "من بوش الى أوباما". خلاصة القول لا يستمد الاستعلاء في أمريكا من الدين مباشرة، ولكن لا يمكن تجاهله كرافد على الأقل في اللا وعي.
الدولة المارقة في المرآة
في واقع الامر، فإن صعود ترامب سوف يقود الى نتيجة مهمة جداً وهي أنه بينما انشغلت الولايات المتحدة بتعريف "الدول المارقة" منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فإنه يمكن لترامب الآن أن ينظر في المرآة ويقول: انا رئيس أكبر دولة مارقة في التاريخ. ففي أقل من شهر استعدى ترامب كندا والمكسيك وكولومبيا ومصر والأردن. وابتز السعودية وانسحب من اتفاقية المناخ. لكن سر قوة ترامب هو انه لا يتقيد ببروتوكولات ولا أيديولوجيات. أنه يحكم أكبر بلد في العالم بمنطق مضارب العقارات أو صاحب كازينو القمار. كيف حدث هذا التآكل الحزبي ان جاز التعبير.
منذ سقوط الاتحاد السوفيتي حدث اتجاه مزدوج في السياسة الامريكية. ازدادت الولايات المتحدة نفوذا وثراء على الصعيد الخارجي بينما تقلصت مساحة الحركة في السياسة الداخلية. لمم يكن الحزب الديمقراطي ابداً على يسار الوسط ولا حتى في الوسط. بل كان دائما في يمين الوسط خاصة في السياسة الخارجية. في أواخر عهد الرئيس الديمقراطي السابق بيل كلينتون صدرت وثيقة بعنوان "الإبحار في مياه مضطربة"، والشق الخاص بالشرق الأوسط في هذا التقرير كان دليل عمل جورج بوش الابن بعد 11 سبتمبر 2001. لقد تقلصت الفروقات بين الحزبين بشكل ملفت. حتى جماعات الضغط المعروفة بتواجدها القوي على الساحة الأمريكية تبدو باهتة في ظل إدارة ترامب 2015-2020 وحتى في ظل جو بايدن 2020-2024. ربما هناك نذير بموت السياسة وليس فقط الايدولوجيا في الحياة السياسية الأمريكية مما سهل من مهمة ترامب ان يغرد خارج السرب.
الربح ثم الربح
مع ترامب، آن الأوان لبعث فلسفة أمريكية قديمة: النفعية أو البرجماتية. لقد أسس هذه الفلسفة في أمريكا وليم جيمس (1842-1910) وجون ديوي (1859-1952). في الواقع، لم تمُت النفعية في أمريكا أبدا، بل كانت حاضرة طول الوقت. ترامب نفض عنها فقط التبريرات السياسية والحزبية والأخلاقية. فبينما العالم كله يرى غزة مثلا مسرحا للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يراها ترامب منتجعا سياحيا يدر المليارات و"ريفييرا الشرق الأوسط". مع ترامب يعمل معول النفعية ليختزل كل السرديات السياسية الكبرى الى معادلات ربح وخسارة. لقدد تطورت النفعية مع ترامب لتصل إلى أنقى صورها. إنه "الاستعلاء" المبني على الدولار وليس الرسالة. حينما قال كيسنجر للسادات "دعنا من أعباء تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي" كان طفلا بجانب ترامب.
في فترة ترامب الأولى ظهرت عشرات الكتب ومئات المقالات في تشريح الظاهرة الترامبية. أغلب هذه الأدبيات ركز على العنف الاقتصادي الذي يتعامل به مع العالم ومع الولايات المتحدة. ويبدو هذا النموذج ناجحا حتى أنه أعيد انتخابه، فهو أولاً وأخيراً يخفض الضرائب ويزيد فرص العمل. لقد كان للفكر الاقتصادي لرؤساء الولايات المتحدة تعريفات كثيرة مثل الطريق الثالث (كلينتون وباراك أوباما) والنيو ليبرالية (ريجان وجورج بوش الابن)، فماذا يمكن ان نطلق على فكر ترامب ربما "البرجماتية الخالصة".
هذه العوامل الثلاثة، الدينية والسياسية والاقتصادية تجعلنا نقترب من فهم العقيدة الاستعلائية للولايات المتحدة التي أسفرت عن وجهها بعد الحرب العالمية الثانية ولكنها كانت حاضرة منذ التأسيس، والتي هي حجر الزاوية في رأيي نحو بداية فهم أفضل للولايات المتحدة يخرجنا من ثنائية الحب والبغض حيالها.
------------------------------
بقلم: محمد الأنصاري