تعد ياسمين مجدي واحدة من أبرز الأسماء الإبداعية في جيل الشباب المصري الآن، تتمتع كتابتها بلغة طازجة وقدرة عالية على التحليق في الخيال، ما يجعل الكتابة لديها أشبه بلعبة بسيطة تحركها كما تشاء، ويجعلها هي اشبه بطائر يمارس هوايته في ألعاب الهواء، فيختلط الواقعي لديها بالفنتازي، وتمتزج الاسطورة باليومي والمعاش، وتنتقل من المعتاد إلى العجائبي والغرائبي، مستمتعة بقدرتها على تنمية الفروض التي تنطلق منها إلى أبعد السماوات التي يمكن للخيال أن يصل إليها.
في مجموعتها الأخيرة "لعنة ميدوسا والفيل أبو زلومة" تؤكد مجدي على أن الكتابة هي لعبة، وأنها تجيد ممارستها بنعومة شديدة، وأن الأرض خلقت كي تنطلق منها نحو الأفق الذي تمارس فيه تخيلها كما تشاء، وأن أدواتها لإبراز قدرتها على الرقص والتحليق في عوالم الهواء هي اللغة وتعبيراتها البكر، وقدرتها على إنتاج مزيدا من الصور الجديدة والوصول إلى أرض غير مطروقة من قبل، ومن ثم فالجغرافيا التي تدور عليها عوالم المجموعة بدءا من القصة الأولى "التابوت" تشبه أرض الأحلام، فليس فيها معالم توحي بمكان محدد، ونظرا لسرعة الانتقال بين المشاهد والصور التي تحتفي بها النصوص فيكاد ينعدم حضور المكان والزمان، وتصبح البطولة في النص لعالم الحلم وانتقالات أطيافه، والذي تراوح فيه الساردة ما بين الماضي والحاضر والمستقبل بخفة موسيقية هادئة تتدفق في خلفية مشهد ساحر، وكما يحدث في الأحلام دائما يتسرب لدينا شعور وهمي خفي بالزمن أكثر من حضور المكان الذي يأتي مجردا من التفاصيل، مما يجعلنا نعيش في عالم من الفنتازيا التي تليق بأجواء إعادة إنتاج الأساطير القديمة.
تمتاز المجموعة المكونة من تسع قصص هي: (التابوت، عادات النوم السيئة، تجارة التفاح، قصة المؤلفة، مفردات، فضول علمي، الفيل أبو زلومة، الجرجونة، كلبة المشاعر) بحس طفولي مرح في رؤية للعالم والتعبير عنه، حيث تنطلق وجهة نظر الساردة من منطقة تدفق أحلام اليقظة والانتقال بنعومة بين الأزمنة والأماكن، دون اعتبار لقيود المنطق أو التسلسل التراتبي للأحداث، معتمدة على لغة شعرية بسيطة وناعمة لخلق مشاهد تجريدية تليق بعوالم الأحلام. ففي القصة الأولى "التابوت" تشترى فتاة تابوتا من على النت، وتنمو بينهما المشاعر، حتى أنها تحكي له همومها التي يبتلعها كل يوم في محبة وصمت، وهي تعيش في هذا التابوت تاركة خطيبها وأمها وعالمها كله، ومع تنامي المشاعر بينها وبين التابوت بجدرانه الخشبية يأخذ الأخير في تعلم اللغة من أجلها، والحكي لها عن مشاعره تجاه حياتها، وسرعان ما يكتسب خشبه المرونة كي يصحبها في كل مكان تذهب إليه، حتى أنها في نهاية القصة تتنازل عن خطيبها لأجله، ثم تنام فيه، وينغلق بابه عليها ولا ينفتح من جديد.
أما قصة "عادات النوم السيئة" فإنها تفتتحها بـ (عبرت القصة إلى الرصيف الآخر في رأسي، وسألتني إن كنت سأستيقظ من النوم أو تهجرني كعادتها، في الصباح تأخذ كلماتها وشخصياتها وتنزلق في ركن منسي، رغم أني أغلق جفوني على الجمل، أحفظها كمفتتح قصة عظيمة في الليل، وحينما اجلس لكتابتها في النهار أجدها ناقصة، أو ضاع المدهش من الحكاية)، هذه البداية الشعرية تماما، سواء على مستوى اللغة أو الصورة أو المجاز أو أنسنه الاشياء، تؤكد فكرة أرض الاحلام التي نسجت من خلالها ياسمين مجدي عوالم مجموعتها، وهي عوالم تذكرنا بنفس الأرض التي قامت عليها القصص الأسطورية الكبيرة كسندريلا وأميرة الثلج وست الحسن وغيرها، وتدور الأحداث في هذه القصة وغيرها بشكل طيفي عن أم تسير في الحلم، على نحو مماثل للسير أثناء النوم، فتتداخل عوالم الحلم مع الواقع، وتخلق منطقة طيفية تدور فيها الأحداث، مما يجعلنا أمام طرح جديد في الكتابة يتحدث عن فكرة واقعية ولكن بعيون وخيال أحلام اليقظة في فترة المراهقة، أو الانتقال ما بين الطفولة والشباب، وهو طرح جديد ومغاير ونادرا ما يتم استخدامه في القصص المكتوبة للكبار.
ترصد الكاتبة في قصة "تجارة التفاح" ما يدور فيما يعرف ببرامج المعايشة، حيث توضع حياة شخصين سواء زوجين أو حبيبين أو صديقين تحت عين الكاميرات أربعا وعشرين ساعة لمدة معينة، وذلك في مقابل جائزة أو مبلغ مالي. لكن هل تستمر حياتهم بعد البرنامج كما كانت قبل البرنامج، هذا ما تتعرض له القصة بنعومة وطيفية رقيقة، تشعرنا أننا نعيش في عالم الأحلام رغم أنها تناقش واقعا مؤلما، يتم في المتاجرة بمشاعر وخصوصيات البشر. أما "قصة المؤلفة" فإنها تقدم طرحا قصصيا جديدا عن حدود العلاقة بين الواقع والخيال، حيث المؤلفة التي تكتب شخصية من نسج خيالها، وعلى المقاسات المناسبة لها من حيث الطول والعرض والوزن والوسامة، كي تحبه وتقع في غرامه. وفي قصة "مفردات" ترصد أزمة استخدام المفردات الصحفية في مكاتب القنوات الاعلامية، حيث تكون المفردة المعتمدة في بلد ما غير التي تريدها إدارة القناة، وهي إشارة قريبة للحرب على غزة وتباين وصف ما يجري بين مفردات المقاومة والمخربين، وذلك بحسب انتماءات كل قناة، لكن ياسمين مجدي التي اختارت لمجموعتها تلك الأرض المتأرجحة ما بين الواقع والخيال تأخذنا إلى عوالم الفنتازيا، حيث زواج رجل في الستين من دمية يستغني بها عن العالم، واستعارة الدمية من قبل شخص آخر ليس من أجل الغرض الجنسي، ولكن من أجل الصداقة، لتبدا عوالم الفنتازيا التي تتآخى فيها الدمية مع هذه الشخصية، وتبدا في التحرك في العالم الواقعي كجزء من مفرداته وشخوصه، حتى إننا لا نعرف أيهما الواقعي وأيهما الخيالي.
في قصة "فضول علمي" تتساقط حدود الزمن، حيث الزوجة التي تراقب زوجها، وتسافر خلفه عبر آلة الزمن وبواباته، تتنكر في هيئة صديقة له وتأخذ منه مواعيد غرامية، فيأخذ في تشممها بما يسميه بالفضول العلمي.
وحملت المجموعة عنوان قصتين هما "لعنة ميدوسا" التي كانت في الأساطير اليونانية إذا نظر في عينها كائن حي حولته إلى حجر، لكن ميدوسا الجديدة أو الجرجونية، فإنها تتمتع بقدرة إذا نظرت هي إلى حجر فلقته اثنين، وهي النظرة النمطية المجازية عن العين القادرة على الحسد بسبب الفقر أو الحقد أو الكراهية، وقد طورت ياسمين البعد الدرامي في هذه النظرة التي باتت صاحبتها منبوذة، فخلقت لها من يحبها ويتعلم من قدراتها وامتلاك أسلحتها، وجعلت لها جيشا من الحاقدين وأرضا مهجورة لا يسكنها سواهم. أما القصة الثانية "الفيل ابو زلومة" فكانت أيضا عن عاهة أو لعنة، حيث أصيبت فتاة بدمل في أنفها فاصبح ممطوطا كأنه زلومة، وأخذت في تمييز الروائح حتى بات البعض يعتبرها ذات موهبة مميزة، وبات أهلها يسعون لاستثمارها، بينما هي تشعر أن الروائح التي تشمها تجثم على صدرها كفيل كبير يصيب صدرها بالتخشب. وفي النهاية اختتمت المجموعة بقصة "كلبة المشاعر" التي تمتعت فيها فتاة بالقدرة على تتبع المشاعر السيئة والتخفيف عن أصحابها وفيها تقول (ريح صغيرة تقودني إليهم، يتحرك الهواء بي في ممرات وشوارع وأدوار عليا وسفلى، حتى أجدهم امامي، أحيانا أعرفهم من صوت بكائهم، أو تبدو وجوههم لي شرسة أو خائفة).
في هذه المجموعة تنطلق ياسمين مجدي من طرح أرضي معتاد لتحلق في سماء الفنتازيا عبر طرح أسطوري تقوم بتنميته على مدار أحداث قصصها، مازجة ما بين الواقع والخيال، ومنحازة في كثير من القصص إلى الخيال على حساب الواقع، خالقة أرضا مشتركة بين جميع القصص يمكن تسميتها بأرض الاحلام، تلك التي يلجأ إليها الرومانسيون وأصحاب الخيال النشط لتحقيق أحلام يقظتهم.
وعبر آليات سرد متميز ناعم تمكنت الكاتبة من خلق كل أجواء وآليات عمل الحلم، حيث التجريد وتفتيت الزمن وتهميش المكان واختصار الشخوص في شخص واحد تحاوره الساردة طيلة مجريات الحلم. مما خلق مجموعة فريدة في عوالمها ومقترحاتها الإبداعية، وقدم إضافة جديدة للكاتبة التي قدمت من قبل خمس روايات هي: امرأة في آخر عمر الأرض، معبر أزرق برائحة اليانسون، قوارب الشمع، سيرة الكائنات، عرق اللؤلؤ.
---------------------------------
بقلم: صبحي موسى