05 - 05 - 2025

من بلفور إلى ترامب .. قضية فلسطين بين الوعود والسياسات

من بلفور إلى ترامب .. قضية فلسطين بين الوعود والسياسات

بعد أربعة أيام من تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، نشرت مجلة "فورين أفيرز" مقالاً لأستاذة مشاركة في جامعة ولاية بنسلفانيا بعنوان "حدود نظرية الرجل المريض"، حذرت فيه من ضرر قد يلحق بالسياسية الخارجية لإدارة ترامب نظراُ لصعوبة التنبؤ بسياسات الرئيس الجديد. ونظرية الرجل المريض التي تختبر الأكاديمية الأمريكية حدودها، هي نظرية وضعها جيم سيوتو، كبير مراسلي الأمن القومي ومقدم برنامج غرفة الأخبار في شبكة (سي.إن.إن.)، في كتاب نشره في عام 2020، بعنوان "نظرية الرجل المجنون: ترامب يتحدى العالم". وصعوبة التنبؤ بسلوك ترامب كانت الملاحظة الأساسية لسير ريتشارد ديرلاف، الرئيس السابق للمخابرات البريطانية (إم.آي.6)، أثناء مقابلة مع مدونة "وإن ديسيجن" الصوتية، أجريت بعد التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى ووقف إطلاق النار في غزة قبل يومين من حفل تنصيب ترامب. في ظل وضع كهذا يكون من الصعب معرفة كيف يمكن أن يتغير المشهد السياسي في الشرق الأوسط أو في غيره من مناطق العالم، لكن لا شك في أن تصريحات الرئيس الأمريكي وسلوكه يثير موجات من ردود الفعل الغاضبة بتأثير الصدمة التي تحدثها تلك التصريحات والاقتراحات.

أثبت الرئيس الأمريكي الجديد،منذ اللحظة الأولى لجلوسه في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض هذه الحقيقة، من خلال سلسلة من القرارات التنفيذية التي أثارت عاصفة من ردود الفعل الغاضبة في أنحاء العالم، شملت كندا والمكسيك، الدولتين اللتين تتشاركان الحدود مع الولايات المتحدة في قارة أمريكا الشمالية. على الرغم من تراجع ترامب عن قرارات بفرض رسوم جمركية إضافية على البلدين، بعد أن قوبلت بقرارات مضادة تهدد المصالح الأمريكية، إلا أنه لم يتوقف عن إصدار قرارات وتصريحات تحدث موجات من الصدمة في العالم، كان آخرها تصريحاته المتعاقبة بشأن مستقبل الوضع في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، والتي فاجأت حتى مساعديه المقربين. 

وعلى الرغم من أن هذه التصريحات قوبلت برفض واسع النطاق، من حلفاء الولايات المتحدة وخصومها في منطقة الشرق الأوسط وفي أوروبا، إلا أن ترامب زعم أن "الجميع" معجبون باقتراحه لحل المشكلة في غزة باعتباره تفكيراً غير تقليدي يأتي بحلول من خارج الصندوق. المثير حقاً، أن ترامب واثق بقوة من أن مصر والأردن ستوافقان في نهاية الأمر على اقتراحه بشأن استقبال الفلسطينيين الذين سيتم تهجيرهم من غزة، رغم معارضة الدولتين ومعارضة الفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية ومعارضة الدول العربية لذلك، وإدراكهم أن هذا الاقتراح ما هو إلا خطوة أولى يختبر ترامب من خلالها إمكانية تهجير الفلسطينيين لاحقاً من الضفة الغربية لتمهيد الساحة لإقامة "إسرائيل الكبرى"، وفقاً للرؤية الصهيونية التي قامت على افتراضات غير واقعية، في مقدمتها أن فلسطين أرض بلا شعب.

عالم ما بعد الحقيقة

لكن هل تأتي تصريحات ترامب وتوجهاته بخصوص منطقة الشرق الأوسط وثقته الشديدة في أنه سيجري تنفيذها على الأرض من فراغ؟ الحقيقة لا.. فمن يدرس تاريخ الصراع الإسرائيلي مع الفلسطينيين ومع الشعوب العربية المحيطة، يخلص إلى نتيجة تفيد بأن الحقائق القائمة على الأرض اليوم بدأت بوعد شبيه بالوعود التي قدمها ترامب، سواء في فترة ولايته الأولى والتي جرى تنفيذ بعضها، أو تلك التي يقدمها الآن. استطاع ترامب في فترة ولايته السابقة تنفيذ بعض وعوده مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة الولايات المتحدة إليها، وتخليه عن فكرة "حل الدولتين" كتصور التزمت به الإدارات الأمريكية السابقة وحلفاء واشنطن الأوروبيون والذي شكل ركيزة لجهود السلام في المنطقة منذ ثمانينات القرن الماضي، من خلال تشجيعه دول الخليج ودولا عربية أخرى على توقيع اتفاقيات لتطبيع العلاقات مع إسرائيل دون اشتراط حل المشكلة الفلسطينية وعلى حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، مقابل محفزات تقدمها واشنطن ربما على حساب شعوب أخرى، مثل قضية شعب الصحراء، ولم يعارض بناء مستوطنات إسرائيلية على الأراضي المحتلة في الضفة الغربية تمهيداً لضمها. هذه الوعود لم تتحقق من تلقاء نفسها وإنما نتيجة لسياسات واستجابات لتلك السياسات جعلت تحقيقها ممكناً، وهي نقطة يجب الالتفات إليها عند التفكير في الاقتراحات الأخيرة، لمعرفة سياسات تنفيذ هذه التصورات، وأيضاً من أجل وضع سياسات مضادة لتلك السياسات.

ربما عطلت هزيمته المخزية في انتخابات الرئاسة 2020، سياساته لتنفيذ تصوراته لحل المشكلة الفلسطينية على حساب سيادة الدول العربية واستقرارها، وفي مقدمتها ما اقترحه من حلول بديلة لحل الدولتين، تقوم على فكرة الدولة الإسرائيلية الواحدة، أو طرح الدولة الجديدة الذي عرضه صهره جاريد كوشنر الذي كلفه بملف الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي في ولايته السابقة، في ورشة عمل عن السلام في مملكة البحرين والآن باتت الفرصة مواتية والأرض ممهدة لمواصلة تلك السياسيات، فهل سينجح ترامب في فترة رئاسته الثانية فيما فشل في تحقيقه في فترة رئاسته الأولى؟ وهل يغريه صمت الحكومات العربية عن جريمة إبادة الشعب الفلسطيني في غزة وتمكنها من إسكات صوت الشعوب العربية الهادر من خلال القمع، على التمادي في سياساته المعروفة جيداً والممعنة في العداء للعرب؟ وهل مهدت نتائج الحرب على قطاع غزة الأرض لتمرير هذه التصورات التي يطرحها، والتي تلقى تأييداً كبيراً من مختلف الأحزاب السياسية الرئيسية في إسرائيل، والتي تتراوح بين يمين الوسط واليمين المتطرف؟ وهل ستتمكن الدول الأوروبية والعربية والصين التي أعلنت رفضها لاقتراحات ترامب من التصدي لسياساته؟ فالسياسة هي الآلية الأساسية لتحويل الوعود إلى واقع، وتفرض حقائق جديدة في عالم ما بعد الحقيقة.

قد يقدم كتاب صدر في الولايات المتحدة في عام 2018 بعنوان "ظاهرة ما بعد الحقيقة في أمريكا: عندما تتغلب المشاعر والآراء على الحقائق والأدلة"، إلى جانب عشرات الكتب الأخرى، بعض التفسيرات لشخصية ترامب وأساليبه في التفاوض. لقد ألف ترامب نفسه كتاباً بعنوان "فن الصفقة"، صدر في عام في عام 1987، ويستعرض في الكتاب الذي ألفه بالتعاون مع الصحفي الأمريكي توني شوارتز، أفكاره وفلسفته في إدارة أعماله وعقد صفقات ضخمة في الثمانينات استطاع من خلالها تطوير إمبراطوريته العقارية، التي جعلته واحداً من أكبر رجال الأعمال والأثرياء في الولايات المتحدة والعالم. ويرى النقاد أن هذا الكتاب مهم لفهم أساليب البيع واستراتيجيات التسويق وأسرار عالم التجارة، ومهارات عقد الصفقات وبناء الأعمال الناجحة. المبدأ الأول في هذا الكتاب هو أن رجل الأعمال يجب أن يضع ثقته كلها في حدسه عند اتخاذ القرار مهما تكن البيانات المتاحة لديه، وتنبيهه إلى الناس قليلي التفكير بسبب خوفهم من اتخاذ القرارات، الأمر الذي يمنح أشخاصا مثله ميزة كبيرة في إبرام الصفقات اعتماداً على قدرته على اكتشاف ما يريده الآخرون، وأن القدرة على إقناعهم بأن ما يريدونه لديك يشكل ميزة إضافية، يعززها الترويج لنقاط القوة والمزايا التي تمتلكها وكشف نقاط ضعف الآخرين وسلبياتهم مع الحرص على عدم إهانتهم، والإيمان بأن "المثابرة غالباً ما تُحدث فرقا".

ينجح مثل هؤلاء في عالم تراجعت فيه الحقيقة التي تدعمها الوقائع والأدلة وتتغلب فيه مشاعر الناس وآراؤهم، عالم يجري فيه تزييف الحقائق ونشر الأكاذيب ومواصلة ترديدها حتى يصدقها الناس، عالم يعتمد على أساليب الدعاية للترويج لمنتجات لا يحتاجها الناس حقاً وخلق الاحتياج لهذه المنتجات، عالم يتراجع فيه الاهتمام بالفقراء غير القادرين على شراء تلك المنتجات والخدمات، ويوجه التركيز للقلة المترفة القادرة على الإنفاق على ما يعرض من منتجات وخدمات، وهذا كله لا يمكن أن يحدث إلا عبر تزييف وعي الناس بأساليب دعائية يجري تصميمها ببراعة للترويج للباطل وتشويه الحقائق، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بتغييب العقل والتفكير وتعطيله والتلاعب بمشاعر الناس وعواطفهم واللعب على معتقداتهم واستغلالها، ويتعرض الدين في هذه العمليات لأسوأ صور الاستغلال، فهو البضاعة الرائجة لدى السواد الأعظم من البسطاء الذين استسلموا على مدى قرون لخطاب يعدهم بأن جنتهم الموعودة ليست في هذا العالم وإنما في عالم آخر، ويدفعهم لتبني اختيارات ضد مصالحهم، ويجعلهم مستعدون لتصديق أي شيء. 

من المؤشرات اللافتة، أن أغلبية الناخبين العرب صوتوا في الانتخابات الأخيرة لترامب، لمعاقبة الرئيس الديمقراطي جو بايدن ونائبته كامالا هاريس بسبب سياساتهم تجاه حرب غزة، أو لأنهم صدقوا أن ترامب قادر على وقف الحرب الدائرة في غزة لأكثر من عام والتي لا يعرف أحد متى ستنتهي وكيف يمكن أن تنتهي؟ لم يسأل هؤلاء الناخبون مديري حملة ترامب ولا ترامب نفسه عن الكيفية التي سينهي بها الحرب ولا عن الشروط التي يضعها لوقفها، ونسوا مواقف ترامب المعادية للأمريكيين من أصول عربية وإسلامية، وموقفه من الهجرة الذي يستند إلى رؤيته العنصرية التي تؤمن بتفوق الرجل الأبيض. لقد استند نجاح ترامب في انتخابات عام 2016 على قدرته على بناء تحالف انتخابي عريض جمع بين غلاة أنصار إسرائيل وبين فاشيين معادين لليهود وللسامية، وبين كبار رجال المال والرأسماليين الاحتكاريين وبين العملاء الفقراء، تحت شعار "أمريكا أولاً"، حشد فيه كل المعادين للمؤسسة الأمريكية الحاكمة ولواشنطن. وكان من الطبيعي أن يتفكك هذا التحالف وينهار عند مواجهة لحظة الحقيقة واتخاذ قرارات تمس مصالح القوى المختلفة، وهو ما أكده خروج عدد كبير من مستشاريه ومساعديه وانقلابهم عليه في فترة رئاسته الأولى التي وصفت بأنها مضطربة.

في عالم ما بعد الحقيقة هذا، من المتوقع أن تلقى نظريات المؤامرة رواجاً كبيرا بين الناس، ومن المتوقع أن تكون الغالبية العظمي من الناس مهيأة لاستقبال ما يعرض عليهم وتقبله، وأن يترسخ لديهم الاعتقاد بأن ما يطرح سيجري تنفيذه، ولا يفعل معظم الناس شيئاً سوى ترقب ما هو قادم، ويشعرون بالقلق من التصريحات التي يرونها مقدمة لشيء أخطر بكثير، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التفكير في كيفية التصدي لهذا الخطر. مشكلة هذا النمط من التفكير والسياسات المستندة إلى غطرسة القوة تتمثل فيما قد يترتب على التمادي فيها والتحليق بعيداً عن أرض الواقع إلى أن تأتي لحظة الحقيقة، عندما يرتطم الحالمون بالسيطرة على صخور الحقيقة، لكن ذلك لا يحدث غالبا ألا بعد أن يكون العالم دفع أثماناً باهظة نتيجة الأحلام المفارقة للواقع، هذا ما حدث مع الزعيم النازي أدولف هتلر ومع زعماء اليابان الذين روادهم حلم بناء إمبراطورية لهم في آسيا أثناء الحرب العالمية الثانية.

قد يقول قائل أو ليست السياسة فعلا يستهدف تغيير الواقع، وأن هذا التغيير يستند إلى أفكار وتصورات تنشأ أولاً في رؤوس الزعماء والقادة، وهذا قول صحيح ولكن مع الاستعداد دائماً لتغيير هذه التصورات والأفكار عندما تصطدم مع الحقائق على أرض الواقع، وعندما يكون المضارب أو المقامر السياسي أو رجل الصفقات الناجحة مستعداً بالفعل لفهم منطق الآخرين. وهذا الأمر لا ينطبق على ترامب الرئيس بسبب ما تمتلكه الولايات المتحدة من قوة ونفوذ.

حدود القوة وحدود الجنون

الواقع يثبت دائما أن هناك حدوداً لكل شيء، وهذه حقيقة من المفترض أن يدركها ترامب الذي اتخذ قراراً بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان، ووضع مهلة لتنفيذ هذا القرار التزم بها الرئيس بايدن الذي خلفه، وأمر بسحب القوات دون خطة للانسحاب ودون اتخاذ ما يلزم من ترتيبات ليأتي مشهد انسحاب القوات الأمريكية وما صاحبه من تطورات في أفغانستان على النحو الفوضوي الذي رآه العالم على شاشات التلفزيون. الأمر الذي أتاح لحركة طالبان التي حاربتها الولايات المتحدة قرابة عقدين من الزمان استعادة السيطرة على العاصمة كابول وتمكنت من فرض سيطرتها على البلاد، وإعادة كل شيء في البلاد إلى ما كان عليه قبل الغزو الأمريكي والأطلسي أواخر عام 2001. ولأن هناك حدوداً لما يمكن للقوة أن تحققه، لم يستطع الجيش الأمريكي ولا الجيوش الغربية المتحالفة معه والتي قامت بغزو أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، تغيير شيئ في أفغانستان، وهو الدرس الذي لم يتعلمه القادة الأمريكيون من حرب فيتنام ولم يتعلموه حتى من حروب الجيش السوفيتي في أفغانستان.

لا يمكن للقوة العسكرية ولا الحرب أن تحقق شيئاً ما لم يكن هناك تصور سياسي يحدد ملامح اليوم التالي للحرب، وهو ما أظهره الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، إذ ارتبط نجاح الولايات المتحدة بالقدرة على وضع تصورات لمستقبل العراق بعد الإطاحة بحكم صدام حسين وحزب البعث، لكن هذا النجاح كان محدوداً ومقيداً بالقوى الأخرى التي استنفرت بسبب الغزو الأمريكي. وتكشف النتائج غير المقصودة وغير المحسوبة التي تترتب على استخدام القوة عن بعد آخر لحدود ما يمكن تحقيقه باستخدام القوة أو العنف. واستنفرت تصريحات ترامب بخصوص غزة ردود فعل داخل الولايات المتحدة أشارت إلى تضارب وتعارض بين الأهداف التي يسعى لتحقيقها تحت شعار "أمريكا أولاً". وأشار منتقدون من الحزبين الديمقراطي والجمهوري إلى أن خطة ترامب التي تقضي بسيطرة الولايات المتحدة على قطاع غزة وتولى إدارته، وضخ قدر هائل من الاستثمارات فيه لتحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، تتعارض مع تعهده بوقف الحرب وتتناقض مع سياسة سحب القوات الأمريكية من مناطق النزاع في العالم، فتحقيق هذا التصور يتطلب الدفع بعدد كبير من القوات الأمريكية للقطاع لتنفيذ ترحيل سكانه الفلسطينيين وقد تتطلب إعادة توطينهم في دول عربية أخرى أموالا طائلة يتكبدها دافع الضرائب الأمريكي، في حالة موافقة هذه الدول، لاسيما مصر والأردن على خطة التهجير.

ويشير المعارضون إلى أن تهجير ما يقرب من مليوني فلسطيني يسكنون قطاع غزة ويصرون على البقاء في وطنهم، لا يمكن أن يتم إلا قسراً ومن خلال حرب لن تقف حدودها عند قطاع غزة أو الضفة الغربية، الأمر الذي يعني استئناف الحرب من جديد وتقويض صفقة تبادل الأسرى ووقف الحرب بشكل مؤقت والتي ساد الاعتقاد بأن نتنياهو وافق عليها تجاوباً مع توجهات ترامب ورغبته في إنهاء الحرب، ويشيرون إلى أن تنفيذ هذه التصريحات يعني تقويض الاستقرار في جميع بلدان الشرق الأوسط. لم تلق هذه التصريحات قبولاً لدى أي طرف آخر سوى حكومة نتنياهو الذي لم يكن يتصور نفسه أن يصل ترامب إلى هذا الحد في العرض الذي قدمه، والذي اعتبره وزير المالية يتسلئيل سموتريتش أقوى رد على هجوم السابع من أكتوبر الذي شنته حماس على منطقة غلاف غزة. ولم تقف وعود ترامب عند غزة وإنما وعد بأن يدرس إمكانية ضم أجزاء من الضفة الغربية إلى إسرائيل، لتوسيع مساحتها، في انحياز واضح لسياسات الحكومة اليمينية المتشددة وللمستوطنين، ليواصل بذلك رؤيته لمستقبل الشرق الأوسط وإنهاء الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، من خلال تصفية الوجود الفلسطيني، عبر التهجير أو الإبادة إذا رفضوا الإغراءات للتخلي عن وطنهم، وتصفية قضيتهم من خلال التفاهم مع الحكومات الحليفة لواشنطن في المنطقة، على غرار ما حدث في عام 2019 و2020.

وبينما يسود الاعتقاد بعدم واقعية تلك الاقتراحات في ضوء المعارضة التي تبديها دول رئيسية حليفة في المنطقة وخارجها، استناداً إلى انتهاكات واضحة للقانون الدولي ولقرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية التي لا تجيز لقوة الاحتلال نقل سكان المناطق المحتلة أو نقل سكان إليها، تشكل مواقف حكومات عربية نقطة الضعف الرئيسية، إذ يوجد كثير من الثغرات التي يمكن أن يستغلها ترامب لتحقيق أهدافه وتصوراته. في مقدمة هذه الثغرات طبيعة نظم الحكم القائمة التي تتصرف مع شعوبها كما لو كانت وكيلة عن القوى الدولية للسيطرة على هذه الشعوب وتليين إرادتها، عبر سياسات اقتصادية وتنموية لا تستجيب للاحتياجات الأساسية لتلك الشعوب، والاعتماد المفرط على الأسواق الخارجية لتدبير احتياجات المواطنين، أو قمعهم إذا تطلب الأمر. ومن شأن الضغوط التي يمارسها ترامب على حكومات المنطقة للاستجابة لمقترحاته أن تعمق التناقضات داخل بلدان المنطقة الأمر الذي يؤدي إلى احتجاجات قد لا تقوى الحكومات على مواجهتها، أو تؤدي إلى توسيع الحرب إذا لجأت الولايات المتحدة وإسرائيل إلى استخدام القوة المسلحة لفرض واقع جديد على شعوب المنطقة.

قد تغري النتائج التي حققتها إسرائيل في حربها في غزة وفي لبنان وتغيير النظام في سوريا وإخراج إيران من الساحة وتهديدها بضربة عسكرية قد تستهدف برنامجها النووي، وسعيها لتصوير هذه النتائج على أنها انتصار يُمَكنها من تغيير خريطة الشرق الأوسط، لكن تقييماً دقيقاً للحرب وما أدت إليه يستند إلى الحقائق والوقائع ولا يستند إلى تصورات وخطابات دعائية، يظهر أن إسرائيل لم تحقق أيا من الأهداف التي سعت إلى تحقيقها من خلال هذه الحرب سواء في غزة أو في جنوب لبنان، كما أن الأمر ليس على هذا القدرة من السهولة في الضفة الغربية على الرغم من التصعيد العسكري هناك، وأنها لا تستطيع تحقيق أي من هذه الأهداف بدون تصور سياسي والسعي لحل المشكلة الفلسطينية من خلال اتفاق سلام مع الفلسطينيين بوصفهم شركاء، فتصفية شعب كامل لن يضمن لها الاستقرار في المنطقة حتى لو تمكنت من تحقيق هذا الهدف المستحيل عملياً، حتى بدعم رئيس غريب الأطوار مثل ترامب، الذي من المتوقع أن يغرق قريبا في مواجهة فوضى عارمة ستحدثها سياساته في بيته وفي الفناء الخلفي لبيته.

حتى الاحتلال الأمريكي المباشر لقطاع غزة لن يفعل شيئا سوى أنه سيجعل المواجهة مع القوات الأمريكية مباشرة، مع العلم أن للقوات الأمريكية سجلاً طويلاً من الخزي لم يقف عند حدود فيتنام، وإنما امتد إلى لبنان بعد الهجوم على قاعدة لمشاة البحرية الأمريكية في بيروت بعد حرب عام 1982، وفي العراق وسوريا، وفشلها في أفغانستان مرتين، مرة بعد انسحاب القوات السوفيتية في عام 1989 ومرة أخرى بعد غزوها في عام 2003. المطلوب أن يستعد الفلسطينيون والدول العربية لمواجهة ترامب والتصدي لسياساته تجاه المنطقة. ولهذا حديث آخر.
------------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

صباحيات | عندما تغيب دولة القانون والمواطنة .. حق ياسين والذهنية الطائفية البغيضة