* هدف خطة التهجير من غزة جعل إسرائيل تسيطر على كل خطوط الشحن والنقل البحري العالمي عبر ميناء بن جوريون
مع دخول الحرب بين حماس وإسرائيل عامها الثاني، اضطر نحو 85% من سكان غزة إلى ترك منازلهم. وأمرت الدولة العبرية المدنيين الفلسطينيين بالمغادرة إلى أقصى جنوب القطاع، ما أدى إلى تكدس أعداد كبيرة من الناس في مدينة رفح الحدودية مع مصر.
وكانت مصر والأردن ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس "أبو مازن" قد حذروا في وقت سابق من محاولات تهجير سكان غزة، فيما استبعدت إسرائيل والولايات المتحدة الفكرة في ذلك الوقت. لكن بعد سريان وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس في 19 يناير 2025، تحدث ترامب عن خطة لـ "تطهير" قطاع غزة، وكرر الفكرة عدة مرات، داعيا الفلسطينيين إلى الانتقال إلى أماكن أكثر أمانا مثل مصر أو الأردن.
من جهتها، دعت وزيرة الاستخبارات الإسرائيلية "جيلا جاملئيل" إلى "تشجيع إعادة التوطين الطوعي للفلسطينيين من غزة خارج قطاع غزة، لأسباب إنسانية". واقترح مسؤولون إسرائيليون سابقون في مقابلات تلفزيونية أن تقيم مصر مدن خيام كبيرة في صحراء سيناء، بتمويل دولي.
تاريخيا ، فإن أغلب سكان غزة هم من اللاجئين الفلسطينيين أو من نسل اللاجئين. وفي نظر الفلسطينيين، فإن أي محاولة لإخراجهم من غزة ستكون مماثلة للنكبة الفلسطينية التي عاشوها في عام 1948 عندما تأسست الدولة العبرية.
في حين رفض مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين في جنيف "فيليبو غراندي"، الأربعاء 26 يناير 2025، مقترح ترامب، مؤكداً أنه: "أصبح من المهم للغاية التأكيد على أنه لا ينبغي الترويج أو تشجيع أو فرض عملية إجلاء السكان هذه".
ويعتبر طرد المدنيين عملاً محظوراً بموجب اتفاقيات جنيف التي تشكل جوهر القانون الإنساني الدولي. وإذا أخذنا في الاعتبار أن الهدف الحقيقي وراء اقتراح ترامب الأخير هو تطهير غزة وتهجير سكانها إلى الأردن ومصر، فإنه يخفي في الواقع محاولة لإرضاء وخدمة اليمين المتطرف في إسرائيل من جهة، ونهب ثروات القطاع الفلسطيني، وخاصة المنطقة الشمالية، من جهة أخرى، تمهيداً لإنشاء "ميناء بن غوريون الإسرائيلي" بضم ميناء غزة إليه بعد تفريغه من سكانه، وربطه بالهند وأوروبا، وإفشال مشروع الحزام والطريق الصيني وإنشاء فرع آخر مواز لقناة السويس المصرية، وجعل إسرائيل تسيطر على كل خطوط الشحن والنقل البحري العالمي، عبر ميناء بن غوريون الإسرائيلي.
ولعل هذا هو السبب الرئيسي والحقيقي الذي جعل الصين تدرك، وبحكم قربي من الدوائر الصينية، أن هذا المشروع الإسرائيلي البديل بدعم سخي من الولايات المتحدة الأميركية خلال "قمة السبع"، وبمشاركة ومباركة الهند والدول الأوروبية الكبرى، كان أحد أبرز أسباب التوتر في العلاقات بين بكين وتل أبيب. وهذا ما أشرت إليه سابقاً في تحليلاتي الدولية.
وهكذا تحارب الصين بشراسة خطة تهجير الفلسطينيين، لإبطال (مشروع بن جوريون الإسرائيلي)، فهي أخطر خطة سرية تحاول الصين فضح أساليبها المقنعة تحت ذريعة الحرب أو خلق مكان آمن للعيش للمدنيين، حسب ادعاء الرئيس الأميركي "ترامب"، في حين أن الحقيقة الاستخباراتية الوحيدة في هذه اللعبة الاستراتيجية والدولية الخطيرة، حسب وعي مؤسسات الاستخبارات الصينية من خلال مجلس الدولة الصيني، المسؤول عن عمل وكالة الاستخبارات الصينية، هي هذه الخطة الخطيرة، بإشراف أميركي، للاستيلاء على ميناء غزة بالكامل وربطه بميناء بن جوريون الإسرائيلي، كبديل لمشروع الحزام والطريق في التجارة الدولية، كمشروع استخباراتي أميركي وإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط لمواجهة مشروع طريق الحرير الصيني والحد من نفوذ قناة السويس المصرية، كونها تربط الهند وأوروبا عبر السكك الحديدية والنقل البحري عبر الشرق الأوسط.
ولعل هذا هو السبب الرئيسي والحقيقي لقيامى بكتابة مقال تحليلى جاد ومهم نشر على موقع "الدبلوماسية الحديثة" للتحليل السياسى العالمى بتاريخ 18 ديسمبر 2023 بعنوان: " كيف ألغت الصين وروسيا مشروع إيميك وميناء بن جوريون ؟"، وذلك من خلال مناقشة: "كيف ألغت الصين وروسيا مشروع ميناء بن جوريون الإسرائيلي؟". لقد كان المقال التحليلى الهام، الذى بسببه أرسل لى الدبلوماسي الأمريكى "مايكل مانزو"، بصفته الرسمية كنائب القنصل العام فى السفارة الأمريكية بمقاطعة "جوانجدونج" جنوب الصين، رسالة بريد إلكترونى رسمية، بتاريخ 28 ديسمبر 2023، موجهة لى عن طريق البريد الإلكتروني الرسمى للقنصلية العامة الأمريكية بمقاطعة "جوانجدونج" الصينية، بإشراف وزارة الخارجية الأمريكية.
وهو البريد الإلكتروني الذى قمت بنشره علناً وترجمته، نظراً لإدراكى لأهميته وخطورته فى ذلك الوقت. حاول الدبلوماسي الأميركي مايكل مانزو أن يقدم نفسه لي، مع خدمته السابقة في السفارة الأميركية في القاهرة قبل عدة سنوات، ومع وجود عمليات إرهابية تستهدف قناة السويس المصرية، ومع وجود عناصر إرهابية في سيناء المصرية، وهي كلها عوامل تؤثر على حركة قناة السويس المصرية، وتتطلب ضرورة التفكير في طرق ملاحية بديلة، خوفاً من تلك الحركات الإرهابية التي تؤثر على عمل قناة السويس المصرية.
إن إدراك خطورة رسالة الدبلوماسي الأميركي "مايكل مانزو" التي جاءت مباشرة بعد قراءته لتحليلي المذكور آنفا، بأن السبب الحقيقي الوحيد لاندلاع حرب غزة هو سبب استخباراتي واقتصادي بحت، والسبب الحقيقي الوحيد أيضا، هو عدم إدانة الصين وحليفتها الوثيقة روسيا لحركة حماس دوليا وعربيا، وإبطال كل المحاولات الأميركية والإسرائيلية والغربية الداعمة لتصنيف حركة حماس كمنظمة إرهابية دولية. نظرا لإدراك الصين وروسيا الكامل بأن حركة حماس ستكون ورقة الضغط واللعبة المهمة معهما لعرقلة المشروع الإسرائيلي والأميركي كبديل للحزام والطريق الصيني وقناة السويس المصرية. وهذا هو الباب الخلفي الخطير وراء اندلاع حرب غزة في 6 أكتوبر 2023.
لذا جاءني الرد الرسمي عبر وزارة الخارجية الأميركية، وعبر القنصلية العامة الأميركية في مقاطعة قوانجدونج جنوب الصين، عبر دبلوماسيها "مايكل مانزو" في رسالة إلكترونية رسمية موجهة إلي، لمناقشة تحليلي الدولي المهم الذي نشرته في هذا الشأن في أميركا، والذي تم استضافتي دولياً لمناقشته معي عبر أحد البرامج الحوارية العالمية.
ومن جهة أخرى حاولت لفت انتباه الصينيين إلى خطورة هذه التحركات العسكرية الإسرائيلية في إزهاق أرواح مئات الآلاف من سكان قطاع غزة، ودفعهم إلى اليأس التام ومن ثم مساعدتهم على الفرار من جحيم الحرب في قطاع غزة إلى الدول المجاورة في مصر والأردن، تمهيداً لدمج ميناء غزة بشكل كامل مع ميناء بن جوريون الإسرائيلي، كبديل عن الحزام والطريق الصيني وقناة السويس المصرية. وعليه، فإن الصين تدرك خطورة التهجير القسري لأهالي غزة، واستيلاء إسرائيل على قطاع غزة، وخاصة ميناء غزة، تمهيداً لضمه إلى ميناء بن جوريون الإسرائيلي، لخلق طريق مواز للحزام والطريق الصيني، وضرب مشروع قناة السويس المصرية وكل المشاريع الصينية في المنطقة.
ولذلك جاء رفض الصين التام لكل محاولات تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة ليمنع إسرائيل من الاستيلاء الكامل على ميناء غزة على وجه الخصوص، ولعل هذا هو الجزء الأخطر والأخفى في القضية، وهو ما تناولته تحليليا وسياسيا من قبل، للفت أنظار قادة المنطقة ومؤسساتها السياسية والدبلوماسية والعسكرية إلى الوجه الآخر الخفي لحرب غزة وأسبابها، وهذا التصميم الصيني والروسي الواضح على عدم إدانة حركة حماس في الأمم المتحدة والمحافل الدولية، مع استضافة الصين لكل فصائل المقاومة الفلسطينية عدة مرات في العاصمة الصينية "بكين"، بما في ذلك قادة حركة الجهاد الإسلامي التي تصنفها الولايات المتحدة الأمريكية حتى اليوم كجماعة إرهابية دولية.
وتدرك الصين خطورة إفراغ قطاع غزة من سكانه، وخاصة خطر وقوع "ميناء غزة" بالكامل في أيدي الجيش الإسرائيلي، ولذلك تصدت كافة مؤسسات الدولة الصينية والمراكز الفكرية والإعلامية لخطة الرئيس الأميركي ترامب لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة.
وفي هذا الصدد اعتبرت مراكز الفكر الصينية المهتمة بشؤون الشرق الأوسط خطة التهجير جريمة ضد الإنسانية وجريمة حرب. وتنافست وسائل الإعلام والصحافة الصينية على إبطال الحلم الصهيوني بالاستيلاء على ميناء غزة من خلال تهجير وإفراغ سكانه، لتسهيل المشروع الإسرائيلي كبديل لمبادرة الحزام والطريق الصينية وقناة السويس المصرية، مع وضع عناوين وعناوين صينية، على لسان كافة مسؤوليها وأكاديمييها ووزارة الخارجية، مفادها: "إذا تم تهجير سكان قطاع غزة قسراً، في سياق نزاع مسلح، فهذه جريمة حرب".
ومع هذا التصميم الصيني على إدانة إسرائيل في كافة المحافل الدولية والقانونية، استناداً إلى نظام المحكمة الجنائية الدولية الذي يعتبر "ترحيل أو نقل السكان قسراً" جريمة ضد الإنسانية. وبما أن القادة لا يحتاجون إلى إصدار إعلان صريح بأن الناس يجب أن يغادروا حتى يتم اعتبار ذلك تهجيراً قسرياً، وخاصة إذا كانت الظروف المعيشية تجعل من المستحيل على الناس العيش، فلن يكون لديهم خيار آخر. كما سعت الصين إلى الحصول على إدانات ناجحة متعددة فيما يتعلق بالتهجير القسري للمدنيين الفلسطينيين، مستشهدة بأحكام إدانة دولية سابقة في هذا الصدد، بما في ذلك في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، والمحكمة الخاصة لسيراليون، والمحكمة الجنائية الدولية.
إن الخطر يكمن في استيلاء إسرائيل والحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل على ميناء غزة الفلسطيني لتسهيل خطتها لضمه إلى ميناء بن جوريون الإسرائيلي، وخطورة ذلك على الأمن القومي الصيني بشكل خاص، كما حللته دولياً وسياسياً، لذلك وضع الجانب الصيني عدة خطط بديلة وطويلة الأمد تحت رعايته وإشرافه لمنع وضمان عدم استيلاء إسرائيل على ميناء غزة بالكامل بعد طرد سكانه. ولهذا السبب يرى الجانب الصيني أهمية توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة تحت حكومة واحدة، كخطوة نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة، مع تحقيق توازن دقيق بين الدبلوماسية والتعاون الإقليمي واتخاذ تدابير ملموسة من قبل جميع الأطراف المعنية.
ومع التحذير الصيني من خطورة توسع المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتأكيد الصيني الكامل على أن هذه المستوطنات الإسرائيلية لا ينبغي أن تستفيد من أي من برامج التعاون الأوروبي والدولي في كافة المجالات، وهو بالمناسبة أمر مهم بالنسبة للإسرائيليين، الذين يحرصون كما نعلم جميعاً على أن تكون أوروبا داعمة لهم في المقام الأول أكثر من دعمها للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
لقد عارضت كافة الدوائر والمؤسسات ومراكز الفكر الصينية بشدة كل مشاريع تل أبيب المماثلة لطرد الفلسطينيين من قطاع غزة، وذلك لإدراك الصينيين لخطورة ذلك على أمنهم القومي، كما شرحت بالتفصيل.
وكان آخرها رفض الصين التام للمقترح الإسرائيلي بتهجير سكان قطاع غزة إلى "جزر إنسانية" أو إلى سيناء المصرية. وفي أواخر عام 2023، أي في الشهر الثالث من الحرب، حذر المسؤولون الصينيون من إمكانية تهجير سكان قطاع غزة الفلسطينيين إلى مصر، في ظل نزوح غالبيتهم وتغلغل القوات الإسرائيلية في القطاع المحاصر.
وأيدت الصين حينها بقوة موقف "فيليب لازاريني" المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وتحذيراته لإسرائيل بتمهيد الطريق للطرد الجماعي لسكان القطاع إلى مصر.
ومن الضروري الإشارة إلى أن الصينيين اعتمدوا على مقال "فيليب لازاريني" المنشور في صحيفة لوس أنجلوس تايمز، بشأن تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة وازدحام المدنيين الفلسطينيين النازحين من قطاع غزة، الذين فروا من القتال بشكل متزايد بالقرب من الحدود في الشمال ثم الجنوب. وأكد لازاريني في مقاله أن: "التطورات التي نشهدها تشير إلى محاولات نقل الفلسطينيين إلى مصر".
ومن أجل دحض الحلم الإسرائيلي بخلق طريق بديل للحزام والطريق الصيني ، عارضت الصين بشدة مشاريع تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر والأردن، واعتبرت الصين أن مقترح ترامب لتهجير الفلسطينيين يشجع على ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بإجبار الشعب الفلسطيني على ترك أرضه، وبالتالي تمهيد الطريق لإسرائيل للاستيلاء بشكل كامل على ميناء غزة وإدراجه ضمن المشروع الإسرائيلي والأميركي البديل لإنشاء ميناء بن جوريون الإسرائيلي، وجعل إسرائيل المتحكم الأساسي في طرق الملاحة البحرية العالمية والنقل البحري حول العالم، من خلال جعل ميناء بن جوريون الإسرائيلي المركز اللوجستي الرئيسي للملاحة والشحن العالمي.
وهذا هو الباب الخفي والحقيقي، الذي أدركته وتدركه كافة الدوائر الاستخباراتية الصينية من خلال جهاز "مجلس الدولة الصيني" الذي يعمل بمثابة جهاز الاستخبارات الصينية، وراء هذا الدعم الأميركي والغربي الكامل لخطة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة.
-------------------
بقلم : د.نادية حلمي* - مودرن ديبلوماسي
* خبير في السياسة الصينية والعلاقات الصينية الإسرائيلية والشؤون الآسيوية - باحث أول زائر في مركز دراسات الشرق الأوسط
ترجمة: أسماء زيدان
للاطلاع على المقال بالانجليزية يرجى الضغط هنا