05 - 05 - 2025

عوامل الإبداع الثقافي الفلسطيني

عوامل الإبداع الثقافي الفلسطيني

عشرات الأسماء اللامعة في عالم الثقافة والفكر ليس فقط بطول العالم العربي، ولكن في العالم الغربي أيضا حيث يوجد حضور قوي ومتميز للمثقف والأكاديمي الفلسطيني من طراز إدوارد سعيد ووائل حلاق وجوزيف مسعد وغيرهم. ولي تجربة شخصية حيث تتلمذت على شيخ الدراسات القرآنية في الغرب الراحل عيسى بلاطة المقدسي المسيحي الأرثوذكسي عاشق الإسلام المتبحر في آدابه وفلسفاته. أما عن السينما الفلسطينية فحدث ولا حرج حيث نجد أسماء أبهرت صناع السينما العالمية من أمثال رشيد مشهراوي وهاني أبو أسعد والمبدع إيليا سليمان. فإذا رجعنا الى العالم العربي، لا نستطيع إلا احترام القامات من أمثال غسان كنفاني ومحمود درويش وجبرا إبراهيم جبرا وسميح القاسم وأحمد صدقي الدجاني وعزمي بشارة. والقائمة تطول ويعجز العد والإحصاء.

 ليس في الأمر سر أو خريطة جينية موروثة يتميز بها الفلسطينيون. أي مجموعة بشرية تعرضت وتتعرض لما تعرض له هذا الشعب من معاناة، كانت حتما ستنتج هذا الكم والكيف المتميز من الإنتاج الثقافي. حقيقة هناك علاقة قوية قد لا تبدو لأول وهلة بين الإبداع الفني والثقافي من جهة وبين منسوب القهر والتهديد الذي يتعرض له أي شعب من الشعوب. منذ سنوات طوال كنت في محاضرة تحدثت فيها الدكتورة هبة رؤوف أستاذة العلوم السياسية عن الابداع الثقافي في ظل الرقابة السياسية. ضربت الدكتورة مثلا بالسينما الإيرانية حيث أشارت الى أن آليات الرقابة السياسية والدينية التي يمارسها نظام الملالي في إيران يمكن أن تصلح كعامل أساسي من بين عدة عوامل لتفسير تميز الأفلام الإيرانية عالميا وحصدها لعدة جوائز في مهرجانات دولية. 

هنا يواجه المبدع في التعامل مع القمع والرقابة خيارين لا ثالث لهما: إما الاستسلام ويشمل ذلك الإذعان. أو الالتفاف حول آليات القمع مما قد ينتج إبداعا يستعصي على الإمساك. وكان الخيار الثاني هو خيار أغلب صناع السينما الإيرانية. ولنا في أدب أمريكا اللاتينية مثلا أخر على القهر الذي يولد الإبداع. يحضرني هنا مثال ذكره الراحل المسيري عن انتفاضة 1987 في الضفة وغزة حيث منعت سلطات الاحتلال رفع العلم الفلسطيني، فما كان من المتظاهرين إلا أن استخدموا البطيخ فهو يحمل نفس ألوان العلم الفلسطيني ويمكن رفعه على العصي كشعار لفلسطين. هنا نجد إبداعا شعبيا ربما نتناوله في مقال أخر. ما نتحدث عنه هنا هو ابداع النخبة الفكرية الفلسطينية. 

لقد تعرض الشعب الفلسطيني الى عوامل القهر المختلفة من القهر السياسي والتاريخي مرورا بتهديد الهوية القومية والثقافية الى محاولة المثقفين الفلسطينيين في الشتات الاندماج في المحيط الثقافي العربي والعالمي والذي واجهته صعوبات وعوامل نفي عديدة استطاع المثقف الفلسطيني الالتفاف حولها والتغلب عليها بجدارة. الابداع المتولد من القهر قد يكون أحيانا أقوى وأعمق أثرا من الإبداع في ظل الرخاء والحرية. 

القهر التاريخي والسياسي 

يمكن بداية، رصد يقظة وتبلور الحس السياسي والوطني الفلسطيني في مرحلة ما قبل 1948. أعتقد ان بداية الإحساس بالخطر الصهيوني كانت مع صدور وعد بلفور عام 1917. قبل هذا العام ربما لم تتبلور هوية فلسطينية مستقلة في اطار الحدود السياسية لفلسطين اليوم. كانت هناك هوية جامعة لبلاد الشام في ظل الدولة العثمانية مع خصوصية واضحة "للإرث المقدسي" يتمثل في الاستمرارية لمجموعة عائلات مقدسية عريقة مثل عائلات الخالدي والحسيني والنشاشيبي والبديري وآل الجاعوني والعفيفي، وغيرهم من عائلات. 

في كتاب صدر حديثا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان " المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة (1908-1948)، يؤكد الكاتب ماهر الشريف، رئيس وحدة الأبحاث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، وهو أيضاً باحث مشارك في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في بيروت، "أن فلسطين عرفت مشروعاً فكرياً حداثياً، حمله مثقفون فلسطينيون، تأثروا بأفكار رواد النهضة العربية، واحتكوا بالثقافات الأوروبية الحديثة، إمّا عن طريق مدارس الإرساليات الأجنبية في فلسطين، وإمّا عن طريق الإقامة والدراسة في الجامعات الأوروبية، وإمّا عن طريق الترجمة، ووضعوا لأنفسهم هدفاً رئيسياً هو نقل مجتمعهم من التقليد إلى الحداثة، كي يتمكن من كسب صراع "تنازع البقاء" الذي فُرض عليه. إذاً يمكن الحديث عن حركة ثقافية ذات خصوصية فلسطينية في إطار الهوية الشامية في مرحلة ما قبل 1948. 

هذه النواة الصلبة من المثقفين كان لها ولا يزال أدوار عديدة تأثيراً وتأثراً في المحطات السياسية المختلفة التي مرت بها فلسطين منذ تدفق اولى الهجرات اليهودية في أواخر القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا. لقد تمحورت جهود المثقف الفلسطيني قبل عام 1917 في التحذير من بيع الأراضي الفلسطينية للمهاجرين اليهود. صدرت مجلة الكرمل عام 1908 ومنذ العدد الأول كانت تقوم بنشر مقالات عديدة عن هذا الموضوع محذرة حكومة الاتراك الاتحاديين من مغبة بيع أراضي السلطان المخلوع عبد الحميد إلى الوكالات الصهيونية. 

كانت قضية الأرض تحتل حيزا هاما في فكر المثقف الفلسطيني قبل 1948. بعد الاحتلال البريطاني عام 1920 أصبحت مسالة الهجرة والاقتصاد والانتداب من اهم المحاور التي تشغل المثقف الفلسطيني الى جانب الانخراط في قضايا النهضة العربية التي كانت أصداؤها تصل لفلسطين من القاهرة وبيروت ودمشق.   

وترصد الموسوعة الثقافية الفلسطينية التي تصدرها وزارة الثقافة الفلسطينية أسماء اكتر من ثلاثين مثقفا فلسطينيا كانوا نشطاء في مختلف الصحف والمجلات الصادرة في تلك الفترة هذا إذا استثنينا الزعماء الوطنيين من أمثال عز الدين القسام والمفتي أمين الحسيني. ورغم أن القسام لم يكن فلسطينيا إلا أن نضاله كله انصب على القضية الفلسطينية. بعد 1948 اكتسب الهم الثقافي الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها قضية على درجة من الأهمية في تشكيل الوعي الثقافي الفلسطيني ألا وهي قضية تهديد الهوية الفلسطينية بعد أن أصبحت هناك دولة تقتسم أرض فلسطين التاريخية مع الفلسطينيين بل ومؤيدة بقرار من الأمم المتحدة. 

تهديد الهوية 

 منذ 1948 اتخذ المثقفون الفلسطينيون أداتين للمقاومة غير المسلحة: الثقافة والمنفى. منذ 1948 وحتى الان شهدنا شعر محمود درويش وروايات جبرا إبراهيم جبرا وأميل حبيبي وأشعار فدوى طوقان وكاريكاتير ناجي العلي وأدب غسان كنفاني ونضال أحمد صدقي الدجاني عبر إعادة كتابة التاريخ الفلسطيني الحديث برؤية توحيدية بين التيار القومي والإسلامي وإلى آخر القائمة. منذ التسعينات، يجتهد وائل حلاق أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة محاولا استكمال عمل سلفه الفلسطيني إدوارد سعيد فيما يخص تحدي النموذج الاستشراقي السائد في الغرب الذي يعد انعكاس للمركزية الغربية. حلاق يسعى إلى ذلك من خلال إعادة تعريف علم أصول الفقه. وجوزيف مسعد الفلسطيني الأستاذ في نفس الجامعة يحاول من خلال كتبه - من أبرزها كتاب " اشتهاء العرب" – ان يعري النظرة الاستعلائية للشرق من قبل الدارسين الغربيين. ولا ننسى الناقد الأبرز للسلطة الأبوية في العالم العربي الدكتور هشام شرابي. الاستشراق والشعر والدراسات الإسلامية وفن الرواية والتاريخ من منظور قومي إسلامي كلها انعكاسات لإشكالية "الهوية" التي برزت لدى المثقف الفلسطيني بقوة بعد 1948 وترسخت بعد النكسة وضياع القدس بكامل شحنتها الرمزية الهائلة بعد عام 1967. 

الاندماج في المحيطين الثقافيين العربي والغربي

لم تكن معركة اندماج المثقف الفلسطيني في المحيط الثقافي العربي سهلة كما قد يظن. كانت التجاذبات والمصالح السياسية تلعب دورا مهما في استقطاب أو رفض المثقف الفلسطيني في هذا البلد العربي أو ذاك. الى أي فصيل ينتمي؟ وما رأيه في عملية السلام؟ وموقفه من الأنظمة العربية؟ كانت القضية أقل عسرا بالنسبة للذين اختاروا الغرب كميدان للعمل الثقافي. ولكن هنا أيضا كانت هناك تحديات مهمة. كان عليهم اثبات جدارتهم العلمية كعرب، ثم إثبات اعتدالهم السياسي كفلسطينيين، ثم أخيرا عبء المواجهة الفكرية والأكاديمية ضد زملائهم الصهاينة والمتعاطفين مع إسرائيل في وسط منحاز ضد الحقوق الفلسطينية أصلا. بيد أن هذه الأعباء الثلاثة قد أكسبت المثقف الفلسطيني في الغرب مراناً وثِقلاً بدلاً عن أن تؤدي إلى إسكاته أو تهميشه. والآن، وبعد أعوام كثيرة فإن ما نشاهده في الأوساط الأكاديمية الغربية، خاصة في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا من الاتجاهات والدراسات المعادية للصهيونية لهو أكبر دليل على نجاح المثقف الفلسطيني في الغرب من تأكيد هويته وتوصيل رسالته. 

لقد نجح المثقف الفلسطيني في الخارج فيما فشل فيه السياسي الفلسطيني في الخارج والداخل. وكان نجاحه محفزا بتحديات ثلاث: القهر السياسي وتهديد الهوية وصعوبات الاندماج في الوسط الثقافي العربي والغربي. وليس أبلغ ختام لهذا المقال من كلمات غسان كنفاني التي تبرز دور الأدب والثقافة في المقاومة وتأكيد الحقوق والدفاع عنها. 

يقول كنفاني مخاطبا المحتل الذي استولى على بيته: "جئت ألقي نظرة على بيتي، هذا المكان الذي تسكنه هو بيتي انا، ووجودك فيه مهزلة محزنة ستنتهي ذات يوم بقوة السلاح. تستطيع إن شئت أن تطلق عليَّ الرصاص في هذه اللحظة، ولكنه بيتي."
------------------------------
بقلم: محمد الأنصاري

مقالات اخرى للكاتب

الكتابة كفعل تطهري