منذ فجر التاريخ، كانت الأمم القوية هي التي تفرض احترامها وتحدد مصيرها، بينما الأمم الضعيفة تكون نهبًا للأطماع والاحتلال. واليوم، ونحن في القرن الحادي والعشرين، لا تزال أمتنا العربية والإسلامية تتجرع الهزائم، وتتوالى عليها المؤامرات، بينما شعوبها تعاني تحت وطأة الفقر والتبعية، وحكامها يتفننون في إطلاق البيانات العقيمة بدلًا من اتخاذ قرارات حاسمة توقف النزيف المستمر.
اليوم، ونحن نشاهد غزة تحترق، وأطفالها يُقتلون بدم بارد، ونساؤها يُهجرن قسرًا، وشبابها يُستهدفون بكل أنواع الأسلحة المحرمة، لا يسعنا إلا أن نتساءل: هل أصبح دمنا بلا ثمن؟ هل باتت الكرامة مجرد شعار يُرفع في المحافل الدولية ثم يُلقى في مزابل التاريخ؟ هل أصبحنا أمة بلا سيف؟ أم أننا ارتضينا أن نكون شهود زور على مذابح أشقائنا؟
غزة تحترق.. والأمة تراقب؟
ما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد "تصعيد عسكري" كما يروج الإعلام المضلل، بل هو إبادة جماعية موثقة بالصوت والصورة، تُرتكب في وضح النهار، بينما العالم كله يتظاهر بالعجز أو يدعي الحياد، وكأن قتل الأطفال وتدمير المنازل على رؤوس ساكنيها أمر يمكن السكوت عنه أو قبوله. العدو الصهيوني لا يخشى شيئًا، لأنه يعلم أن حكوماتنا مكبلة، وجيوشنا مشلولة، وشعوبنا تُقمع إذا حاولت حتى مجرد التعبير عن غضبها.
ولكن السؤال الحقيقي: هل كنا سنصل إلى هذه المرحلة لو كانت لدينا قوة رادعة؟ هل كان العدو سيتجرأ لو وجد أمامه أمة موحدة، تضع مصالحها القومية فوق كل اعتبار، وتعرف كيف ترد الصاع صاعين؟ لو كنا نملك الإرادة، لما اضطررنا إلى دفن أطفالنا كل يوم، ولما رأينا غزة تُحاصر ويُقطع عنها الغذاء والدواء، بينما نحن نكتفي بالشجب والاستنكار.
التخاذل العربي.. جريمة لا تُغتفر
إن ما يجري في فلسطين ليس مسؤولية المحتل فقط، بل هو مسؤولية الحكومات العربية التي تركت القضية تتآكل، حتى أصبحت فلسطين وحيدة في معركتها، تدافع عن شرف الأمة بصدور عارية، بينما ينشغل البعض بالاتفاقيات المشبوهة والتطبيع المخزي، وكأن القضية لم تعد تعنيهم.
كيف يمكن لدولة واحدة أن تتحكم في مصير أكثر من مليار ونصف مسلم، وهي كيان مصطنع قام على الإرهاب والقتل والاغتصاب؟ كيف لدولة صغيرة أن تفرض إرادتها على أمة تمتلك الثروات والجيوش والقوة البشرية الهائلة؟ الجواب بسيط: لأننا أمة تفرقت، وضُربت في مقتل بتجزئة قضاياها، وتحويلها إلى ملفات تفاوضية تُناقش على طاولات المفاوضات الفارغة، بدلاً من التعامل معها كقضية وجود ومصير.
المقاومة.. خيار العزة والكرامة
لقد أثبت التاريخ أن الاحتلال لا ينتهي بالمفاوضات، ولا يرحل بالمبادرات الدبلوماسية، بل لا يفهم إلا لغة القوة. والمقاومة الفلسطينية اليوم ليست خيارًا بل ضرورة، لأنها تدافع عن حق تاريخي، وعن أرض مقدسة، وعن شعب طُرد من أرضه وتمت تصفية حقوقه بشكل ممنهج. إن تجريم المقاومة ووصمها بالإرهاب هو جريمة بحد ذاته، وهو خضوع تام للإملاءات الغربية التي تُكيل بمكيالين؛ فبينما تُشرعن المقاومة في أوكرانيا وتُدعم بالسلاح، يُحاصر الفلسطينيون، ويُمنعون حتى من الدفاع عن أنفسهم!
من الذي منح الاحتلال حق قتل المدنيين؟ من الذي أباح له تدمير المستشفيات والمدارس والمساجد؟ ولماذا هذا الصمت المخزي من قِبل العالم الإسلامي؟ أليس الدفاع عن النفس حقًا مشروعًا وفق كل المواثيق الدولية؟ لماذا إذن يُمنح هذا الحق للبعض ويُحرم منه الفلسطينيون؟
الحل ليس في الشجب.. بل في الفعل
لقد أثبتت العقود الماضية أن لغة الاستنكار لم تُحرر شبراً من الأرض، ولم تُنقذ طفلاً من القصف، ولم تُعيد حقًا مغتصبًا. إن استمرار الاعتماد على القوى الخارجية لحل القضية الفلسطينية هو ضرب من السذاجة، فالعالم لا يحترم إلا القوي، ولا يعترف إلا بمن يفرض نفسه على أرض الواقع.
إذن، ما العمل؟
1. توحيد الصف العربي والإسلامي: يجب أن تنتهي مرحلة الانقسامات والمصالح الضيقة، وأن يُعاد ترتيب الأولويات بحيث تصبح فلسطين قضية كل عربي ومسلم، وليس مجرد شأن فلسطيني داخلي.
2. الدعم الحقيقي للمقاومة: ليس بالكلام ولا بالشعارات، بل بالمال والسلاح والمواقف السياسية الصارمة التي تُجبر الاحتلال على التراجع، وتجعل من أي عدوان عليه مكلفًا وثمنه باهظًا.
3. وقف التبعية للغرب: على الدول العربية أن تدرك أن مصالحها لن تتحقق بالارتهان للإملاءات الخارجية، بل باستقلال قراراتها، والاعتماد على ذاتها في بناء اقتصادها وقوتها العسكرية.
4. استخدام القوة الناعمة: الإعلام والثقافة والتعليم أدوات هامة في تشكيل وعي الشعوب، ويجب أن تُستخدم لكشف زيف الروايات الصهيونية، وتوعية الأجيال الجديدة بالقضية الفلسطينية باعتبارها قضية الأمة المركزية.
5. التحرك الشعبي: الشعوب العربية والإسلامية ليست عاجزة، وهي تملك قوة التأثير، ويجب أن تضغط بكل الوسائل المشروعة لإجبار حكوماتها على اتخاذ مواقف أكثر جرأة ووضوحًا تجاه دعم فلسطين.
التاريخ لن يرحم الصامتين
إننا اليوم أمام لحظة فارقة في تاريخ أمتنا، فإما أن نقف موقف الشرف والرجولة، وإما أن ندفن رؤوسنا في الرمال حتى يحين دورنا لنُذبح الواحد تلو الآخر. غزة اليوم تدافع عن كرامة الأمة، وتقدم دماء أبنائها قربانًا على مذبح الحرية، فهل سنخذلها كما خذلناها من قبل؟
إن الأعداء لا يخشوننا لأننا تخلينا عن دورنا الطبيعي كأمة صاحبة رسالة، ولأننا أصبحنا مفعولًا به بدلاً من أن نكون فاعلين. ولكن التاريخ لا يرحم، وسيأتي يوم تُكتب فيه شهادة كل من صمت وخذل وباع، فماذا سيكون موقفنا حينها؟
غزة لن تموت، وفلسطين لن تُمحى، والمقاومة ستنتصر.. ولكن العار سيلاحق من تخلّى وباع وخان!
-----------------------------
بقلم: محمد عبدالمجيد هندي
* قيادي عمالي مستقل، مؤسس ورئيس المجلس القومي للعمال والفلاحين تحت التأسيس