لكأنى بترامب رجلًا مفتونًا بالعصف الذهنى وإلقاء الخواطر والأفكار كيفما اتفق، ولم تكن تبدو لنا منه هذه المَلَكة فى ولايته الأولى، لكنه نبغ بها مُذ وقعت المقتلة الفلسطينية وسالت بالدم الشاشات والأخبار، فإنه قد أراد مشكورًا حسم الداء وقطع أسباب النزاع، فطفق ومن قبل أن يُنتخب رئيسًا يلقى علينا عصفًا ذهنيًّا متتابعًا، فهو حينًا يسأل متعجبًا: كيف يمكن توسعة بقعة كيان الاحتلال؟! وهو حينًا يبدى إعجابًا كإعجاب سمسار أراضٍ بجمال إطلالة غزة على البحر ويأسف لما نزل بها من دمار! وحينًا يشير هو أو بعض بطانته ومقربيه بإجلاء أهل غزة منها إلى ماليزيا أو إندونيسيا أو ألبانيا! وفى حين أخرى يعرض على ملك الأردن ورئيس مصر أن يقبلوا تهجير أهل غزة وتوطينهم بسيناء والأردن لزمان يطول أو يقصر! وإنى وقد رأيت ولع الرجل بالعصف الذهنى فى خاصة شأننا وهو قضية فلسطين فقد حفزنى ذلك (وأنا من أهل هذه القضية) أن ألقى عصفًا ذهنيًّا أعارض به عصفه الذهنى، وأدعوه أن يتخير منه ما يراه موافقًا للقوم الذين يهمه أمرهم، وأن يحملهم عليه حملًا ويلزمهم به إلزامًا.
وقبل أن نعرض العصف الذهنى فإننا نصوِّب خطأ ونقرر حقًّا، فأما الخطأ الذى نصوبه فقد اقترفه ترامب ابتداءً حين جعل شعب فلسطين وأرض فلسطين مدارًا للعصف الذهنى ومحلًّا للآراء وملعبًا للأهواء، فهذا من الظلم الفاحش؛ لأنهم هم أهل الدار وملاك الأرض، فمقامهم بأرضهم ليس يضير أحدًا، ولا يؤذى أحدًا، ولا ينبغى أن يكون محل تفاوض من أحد، إنهم مواطنون فى وطنهم وكفى، إذًا فسيكون الفلسطينى فى غزة والضفة والتغريبة وأراضى ٤٨ المحتلة بمعزل عن كل عصف ذهنى نعرضه فى هذه المقالة، وأما الحق الذى نقرره ابتداءً فهو أن فلسطين من نهرها إلى بحرها هى لكل ساكنها من أى عرق أو جنس أو ملة كانوا، فأما من دخل فلسطين من يهود بعد ١٨٤٠م حين اضطلعت بريطانيا بهجرة اليهود إلى فلسطين فإنما دخلها لغير السكنى بل لمآرب أخرى، فعلى هؤلاء الغرباء المُستجلَبين ما بعد ١٨٤٠م سيكون مدار عصفنا الذهنى فى هذه المقالة لعلنا أن نهتدى فى أمرهم إلى رأى شافٍ يحسم الداء، وينكشف به البلاء، وإننا نعرض على سيد البيت الأبيض أمورًا:
قد بينت حرب غزة أن مقام الإسرائيليين بفلسطين هو مقام خوف وفزع محاط بالأعداء المتربصين، فحرصًا منا على حياة الإسرائيليين نرى أنه من الآمن لهم والأحفظ لحياتهم أن يهاجروا من فلسطين ويخلوا ديارها لأهلها، وأن تستقبلهم الدولة الأمريكية فتنزلهم بولاية تكون مشرقة الشمس دافئة الهواء، وأن يُعطَوا الجنسية الأمريكية فور نزولهم الأرض الأمريكية، وأن تقام لهم مملكة تعدل كل مساحة فلسطين، وأن يقام لهم بها هيكل عظيم مؤثث بالذهب ومزخرف بالجواهر الكريمة، وليس أوفق لهم فى رأينا من ولاية فلوريدا لحسن طقسها واعتداله طول العام، وليكونوا فى جوار منتجعات جولف ترامب، فهذا آمن وأوسع وأخصب لهم، وأحسب أن بضعة ملايين يهودى لن ينقصوا أرضًا مليونية المساحة، ولن تثقل مؤونتهم على بلد يأوى إليه أكثر من ربع مليار نفس، ولن يضيق بهم الصدر الصهيومسيحى الرحيب. فهذا عرض يتمناه أكثر الناس ولا يدركه إلا أقلهم، فهنيئًا لهم إن قبلوه، وهنيئًا للدولة الترامبية إن قبلتهم، وهنيئًا لنا تلك الهجرة الميمونة إن تمت (وربنا يهنى سعيد بسعيدة).
فأما إن لم يرضهم هذا فإنى أعرض عليهم عصفًا ذهنيًّا آخر، فما القول فى أن يهاجر اليهود من فلسطين إلى أوطانهم الأم التى منها جاؤوا؟! فإنه قد كذب من زعم أنهم "شعب بلا وطن"! بل هم "شعوب لها أوطان"، فمن كان من أهل روسيا رجع إلى روسيا، ومن كان أجداده بولنديون رجع إلى بولندا، ومن كان من يهود الفلاشا رجع إلى منازل أهله فى الحبشة على أن تتكفل الوكالة اليهودية والمنظمات الصهيونية بنفقات إرجاعهم كما تكفلت من قبل بتهجيرهم إلى فلسطين، وأن تتكفل بريطانيا والولايات المتحدة بإعطاء نفقة عام لكل مهاجر ليتدبر بها أمره، وأن يدفع ثلاثتهم تعويضات مجزية لكل فلسطينى متضرر بالقتل أو الإصابة أو الأسر أو التهجير أو الهدم أو أية خسارة نجمت عن الوجود الإسرائيلى بفلسطين، وأن يكون ما تركوه من أموال ثابتة أو منقولة بفلسطين قسمًا من هذا التعويض.
فإن قيل: ولماذا تلزم الوكالة اليهودية والمنظمات الصهيونية وبريطانيا والولايات المتحدة تلك النفقات؟! فأقول: لأنهم من قبل قد تكفلوا باستجلاب اليهود وتوطينهم بفلسطين وإمدادهم بالسلاح والذخائر والأموال التى نالوا بها من كل فلسطينى، فهم كما تضامنوا فى الجُرم فليتضامنوا فى العِوض، فليس أقل من تحمل تكلفة إرجاع المُستجلَبين، ودفع تعويضات مجزية للفلسطينى المتضرر.
فمن لم يُرضه هذا العرض ولا سابِقه فليرضَ بأن تتولى (الأونروا) إنشاء مخيمات إقامة إنسانية لليهود الخارجين من فلسطين ببعض البلدان غير الأوسطية ولا العربية التى تقبل إيواءهم بها على أن تتولى (الأونروا) بعد أن يتبدل عملها من رعاية اللاجئين الفلسطينيين إلى رعاية الجاليات اليهودية - تتولى إغاثتهم وتشغيلهم فى مخيماتهم الجديدة إلى حين تآلفهم والشعوب التى نزلوا بها.
وإن لسيد البيت الأبيض ترامب أن يتخير أى عرض من هذه العروض هو الأوفق، ثم يلزم به الإسرائيليين وهو يستطيع إلزامهم، وله كذلك أن يجمع هذه العروض جميعًا، فيأخذ طائفة من الإسرائيليين محترفى التقنية فينشىء لهم محمية يهودية كمحميات الهنود الحمر قرب (وادى السيليكون) بكاليفورنيا فُتفاد أمريكا من علمهم، وتُرضَى يهوديتهم بوطن وهيكل، وأن يرد طائفة أخرى منهم إلى بلدانهم الأم، أما الطائفة الثالثة قليلة الجدوى الاقتصادية فتبنى لهم (الأونروا) مخيمات بالبلاد التى تقبل نزولهم بها.
فإذا أُخرِج هؤلاء من الأراضى التى احتلوها بفلسطين رجع الفلسطينيون من تغريبتهم ومخيماتهم إلى أرضهم وديارهم وقراهم، ويكون ما يتركه الإسرائيلى من ديار مستجدة أو مزارع مستغلة أو ثروات مستثمرة إنما هى بعض تعويض للفلسطينى عما لحقه من أذى وضرر، فحينئذ تنحسم المظلمة الفلسطينية التى أعيت الشرق والغرب، وقيل الحمد لله رب العالمين.
-------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]