للأسف لم أتمكن من مشاهدة الفيلم الفلسطيني "من المسافة صفر"، للمخرج رشيد مشهراوي، حينما عُرض ضمن فعاليات الدورة 45 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في نوفمبر الماضي، والذي عقد تحت شعار اسم دورة "التضامن مع غزة". شاهدت الفيلم بالأمس عند عرضه في نقابة الصحفيين وبحضور النقيب، خالد البلشي وأعضاء من مجلس النقابة في احتفالية مهداة من اتحاد المرأة الفلسطينية، وشعرت بتقصير لأنني لم أسع من قبل لمشاهدة الفيلم الذي يستحق منا جميعا ما هو أكثر من عروض تنظم هنا أو هناك لعدة أسباب فنية وسياسية، وقبل هذه وتلك لأسباب إنسانية وحضارية.
من الناحية الحضارية والإنسانية والسياسية أيضاً، فإن الفيلم الذي رشحته وزارة الثقافة الفلسطينية لتمثيل فلسطين، رسمياً للمشاركة في مسابقة جوائز "الأوسكار" في دورتها السابعة والتسعين لعام 2025، في مبادرة تأتي في سياق النضال السياسي والدبلوماسي الدولي لتأكيد الحقوق التاريخية والثابتة للشعب الفلسطيني، هو أبلغ وأوضح رد على الدعاية الصهيونية التي اختزلت قطاع غزة والشعب الفلسطيني في القطاع وخارجه في حركة حماس، الأمر الذي تؤكده للأسف بعض ردود الفعل في الشارع العربي التي تخدم هذه الدعاية دون قصد، وربما بسبب تحيزات أيديولوجية أو سياسية، باختزالها النضال الفلسطيني في الكفاح المسلح الذي جعلت حماس عنواناً له.
رسائل من فلسطيني غزة إلى العالم
من الناحية الفنية، فإن الفيلم الذي ألف بين مجموعة من الأفلام القصيرة من خلال مبادرة أطلقها مشهراوي، تمثل استجابة من السينما الفلسطينية للحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل بدعم أمريكي مفضوح ودعم دولي مستتر على الشعب الفلسطيني في القطاع، متذرعة بالهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر 2023. فالمشروع الذي يجمع 22 مخرجاً من غزة، قدموا 22 فيلما توثيقياً يكشف عن جانب آخر من جوانب الصمود الفلسطيني يقدم للعالم شخصيات فلسطينية تعيش في ظل حرب الإبادة والتهجير التي يتعرضون لها في غزة.
فالفيلم لم يقدم فقط رؤية سينمائية عن الحياة اليومية للناس في ظل الحرب الوحشية، التي توصف بأنها "حرب إبادة" يمكن للمشاهد من خلالها رؤية الأمل في أقسى لحظات اليأس، والبحث عن الجمال وسط أبشع مشاهد للتدمير وللمجازر البشرية، وانتصار الإرادة في ظروف إنسانية تصفها التقارير الدولية، بما يكشف عن قدرة هذا الشعب عن استجماع قوته مرة أخرى بقليل من الجهد وكثير من الإرادة، والبحث عن البهجة والفرح والغناء والموسيقى التي تتجاور مع طنين الطائرات المسيرة المصاحب لمعظم الأفلام التي تضمنها الفيلم عوضاً عن الموسيقى التصويرية، والتي يسميها الفلسطينيون "الزنانة"، وكيف يعيش شعب نازح في مخيمات لم يسلم بعضها من الاستهداف بالطائرات والصواريخ، بعد تدمير المنازل على رؤوس أصحابها، كيف يتعلم ويدبر احتياجاته في ظل حصار جرى إحكامه في إطار حرب التجويع التي مارستها إسرائيل ضده.
يقدم الفيلم لوحات متتابعة ترسم صورة للحياة في ظل الحرب والتهجير والملاحقة المستمرة للمدنيين الفلسطينيين الذين اختارت إسرائيل فهو يكشف لجمهور المشاهدين جانبا آخر غير مرئي في زخم التقارير الإخبارية المصورة والمتلاحقة لمشاهد الحرب والدمار وللمقاتلين الفلسطينيين والاشتباكات المسلحة، ليعطي معنى جديدا لمصطلح "المسافة صفر"، الذي سكته فصائل المقاومة الفلسطينية كمصطلح عسكري يشير إلى نمط من الاشتباك المسلح والمباشر مع العدو، كرسالة تحد تكشف نقطة الضعف الرئيسية الملازمة لكل جيش محتل ومغتصب لحقوق شعب آخر وأرضه، وتبرز نقطة التفوق الرئيسية التي يتمتع بها مقاتلون يدافعون عن هذا الشعب المحتل وحقوقه. فالمسافة صفر التي يقدمها الفيلم هي ترجمة لعبارة “ground zero” الإنجليزية التي ظهرت بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 التي استهدفت نيويورك وواشنطن، لتشير إلى إعادة بناء ما دمرته الهجمات، وفي هذا رسالة واضحة للعالم تؤكد انتصار إرادة البناء على بربرية الهدم.
سينما جديدة لحياة جديدة
الأفلام التي نسجها هذا الفيلم في عمل واحد استطاع مخرجه أن يكتب السيناريو بلغة سينمائية رفيعة تكشف مناطق الإبداع والرقي والتحضر، ليضع السينما الفلسطينية في مصاف السينما العالمية من حيث اللغة السينمائية ومن حيث القدرة على الإبداع في ظل الحرب والتهجير والقصف المتواصل، ويكشف أن إعادة بناء حياة البشر لا ينتظر حتى تتوقف الحرب، وإنما هي إرادة لتحدي الحرب وقسوتها والظروف شديدة القسوة التي يعيشها الفلسطينيون، وانتصار إرادة الحياة على الموت الذي يلاحقهم في كل لحظة. لم يتضمن الفيلم مشهدا واحدا من مشاهد الاشتباكات المسلحة بين المقاومة وجنود الاحتلال، ولم يقدم الكثير من المشاهد للقصف بالصواريخ والقنابل للجيش وقدم القليل من المشاهد للآثار المترتبة من تدمير وقتل، لكنه زاخر بالمشاهد التي تؤكد قدرة الفلسطينيين على الصمود والتحدي وتبرز جوانب العزة والشموخ في حياة الناس العاديين الطيبين، الذي عبر عنه البطل الرئيس لفيلم المدرس وهو أحد الأفلام القصيرة التي اعتمد عليها الفيلم، حين رد على أحد تلاميذه الذي سأله إذا كان يريد مساعدة منه فأجابه "لا كل شيء تمام" رغم أن الجمهور شهد رحلة معاناته التي لم ينجز فيها شيء بدءاً بشحن هاتفه المحمول أو حصوله على مياه لأسرته أو خبز أو مساعدات.
في الفيلم القصير الذي عنوانه "إعادة تدوير النفايات"، يقدم لوحة يقف أمامها المشاهد كثيراً كيف تدير المرأة الفلسطينية المياه الشحيحة لتنجز بها أشياء كثيرا بدءا من الشرب وغسل الآنية والطهو والاستحمام والغسيل وري الزرع والتخلص من الفضلات في المرحاض، لتفتح أعيننا على آفاق أوسع على أن امتلاك القدرة على تدبير الحياة في ظل هذه الظروف شديدة القسوة، وتقدم دون وعظ رسائل لحسن تدبير الموارد واستغلالها وعدم إهدارها، وتكشف عن قدرات جبارة تبعث الخوف والرهبة في نفوس العدو وآخرين يخشون ما يمتلكه هؤلاء الناس الذي عاشوا في ظروف أكثر قسوة من الظروف التي عاشها جميع ضحايا "محرقة النازي" من يهود وشعوب أخرى وخصوم لهذا الوحش الذي يتكاتف العالم ضده كي لا تتكرر المأساة. وزخرت الأفلام التي تضمنها الفيلم بمشاهد للأسواق وصور لحياة الناس في مدن وبلدات غزة التي تعرضت مناطق منها لتدمير كامل، وكيف يتنقل الناس من مكان لآخر.
لم يخل الفيلم من مشاهد إنسانية مؤثرة لأحياء ومصابين يتم انتشالهم من تحت الأنقاض والبكاء على أعزاء قضوا نحبهم تحتها، ولم يقدم مشاهد لقتلى وجنازات سوى القليل جداً من المشاهد، لكنه زخر بالمشاهد التي تظهر كيف ينتصر الشعب على الموت بإرادة الحياة، مثل الشاب الذي يروي لنا كيف حول الكفن إلى غطاء يقيه من البرد وفرشة ينام عليها، وكيف أنه أقنع مسؤول الإغاثة بأنه طالما أن هذا الكفن سيصرف له لحظة استشهاده، فليمنحه فرصة الاستفادة منه وهو لا يزال على قيد الحياة. والفنان الكوميدي الذي كان يقدم عروضا لسكان المخيمات واستعاده واحد من هذه العروض التي ترسم البسمة على الوجوه لسكان منطقة تعرضت للقصف قبل وصوله ونجده يقدم واحدا من عروضه لعدد قليل ممن تبقوا معظمهم أطفال، أو فنانة تشكيلية عادت إلى أستوديو جرى تدميره لتقيم معرضاً فنياً، وكيف أن البحر وفر رئة للتنفس والحياة في مخيمات النازحين. وربما كانت المخرجة والراوية التي قدمت فيلما بعنوان تاكسي يصور كيف حول رجلا عربة يجرها حمار لوسيلة انتقال بين الأحياء والمناطق والمخيمات إلى أن استهدفتها واحدة من الغارات الوحشية.
صُنَّاع البهجة والأمل
ربما كان بحث الراوية عمن يقدم الأغاني والموسيقى ويصنع البهجة وسط كل هذه الأجواء، وهي تتحدث عن الأثار العميقة التي تركتها الحرب في نفوس الفلسطينيين والأطفال على وجه الخصوص التي تتطلب علاجاً نفسيا طويلا بعد أن تنتهي الحرب، هي أعلى اللحظات دراما في الفيلم، ما أجمل الصوت الذي قدمته وما أجمل الأغاني والموسيقى وما أجمل الطفل الذي حول آنية فارغة من البلاستيك والمعادن إلى وحدة إيقاع متكاملة يوزع ضرباته عليها في إيقاعات منتظمة ومعبرة. والفيلم الذي قدم مدرسة تعلم الأطفال، وكيف يواصل الأطفال الفلسطينيون تعليمهم في ظل هذه الظروف الصعبة، والفيلم الذي عبر عن شهادات للطفلة فرح وشقيقتها مريم، وحديثهما عن المعاناة والرفض لهذا الوضع المأساوي. كل هذا حول المسافة صفر من مصطلح عسكري، إلى "صناعة للأمل"، فجميع الأبطال وهم شخصيات حقيقية تعيش في غزة هم صناع للنصر والأمل، هم الدليل الحي على أننا أمام شعب جدير بالانتصار.
هذا الفيلم لا يستحق فقط عشرات الجوائز الدولية، وإنما جائزته الأساسية أن يشاهده أكبر عدد ممكن من الجمهور، إنه فيلم جدير بالعرض في دور السينما حول العالم وعلى شاشات الفضائيات كي يشاهده كل الناس ليتعلموا منه كيف تنتصر إرادة الحياة في مواجهة بربرية العدو وتواطؤ الحكومات، التي تظن أن هذا العدو يخوض حرباً للدفاع عن الحضارة، وهي أكذوبة لا يصدقها أحد في العالم رغم الصمت على الجريمة التي ترتكب أمام أعينه يومياً. إنه ليس صمتا مطلقا، فهناك أصوات استطاعت أن تفرض تقديم القتلة للعدالة كي تستقيم الحياة، لكنها لا تملك القوة لتحقيقها، وحدهم الفلسطينيون يملكون هذه الإرادة والقوة في وجه عدوهم، الذي تجرد من أي قيمة إنسانية وأعاد العالم إلى عصور البربرية والتوحش.
الرسالة التي حملها الفيلم هي رسالة سلام في وجه كل القبح الذي يجلبه العنف وتجلبه الحرب.
----------------------------
بقلم: أشرف راضي