05 - 05 - 2025

ما بعد حرب غزة .. قوة حماس وضعفها

ما بعد حرب غزة .. قوة حماس وضعفها

في بداية حرب غزة، قال موسى أبو مرزوق القيادي في حركة حماس تعليقاً على شبكة الأنفاق التي حفرتها حماس تحت قطاع غزة، والتي لا تتوافر معلومات دقيقة لأي طرف خارج حماس عنها، ولماذا لم تستخدم هذه الأنفاق لحماية المدنيين الفلسطينيين في القطاع من العدوان الإسرائيلي، إن الأنفاق لحماية فصائل المقاتلين وأسلحتهم أما حماية المدنيين فهي مسؤولية المجتمع الدولي والاحتلال الإسرائيلي. 

نسي أبو مرزوق أن يضيف في تصريحه أهمية أخرى للأنفاق وهي مهمة إخفاء الإسرائيليين الذي خطفتهم حماس والفصائل الأخرى في السابع من أكتوبر لتأمينهم بوصفهم ورقة المساومة الرابحة مع إسرائيل. أيضا نسي أبو مرزوق حقيقتين، الأولى أنه لا توجد قوات إسرائيلية تحتل القطاع منذ انسحاب إسرائيل من جانب واحد أواخر عام 2005، والحقيقة الثانية أن حركة حماس هي السلطة التي تدير القطاع منذ أوائل عام 2006، بعد فوزها في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وأنها تنفرد بإدارة القطاع منذ انقلابها على السلطة في عام 2007، وبالتالي فهي تتولى المسؤولية الأساسية عن حمايةالمدنيين. 

الأدق هو أن قطاع غزة يعاني من حصار بري وبحري يفرضه الجيش الإسرائيلي بقوة السلاح، وتعاني من قيود أخرى تفرضها إسرائيل على عدد العمال المسموح لهم بالعمل في المستوطنات والبلدات القريبة من القطاع من خلال تحكمها المطلق في المعابر بموجب اتفاقية أوسلو. لكن من الجدير ملاحظة ان هذا الحصار لم يمنع حماس وفصائل المقاومة الأخرى من تطوير قدراتها العسكرية وتحسينها تدريب مقاتليها ليكونوا أفضل استعدادا من الناحية القتالية، وهو أمر تأكد في الحرب الأخيرة وفي المواجهات العسكرية التي سبقتها منذ سيطرة حماس على القطاع، كما تستطيع اختراق القطاع معلوماتيا وأمنيا لتنفيذ عمليات اغتيال تستهدف فيها مقاتلين أو قدرات عسكرية أو مقار قيادة لحماس وفصائل المقاومة الأخرى في الفترات الفاصلة بين الحروب والمواجهات العسكرية الواسعة النطاق. وإلى جانب ذلك، هناك مفاوضات غير مباشرة مستمرة بين إسرائيل وقادة حماس عبر وسطاء لترتيب هدنات بين الجانبين. 

بناء القدرة وإحكام السيطرة

تحسنت الأوضاع في غزة كثيراً، نتيجة التفاهمات واتفاقيات الهدنة، واستطاعت حماس الاستفادة من هذه الفترات لبناء قدراتها العسكرية وأيضا لبناء شبكة واسعة من الأنفاق التي مثلت شرايين مهمة للتجارة والتبادل والانتقال عبر حدود القطاع مع مصر وأيضاً لتوفير ملاذ آمن للمقاتلين والسلاح. كما استفادت حماس من جهود إعادة إعمار القطاع بعد انتهاء المواجهات العسكرية بمساعدات سخية من مانحين دوليين من دول الخليج، لاسيما قطر، ومن مصر ودول أوروبية، لإعادة بناء قدراتها العسكرية وتطويرها، بمساعدة خبراء من إيران وتوثيق علاقاتها بفصائل المقاومة الأخرى، لاسيما في لبنان وسوريا. وتمكنت من خلال سيطرتها على السلطة في القطاع وعبر أجهزتها الأمنية من إحكام سيطرتها على المدنيين في القطاع وعلى فصائل المقاومة المسلحة الأخرى، من خلال التنسيق معها عبر غرفة العمليات المشتركة، وعملت على توسيع نفوذها وانتشارها في مدن في الضفة الغربية مستفيدة من شعبيتها كحركة للمقاومة والمزايدة على السلطة الفلسطينية بزعامة فتح والرئيس محمود عباس المكبلة بالاتفاقيات الأمنية مع إسرائيل.

هذا الوضع، الذي تمتعت به حماس خصوصاً في قطاع غزة، الذي لا تواجه فيه أي تحدي لسلطتها، أوجد ثغرات استعلتها إسرائيل بشكل جيد للإضرار بالقضية الفلسطينية وتعطيل مفاوضات السلام وتغيير الوضع القائم في الضفة الغربية. النقطة الأكثر سلبية لهذا الوضع أنها مكَّنت إسرائيل من وضع حربها ضد الشعب الفلسطيني في سياق الحرب العالمية على الإرهاب الذي ألصق بالتنظيمات التي تتبنى أيديولوجية دينية، وحولت الحرب مع الفلسطينيين إلى حرب مع حماس والفصائل المتحالفة معها وزادت من ضغوطها، في الوقت نفسه، على السلطة الفلسطينية. 

الجانب السلبي الآخر والمتوقع أن يكون له تأثير كبير على المفاوضات المتعلقة بمستقبل إدارة القطاع بعد انتهاء الحرب، هو فشل جهود الوسطاء لتحقيق مصالحة بين حماس وفتح، وآخرها الاجتماع الذي عقد بين الفصائل الفلسطينية في العاصمة الصينية بكين أواخر يوليو الماضي، والذي صدرت عنه وثيقة "إعلان بكين"، التي اعتبرها المراقبون إنجازاً تاريخياً ينهي الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني، والذي يستهدف وضع أساس للترتيبات المستقبلية في غزة، لكن التطورات اللاحقة مضت في اتجاه مضاد، على النحو الذي رأيناه في الشهور التالية، وتشير تحركات حماس بعد التوصل لصفقة لتبادل الأسرى مع إسرائيل أدت إلى وقف للقتال، أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي أنه مؤقت وأنه يمكن لإسرائيل استئناف القتال مرة أخرى، في أي مرحلة من مراحل الاتفاق، إذا رأت انتهاكاً من قبل حماس أو رأت ضرورة أمنية لذلك.

وفيما يرى كثير من المراقبين، ومن بينهم مراقبون إسرائيليون، أن حماس خرجت منتصرة من الحرب التي استمرت لأكثر من 15 شهراً، في ضوء استعراض القوة لمقاتلي حماس وأفراد وزارة الداخلية في الحركة في المنطقة التي انسحبت منها القوات الإسرائيلية في القطاع وفي مناطق أخرى وأثناء تسليم المخطوفات الثلاث المتفق على إطلاق سراحهم بموجب اتفاق الذي بدأ تنفيذه يوم الأحد الماضي. الاستنتاج الذي خلص إليه المراقبون وأيضاً أجهزة المعلومات الإسرائيلية أن حماس استطاعت الاحتفاظ بقدر كبير من قواتها العسكرية البشرية والتسليحية، وأنها لا تزال القوة الرئيسية التي لا يمكن لأحد تحديها في قطاع غزة. وعوضت إسرائيل فشلها الواضح في غزة بتصعيد الإجراءات الأمنية والمداهمات في الضفة الغربية، فيما أدت ضغوطها على السلطة الفلسطينية في رام الله إلى إضعاف شعبيتها على نحو أكبر. كما عوضته باستغلال الظروف المواتية في سوريا لتوسيع المساحة التي تحتلها هناك وبشن هجمات دقيقة دمرت خلالها القدرات العسكرية السورية، بزعم حرمان التنظيمات الجهادية المتطرفة منها، وبالتأكيد أن التطورات في سوريا، لاسيما بعد تفكيك الجيش السوري وتسريح أفراده وانسحاب إيران والقوات الروسية وحزب الله من هناك تعمل في صالح خطة إسرائيل لتفكيك محور المقاومة الذي ترعاه إيران، رغم عجزها عن التعامل مع الجبهة اليمنية. 

مظاهر الفشل الإسرائيلي

كشف هجوم "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، جوانب ضعف رئيسية في إسرائيل، سيجري كشفها مع الانتهاء من التحقيق الرسمي الذي أمر رئيس الدولة بالشروع فيه بعد اتفاق الهدنة الأخير وفي أعقاب إعلان رئيس أركان الجيش استقالته، كما كشفت الحرب التي شنتها على غزة على مدى 15 شهراً الحدود القصوى لما يمكن للقوات الإسرائيلية أن تفعله والثمن الفادح والباهظ الذي دفعته لتحقيق ما تمكنت من تحقيقه بالوسائل العسكرية، وأوضح اتفاق الهدنة الأول الذي أبرم في نوفمبر الماضي، أنه لا يوجد حل عسكري للوضع في غزة، وأن الحل يجب أن يكون سياسياً، وهذا ما أكده اتفاق الهدنة الأخير الذي يعتقد كثير من المراقبين أنه تم بضغوط من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الجانبين، ووافق عليه نتنياهو مقابل انتزاع موافقة أمريكية على خطته في الضفة الغربية. 

المظهر الآخر للفشل الإسرائيلي ليس عسكرياً هذه المرة، وإنما فشل سياسي واستراتيجي بالأساس. فقد أوضحت المواجهات التي خاضتها إسرائيل على جبهتيها الشمالية والجنوبية أنها لا تمتلك تصوراً لليوم التالي لوقف القتال. فهي تواجه مأزقاً في لبنان على الرغم من التوصل لاتفاق لوقف القتال هناك بدعم أمريكي واضح، لكنها لم تتمكن من القضاء على القدرة العسكرية لحزب الله الذي لا يزال يمتلك قدرات قادرة على الرد على الوجود العسكري الإسرائيلي في جنوب لبنان والذي من المستبعد أن تنجح التطورات السياسية في لبنان وانتخاب رئيس جديد في نزع أسلحته أو لجمه إذا قرر استئناف المواجهة مع إسرائيل، ومن المرجح أنه سيظل لاعباً أساسياً على الساحة السياسية والعسكرية اللبنانية. كذلك، لا تستطيع إسرائيل تقديم تصور لمستقبل قطاع غزة لا تكون حماس لاعباً أساسياً فيه.

أيضاً، فشلت إسرائيل في العثور على مكان احتجاز المخطوفين، وهي خطوة أساسية لأي عمل عسكري لتحريرهم، ولم تتمكن بأي وسيلة من الوسائل من الحصول على معلومات بخصوص ذلك، ولن تتمكن من معرفة أي تفاصيل عن شبكة الأنفاق التي تسيطر عليها حماس تمكنها من تدميرها، وأن ما اكتشفه جنودها ودفعت فيه القوات الإسرائيلية ثمنا باهظاً، ليس سوى قمة الجبل، وبات واضحاً للفرقاء في إسرائيل أنه لا يمكن حل المشكلة مع الفلسطينيين عسكرياً، وأن على حكومة إسرائيل أن تتلمس وسائل أخرى في ظل البيئة الداخلية والإقليمية والدولية المعقدة. والهزيمة الأساسية التي منيت بها إسرائيل تتمثل في فشلها في تحقيق أي من الهدفين المعلنين للحرب، وهما: تحرير الرهائن والقضاء على حماس، وفشلها هذا يجعلها أكثر إصراراً على إبقاء خيار العودة للحرب في غزة مفتوحاً، لكن قادتها يدركون جيداً أن العودة للحرب مرهونة بموافقة الرئيس الأمريكي ترامب.

الأنفاق: كلمة السر ومفتاح الأزمة في غزة

يمكن القول إن شبكة الأنفاق تحت الأرض في غزة هي الورقة الاستراتيجية الرابحة في يد حماس والتي لا يمكن تصور أن توافق بسبب ذلك على أي ترتيب للمستقبل في القطاع قد يعرض هذه الورقة للخطر، وهو وضع يزيد من صعوبة مهمة الأطراف الدولية المعنية بمستقبل الوضع في غزة بعد انتهاء هذه الحرب وتوقف القتال بشكل دائم، إلى أن تحدث مستجدات تدفع في اتجاه مواجهة عسكرية جديدة بين إسرائيل وحماس في ظل التصعيد في الضفة الغربية. كذلك، من المستبعد أن توافق حماس على أي ترتيب يقيد قدرتها على إعادة بناء صفوفها وتطوير قدراتها القتالية والعسكرية، ولا تزال أمامها فرص كبيرة لتحقيق ذلك على الرغم من انسحاب إيران من الساحة السورية واللبنانية، بالاعتماد على قدراتها الذاتية في تدبير ما تحتاجه من أسلحة وذخائر. ولا تتوافر لدى إسرائيل أي معلومات أيضاً عن شبكات تسليح حماس وكيف تعمل، فتلجأ إلى توزيع الاتهامات، خصوصاً ضد الدول التي لا توافق على ممارساتها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني وضد دول المنطقة.

السؤال الآن يتعلق بقدرة الأطراف الدولية المعنية بمستقبل الوضع في غزة، التي بات من الواضح وفق التقارير الدولية، لاسيما تقارير وكالات الأمم المتحدة، أنها تواجه أكبر كارثة إنسانية، الأمر الذي سيزيد من الضغوط التي يمارسها الرأي العام على حكومات الدول الغربية، وربما الإقليمية لتغيير موقفها وسياساتها تجاه إسرائيل، لكن كثيراً من الحكومات الغربية تخشى أن يؤدي ذلك إلى دفع إسرائيل لأن تتبنى سياسات أكثر وحشية ضد الفلسطينيين، لكن من الواضح أن استمرار الصمت على جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة والجرائم التي لا تزال ترتكبها في الضفة الغربية لا يكبح العدوان المستمر على الشعب الفلسطيني. في ظل وضع كهذا سيكون من الصعب، كما أشرت في مقالات سابقة التوصل إلى تصور حول مستقبل الوضع في غزة بمعزل عن تصور كيف سيتم التعامل مع القضية الفلسطينية ككل في المستقبل، وعليه فمن المرجح أن يستمر الوضع في غزة على ما هو عليه مع التركيز على جهود الإغاثة للتخفيف من وطأة الوضع على المدنيين، خصوصاً في ظل الغموض الذي يكتنف السياسات التي سينتهجها ترامب تجاه المنطقة.

من الواضح أن اهتمام الرئيس الأمريكي سينصرف إلى إحراز تقدم ما في تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وبين إسرائيل، وأنه سيستخدم في هذا كل ما لديه من مهارات "فن الصفقة"، لكن عليه التفكير في المقابل الذي سيعطيه للرياض في مقابل إتمام هذه الصفقة بالكيفية نفسها التي اتم بها الاتفاقيات الإبراهيمية، وهنا يتعين التفكير في الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين لمواجهة التدهور في البيئة الإقليمية وما يشكله ذلك من تحديات ومخاطر تهدد مستقبلهم، هذا المهمة قد لا يقوى عليها الفلسطينيون بمفردهم وإنما تحتاج لتضافر جهود إقليمية ودولية. إنهم يواجهون الآن مهمة تحويل الانتصار التكتيكي الذي أحرزوه في الحرب إلى انتصار سياسي وبوسائل سياسية ودبلوماسية، والتوصل إلى تسوية تحول دون تصفية القضية وتحقق لإسرائيل هدف الهيمنة على المنطقة.
--------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

رسائل انتخابات الصحفيين وأولويات مجلس النقابة في الفترة القادمة